No Script

حوار / الكاتب المَغربي تحدّث عن «نزوات غويّا»

التوراني لـ «الراي»: لهذا ارتأيتُ عنواناً مضلِّلاً لمجموعتي القصصية!

تصغير
تكبير

الحاضر الأكبر في أي كتابة هو الكاتب نفسه مهما عمد إلى تضليل القارئ  وإيهامه عكس ذلك 

لا يمكن في نظري  الانتصار على المعاناة  أو الألم إلا بالسخرية  

أصعب مرحلة لديّ  في كتابة قصة... نهايتها

في سرديّةٍ تتنافس فيها الفنتازيا مع الواقع إلا أنهما يتكاملان عند تجسيد المعاناة، تنوّعتْ حكايا الظلم والتنكيل والاستبداد وتفاوتتْ تراجيديتها إلى حد السوريالية، فلامستْ المجموعة القصصية التي صدرتْ حديثاً للكاتب والتشكيلي المغربي عبدالرحيم التوراني بعضاً من ملامح وظروف إحدى حقبات تاريخ المغرب.
... «نزوات غويا» هو العنوان الجامع لقصص كان نُشر معظمها فرادى في ملاحق ومجلات ثقافية، من قبيل مجلة «الآداب» البيروتية، ومجلة «الهلال» المصرية، وملحق «المدى» العراقية، أو في مواقع إلكترونية، مثل «الحوار المتمدن» وموقع «ثقافات».
«الراي» التقتْ التوراني خلال زيارته للعاصمة اللبنانية أخيراً، وكان لها معه الحوار الآتي حول «نزوات غويا» الذي احتلّ المرتبة الأولى بين الكتب الأكثر مبيعاً في الدورة 61 من «معرض بيروت العربي والدولي للكتاب» (أقيمت بين 30 نوفمبر و13 ديسمبر الماضي) عن فئة الأدب...

