قراءة / خلال ديوان شعري اختلط فيه العام بالخاص
حسني التهامي يؤدي... «رقصة القرابين الأخيرة»
- يكثف الشاعر رؤاه وفق مضامين متحركة في أكثر من اتجاه
ثمة رؤى مضمرة لا تشاهدها العين، غير أنها جلية للقلب، تلك التي يبثها الشاعر حسني التهامي في قصائده، المغسولة بالماء والبرد، المأخوذة من ضمائر إنسانية لا يأتيها الليل إلا مضاء بإكليل القمر وحبات النجوم المنتشرة في صور ذهنية شتى.
وأنت- حينما تأخذك قصيدة التهامي في عوالمها المشتعلة بالحلم- ستجد قدرة ضعيفة على الانتقال من لحظة إلى أخرى من دون أن تمنح نفسك عظيم التأمل، في مفردات تتناثر في النص كأنها الدر، الذي يبعث في النفس الفرحة، رغم ما تتضمنه القصيدة من مشاعر متداخلة بين الحزن والفرح، إلا أن الفرحة لأنك تواجه بعينيك وذهنك مفردات متحركة في أكثر من اتجاه، وذات توهج حسي مبهر.
والتهامي في ديوانه «رقصة القرابين الأخيرة»- الصادر عن مركز الحضارة العربية في القاهرة- يفيض حلما ويتوجس إحساسا وهو يقطع خطوات سريعا نحو أهداف إنسانية شتى، مستلهما في استهلال ديوانه قول رولان بارت: «الكتابة ليست سوى البقايا الهزيلة للأشياء الرائعة والجميلة في دواخلنا»... فيما اختلط العام بالخاص في نصوص الديوان اختلاطا يمكن استلهامه عبر سياقات شعرية محكمة، وذات إيقاعات زمنية مختلفة.
وقسم الشاعر قصائد ديوانه إلى 3 مجموعات كل مجموعة أخذت اسمك منفردا شاملا مثل «عصافير نزقة»، و«أقدامي التي جفت أوراقها»، و«بأنامل من حرير»، ليقول في نصه «بالونات ملونة»:
عاليا عاليا
تحملني بالونة
إلى سماء طفولتي
...
أحلامنا بالونات ملونة
تتطاوح
في الهواء
وفي هذا السياق نفسه تتواصل نصوص الديوان معبرة عن حالات استثنائية، ذات رؤى متحركة في أكثر من اتجاه، ورغم عدم انفصالها عن الواقع... إلا أنها منصرفة لاقتا جهة الخيال، الذي يتتبعه الشاعر ويحاول استلهام حضوره من حياته ومن حياة المحيطين به، أو من خلال الحكايات والأحداث والمشاهد التي تتكاثر بشدة في واقعنا المعاش، ليقول في نص «كعكة اليتيم»:
النخلة التي يهزها
أطفال الملاجئ في العيد
تمطر وجعا
...
أيها العيد السعيد
لا تشح بوجهك عنا
هب لنا ولو نصف ابتسامة
ومن خلال هذه النصوص القصيرة، قال الشاعر ما يصعب قوله في قصائد طويلة، وهو قول يقترب كثيرا من الوصف الضمني للحياة التي نحن بصددها، وبالتالي جاءت المشاعر مفعمة بالقلق، الذي يحرك المشاعر ويجعلها تتجه ناحية الواقع المرير، فيما ينتقل الشاعر من أجواء القلق متجها إلى أجواء حالمة مستعينا بمفردات حيوية، تتكثف فيها المضامين بأكبر قدر من المشاعر ليقول في نص «صباح شتائي»:
تحت زخات المطر
في الحديقة
تشدني تراتيل وردة
...
يا لصباحي الشتائي
الشجرة
سماء داكنة
وسرعان ما تعود المشاعر المتأملة القلقة إلى الظهور في متن الديوان في تفاعل حسي مع الواقع، مع اقتراب واضح من الرؤى التي تكشف الحقائق، وتضع الأصابع على الجرح، ليقول في نص «النوارس»:
النوارس تصحب الريح
حتى آخر الشط
كلاهما يسمع البحر أوجاعه
...
في غياب النوارس
البحر يلفظ موجه
ويظل عاصب الجبين
هكذا بدت المفردات التي استلهمها الشاعر من الواقع والخيال معا، متفاعلة مع الكثير من التداعيات الشعرية، تلك التي تتكثف فيها المشاهد وفق مضامين متنوعة، وعبر مسارات هادئة، وفي الوقت نفسه تسير بسرعة تحتاج ذهنا متقدا من أجل رصدها، ليقول في نص «قلم»
بين سباب وإبهام
تباريح ألم
قلم
...
مخاض الميادين
سيمفونية الخلاص
صباح غاف على أعتاب ليل
فيما تظل النصوص مفعمة بحركتها الدؤوبة تلك التي تتنافس فيما بينها في الوصول إلى مشاعر المتلقي بقدر كبير من المصداقية، ليقول الشاعر في اختصار مكثف يكشف رؤيته:
في اغتراباتي
أوراق ذاهلة تتفيأ حزنها
بقايا وطن
...
بعدما تهدأ الريح...
أرتق بعضا
من بقاياي.
واختتم الشاعر ديوانه بقصائد قصار «الومضة»، تلك التي تبعث في النفس الدهشة، من خلال المفارقة، والاقتراب أكثر من روح الحياة، وذلك وفق مضامين حسية منتقاة من معان شتى تزخر بها الحياة:»فوق لظى الجمرات/ إبريق الشاي/ ينتشي نسائم العائلة»، وفي مشهد آخر: «في دهشة ماكرة/ يتساءل القمر في حلكة الليل/ متى ينهي الليل ثورته».
ويزدحم الديوان بذكريات الطفولة، تلك التي اتخذها الشاعر مسارا للتوقف عند الحاضر في جردة حساب، يريد من خلالها أن يقيّم واقعه، إلا أنه لا يجد بدا من أن يدخل بعمق في هذه الذكريات التي- رغم مرورها الزمني البعيد- إلا أنها لا تزال هي حياته المتبقية التي يتنفس فيها الحياة، ويهرب في مناطقها العامرة بالألفة والحب، من وطأة الزمن الذي تتصاعد في ألحانه موسيقى الألم المفرط في الغياب والاغتراب.