خواطر تقرع الأجراس
استبداد النسيان وثورة الذاكرة
يا نعمة النسيان! إنه عالم من الذهول والشرود، قد يخفي اضطراباً نفسياً مرَضياً، أو حالة تخبُّط تنشأ تحت وطأة الحياة اليومية، وبخاصة في مجتمعاتنا العربية التي تصيب العقل بالشلل، وتترك النفس هائمة، حائرة، قلقة في وديان النسيان.
في علم النفس أن للنسيان وظيفة بيولوجية مهمة في إراحة الدماغ مما يزدحم في تلافيف خلاياه من هموم ومشاكل يومية، أوتجارب، ومعارف مكنوزة في أعماق الذاكرة. ولو كانت الذاكرة تتذكر حرفياً كل شيء الدماغ. فوظيفة النسيان هنا مثل وظيفة الأحلام: فهما مثل صمّام حلّة الطبخ بالضغط البخاري، ينفِّس ضغطَها ويُصَرِّفه تصريف الرياح حتى يحدث الانفجار.
في الجانب الثقافي يقول توفيق الحكيم: «الثقافة هي ما ننساه.. لا ما نحفظه». فالمبدع لا يجتر ما تثقف عليه وحفظه من معلومات بل يتمثلها تمثُّلاً خلاّقاً. ولو كان العقل يتذكر حرفياً كل المعارف المحفوظة لكان نسخة صمّاء عن أجهزة الكمبيوتر، أو نسخة أخرى من الكتاب المحفوظ.
في الجانب العاطفي والاجتماعي والسياسي، تقول أحلام مستغانمي للمرأة في كتابها«نسيان»: أحِبّيه كما لم تحب امرأة، وانسِيه كما ينسى الرجال! هذا طعنة للرجال. فليس كل الرجال سواء، كما ليس كل النساء سواء. وبسخرية مُرّة تقول: «لا أرى لكم من خلاص إلا في النسيان. فلا تشقوا بذاكرتكم. انشقُّوا عن أحزابكم وطوائفكم وجنسياتكم ومكاسبكم، وانخرطوا في حزب جميعنا متساوون فيه أمام... الفقدان».
وتُدرِج أحلام مستغانمي النسيان في فصول الحب الأربعة كرباعية أبدية: «فصل اللقاء والدهشة. فصل الغيرة واللهفة. فصل لوعة الفراق. فصل روعة النسيان».
وفي تراثنا، تطالعك كتب ومقالات مذهلة عن النسيان، وعن الذاكرة التي هي من موضوعات علم النفس الجريبي: مثل مقال في فقدان الذاكرة لأبي جعفر الجزّار. والرسالة الشافية في أدوية النسيان لاسحق بن حُنين. والمقال والرسالة في مصطلحات تراثنا عبارة عن كتاب مكثّف.
وفي الجانب الشخصي، تتصارع في نفسي أحياناً، كما في نفوس كثير من الناس والكُتّاب، نشاطات الذاكرة بين الاتّقاد والخمود، وفعاليات النسيان بين الفقدان المؤقت والشرود! وتمر بي أحيانا حالات مضحكة، يتندّر بها عليَّ الآخرون؛ فأتقبلها ضاحكاً تارة، ومقهقهاً تارة أخرى:
أبحث عن المفتاح أو القلم أو النظارة...وأنفعل غاضباً، من فوضى تعمَّ البيت، فتضحك زوجتي وأولادي: النظارة على عينيك! والقلم مشكول على جيب سترتك! فانسحبُ منسلّاً، صامتاً... مدحوراً.
لكن منَّ الله عليَّ بنعمة الذاكرة التصويرية لِما اختزنْتُه من معارف ومعلومات ثقافية عبر العمر. وهو ما أفردتُ له هنا، منذ مدة، مقالةً خاصة بعنوان «الذاكرة االتصويرية». فالكتاب الذي أودُّ الرجوع إليه عندما أكتب أو أتأمل أو (أجتر) معلومات من صفحاته، فإنني أراها ماثلة أمام عينيّ، وقد تجسّدت ورقاً سوِيّاً؛ فأمدّ يدي إليه وأفتح على موقع... فهنا، في حضرة صاحبة الجلالة: الكتابة، فإن ذاكرتي تأبى النسيان، وتمارس ثورة على استبداده!
ضغوطات حوادث الليل والنهار وما فيهما من شؤون وشجون تسبب نسيان المرء أموراً حياتية عابرة أو مهمة أحياناً. لكنها من الناحية الإيجابية، عندما تُهزَم هذه الضغوط تتوقد شعلةُ الذاكرة التصويرية، فلولاها لانكسرت الأقلام، وجفّت الصُّحف !
ويا ويلتنا من يوم نُرَدّ فيه إلى أرذل العمر... حين لا نعلم من بعد علمٍ شيئاً.
* شاعر وناقد سوري