• العنوان الذي يحمله الكتاب هو عنوان إحدى القصص التي يتضمّنها... ما سبب اختياره دون سواه؟
- إنني أختلف مع القول المأثور «الكتاب يُقرأ من عنوانه». مثلما تَأكد خطأ القول «العقل السليم في الجسم السليم». فالعنوان يجب أن يكون جزءاً من العمل الإبداعي، لذلك ارتأيتُ أن يكون العنوان مضللاً، بعيداً عن الإيضاح.
ومن هذا المنطلق اهتديتُ إلى أن إحدى القصص تحمل عنواناً دالاً ورمزياً، وهي قصة «نزوات فرنسيسكو غويا»، فأصبح هذا العنوان أكبر من القصة التي اقتبس من عنوانها. لأن لوحات «نزوات» للرسام العالمي فرنسيسكو دي غويا (عاش ما بين القرنين 18 و19)، لم تتم الإشارة إليها إلا بشكل عابر في نهاية القصة. بينما أردتُ أن أقول باختياري لهذا العنوان، أن انتقاد الفساد والظلم والرشوة والقمع وخنْق الحريات، التي عبّر عنها الفنان الاسباني غويا في مجموعة من لوحاته التي اشتهرتْ باسم «النزوات»، هو نفس الهدف والغاية التي توخّيتُها من كتابة هذه القصص، التي يتطرّق جلها إلى ما يسمى في الأدبيات السياسية بالمغرب بـ «سنوات الجمر والرصاص». فجاء عنوان المجموعة أشمل ويحتوي كل نص من نصوص المجموعة القصصية.
• يُعرف عن غويا أنه صوّر عبر «نزواته» تاريخ إسبانيا في أدقّ مراحلها، هل يصوّر التوراني الواقع العربي في أدقّ مراحله؟
- لا أعتقد أن الفنان العالمي غويا عمد في لوحاته، بما فيها «النزوات»، إلى تصوير التاريخ الاسباني، فلا أحد بإمكانه بمفرده، مهما كان حجم عطائه الإبداعي، أن يَزْعم أنه عبّر عن مرحلة تاريخية ما بشكلٍ دقيق. فالفنانون التشكيليون أو القصاصون والروائيون وغيرهم من المبدعين، لا يمكن إدخالهم في زمرة المؤرّخين، حتى لو لامسوا في إنتاجاتهم الإبداعية بعض الوقائع أو الأحداث التاريخية. ولا يمكن لي أن أزعم أنني في محاولاتي القصصية صوّرتُ الواقع المَغربي أو العربي في أدقّ مراحله، وليس بإمكاني تحقيق ذلك ولو سعيتُ ومهما سعيتُ. ليس من باب التواضع أو الاستصغار.
• أي عبدالرحيم التوراني كان الحاضر الأكبر في هذا العمل... الكاتب أم الناقد أم الفنان التشكيلي؟
- سأجيبك من دون تردد أن الحاضر الأكبر في أي كتابة هو الكاتب نفسه، مهما عمد إلى تضليل القارئ وإيهامه عكس ذلك، إذ أننا بصدد عمل كتابي وأمام فعل الكتابة، ولسنا أمام قماش اللوحة والألوان مثلاً. لكن بما أن الكاتب يصعب عليه أن ينسلخ من جلده وما يختزنه من أفكار وصور ورؤى، فإن حضور الرسام أثناء الكتابة لا يمكن إقصاؤه.
• تحضر الفنتازيا في القصص كعنصر إبداعي يضع الإصبع على الجرح... هل أردتَ بذلك تجسيد حقيقة «سوريالية» المعاناة التي ينضح بها الكتاب؟
- لا يمكن في نظري الانتصار على المعاناة، أو الألم، إلا بالسخرية منه. وسلاحي الذي أشهره في وجه القمع والقهر والقساوة الإنسانية، هو السخرية، التي تجعلك تضحك في موقفٍ لا يستدعي الضحك، مثل طفل بريء لا يعي ما حواليه. لكنها سخرية سوداء، سرعان ما ينطفئ مرحها ويخبو ليفصح عن مرارةٍ دامعة. وتبقى الفنتازيا هي البوابة التي تقبل جواز سفر من غير تأشيرة، وتساعد على تجاوز الحدود، كل الحدود، للتعبير عن كل المواضيع والقضايا والأفكار، بما فيها ذات الحساسيات القصوى، والمكوِّنة لأضلاع «الثالوث المحرم» في ثقافتنا الشرقية، أي السياسة والدين والجنس. هي فنتازيا بعيدة عن الغموض المنفّر أو الذي يجعل القارئ يَشْمئزّ ولا ينهي القراءة، بل على العكس من ذلك، تشدّه وتلحّ عليه للوصول إلى معرفة نهاية الأحداث، وتثير دهشته.
• الواضح في القصص مهما قلنا إنها مستقاة من الواقع او تعبير عنه، استخدام الخيال للسخرية والخروج من ألم الحقائق، وترْك القارئ في حيرة النهايات المفتوحة، لماذا؟
- سأبوح لك بشيء، إن أصعب مرحلة لديّ في كتابة قصة هو نهايتها. غالباً عندما أحس بأن عليّ التخلص من القصة وإنهاؤها، أجدني في حالة حيرة تامة. ماذا سأفعل بمجرى الأحداث وسياقاتها. وأجدني غالباً، وضعتُ نهاية لم يكن القارئ يتوقّعها، فعلى امتداد زمن القصة وتَطوُّرها أحاول أن آخذ يد القارئ باطمئنان وأسير به في ممرات ودروب هو يعرف نهايتها، إلى أن أفاجئه بوصوله إلى مكان غير متوقَّع ولا يوجد ضمن خرائطه التي يختزنها.
• تسيطر فكرة الموت على غالبية قصصك... هل يشغلك هذا الموضوع، وهل هو تعبير عن خوف داخلي أم تعبير عن موت الأفكار والتجارب الحياتية؟
- الخوف من الموت غريزة لدى كل البشر، حتى المغامرون في نظري، والذين يعمدون إلى وضع حدّ لأرواحهم بشكل إرادي، هم أكبر الخوافين. غريزة البقاء أساسية عند الناس.
ما زلتُ أتذكر الكوابيس المرعبة التي انتابتْني وأنا طفل صغير جداً، عندما توفي أحد أبناء جيراننا، وهو طفل من عمري، كنتُ ألعب معه الكرة ونلهو، وذات صباح أفقنا على خبر موته الفجائي. وقفتُ بعيداً عن باب مسكنه الذي تجمّعتْ النسوة حوله ورأيتهن يرفعن نعشه عالياً ويزغردن. كنتُ أبكي مرتعباً، ولم أفهم دوافعهن لإطلاق زغاريد صادحة، هي مقرونة بالفرح. لم أسأل عن سرّها، كنتُ خائفاً حتى من طرح السؤال. لاحقاً سأعرف أن الصبيان من الذكور، حين يموتون تطلق النساء أثناء تشييعهم زغاريد زفافهم لحور العين في الجنة، فهم بلا ذنوب والجنة مأواهم من غير حساب. كان هذا هو أول مواجهة مباشرة لي مع الموت، ستليها مواجهة موت عمي في حريق بمرأبه بعدما رمى بعقب سيجارة على أرضية الكراج المبللة بزيت البنزين، وستموت أختي بعد ولادتها بساعات، وسيموت والدي وعمري دون الثانية عشرة، وبعد أسبوع على وفاته ستتبعه جدّتي نتيجة حزنها وكمدها على رحيله.
كان الموت قريباً مني. نحن نسمع في نشرات الأخبار يومياً عن موت ومقتل المئات في الحروب والحوادث، لكننا لا نتفاعل مع تلك الأخبار البعيدة، إلا إذا كان الميت من أقربائنا ومعارفنا، اي حين يمحو الموت المسافات ويصل إلينا.
• الى أي مدى استطاعت القصة القصيرة في المغرب الصمود في زمن الانتقال الى الرواية، حتى من قبل الشعراء المعروفين، ولماذا اخترتَ التعبير بالقصة القصيرة والقصيرة جداً؟
- القصة القصيرة في المغرب لها أمجادها، ولها فرسانها الكبار إذا صح التعبير. جل كبار الكتّاب المغاربة هم من رواد القصة القصيرة وليسوا من الشعراء أو الروائيين. كبار زعمائنا الوطنيين كتبوا القصة القصيرة، وفي مقدمهم المفكر والزعيم محمد علال الفاسي، والرئيس عبدالله إبراهيم والمفكر عبدالله العروي. بالنسبة لي لم أختر القصة القصيرة، أو القصة القصيرة جداً، لأنني لا أتردد في التعبير بأي وسيلة متاحة أمامي، ومنها التعبير التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي والشعر.
• ذات يوم قال الأديب المصري طه حسين «إن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ»... وكتابك يصدر من بيروت عن دار رياض الريس للكتب والنشر، هل ما زالت بيروت محافظةً برأيك على هذا الدور الأدبي الريادي في ما يخص طباعة الأعمال العربية؟
ـ بيروت كانت وستظل وستبقى منارة للهوية العربية وللإبداع العربي. ودورها الريادي في الفكر والثقافة العربية لن يخبو وينطفئ. إن النشر في المنابر الثقافية اللبنانية الرائدة، أو في دور النشر اللبنانية الكبيرة يبقى مفخرةً للكاتب، وفرصة للانتشار. وبالرغم من تطور الطباعة والنشر في عدد من البلاد العربية، فبالنسبة لي أن أنشر في بيروت، وفي دار كبيرة من حجم «رياض الريس» فخر واعتزاز كبيريْن، ومشاركتي في الدورة الأخيرة لمعرض بيروت للكتاب العربي والدولي، حدَثٌ لا يمكنني نسيانه، وسيظل خالداً في ذاكرتي، وخصوصاً أن «نزوات غويا» حظي بالمرتبة الأولى لمبيعات المعرض، للكتب في صنف الأدب.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي