غزة... تلك المدينة الأبية، منذ ما يقرب من عام ونصف العام محاصرة لأنها رفضت أن تركع للمحتل وللخونة، محاصرة لأنها صمدت على اختيارها الحر في اختيار «حركة حماس» لقيادتها، وفي المقابل الوطن العربي أيضاً محاصر، ولكنه حصار من نوع آخر، إنه محاصر بإرادته، محاصر بالتغريب والتبعية، محاصر بالضعف والوهن وفقدان الهوية، محاصر بالتخبط والفرقة والخلاف.
وعلى الطرف الآخر، العدو الصهيوني يتقوى بضعف العرب والمسلمين، ومحاصرتهم لأنفسهم بتركهم لهويتهم وتبعيتهم للغرب. وهو يستقوي على الشعب الفلسطيني، ويطغى ويمارس عادته العتيقة في الغدر عبر القرون، فرغم اتفاق التهدئة المتفق عليه مع فصائل المقاومة في غزة، إلا أنه قام، عبر إعداد مسبق خبيث، بتوغل عسكري في الأسبوع الأول من نوفمبر متعمداً خرق التهدئة، ومستهدفاً قتل المقاومين، فاستشهد ستة مجاهدين من كتائب القسام بعد أن دافعوا عن كرامتهم وأرضهم ببسالة.
وكما كان متوقعاً قامت المقاومة بالرد بالصواريخ على العدوان وخرق التهدئة وقتل شبابها المجاهد، فكانت الفرصة المتوقعة من العدو الصهيوني فقام بإغلاق المعابر، ومنع الوقود اللازم لمحطات الكهرباء من دخول غزة، فانقطعت الكهرباء في غزة، وغرقت في ظلام دامس. وتوالى عدوان وخروقات العدو الغاصب الغادر تنفيذاً لمخططه، فقام بعدها بأيام باستهداف أربعة من المقاومين فاستشهدوا أيضا رحمهم الله. وبينما تقاوم غزة بما تملك طغيان الصهاينة، رغم الحصار والاحتلال، ورغم الإظلام إلا أن الوطن العربي كان غارقاً في إظلام آخر ليس بفعل احتلال عسكري، ولكن بفعل احتلال فكري وسياسي واقتصادي، سيطر فيه الضعف الفكري والتبعية والانهزامية على الوطن العربي. فلم ترتفع حتى الأصوات تندد وتشجب كما كانت تفعل من قبل، بل صمت مريب كأنه ظلام وصمت القبور التي لا حياة فيها.
بينما غزة مع ظلامها منيرة متوهجة بكرامتها وعزتها، وتستمد قوتها من إيمانها بالله وعدالة قضيتها، لا تخضع ولا تذل لعدوها مهما كانت الضغوط.
وكان لافتاً ومحرجاً للعرب ارتفاع صوت بعض المنظمات في المجتمع الدولي بالتنديد من منع الوقود اللازم لمحطات الكهرباء. بينما الوطن العربي، دولاً، وحكومات، ومنظمات، وفضائيات ووسائل إعلام، غارق في ظلمات الوهن.
والعدو أعلن كذباً أنه سيفتح المعابر، ولكنه كعادته لم يف بما أعلن، وظلت المعابر مغلقة ليس أمام الوقود فقط إنما أمام دخول جميع السلع الغذائية ومستلزمات الحياة. ليتضح للجميع أن إظلام غزة وحصارها الآن هو ثمن الحرية. ثمن العزة. فالعدو أعلن أن ذلك الحصار والإغلاق بسبب الصواريخ التي نالت من المغتصبات الصهيونية، ولم تقتل صهيونيا واحداً. وكأن العدو يقول للفلسطينيين لا تردوا على قتلكم، ولا تغضبوا من سفكنا لدمائكم، فإن فعلتم وأعلنتم عزتكم فهذا الجزاء.
ولنا مع مغزي الحصار وإظلام غزة الآن وقتل أبنائها وقفات عدة:
أولا: تيقن العدو الصهيوني من حالة الموت السريري التي يعيش فيها الوطن العربي، وبالتالي يعلم يقيناً أنه لا معقب على طغيانه من العرب مطلقاً.
ثانيا: خيبة وفشل العدو الصهيوني في الوصول إلى أي اتفاق حول مبادلة الجندي الصهيوني شاليط.
ثالثا: توقيت التغيير الحكومي والانتخابات الصهيونية وتشكيل حكومة جديدة، فكأن اليهود الصهاينة يتسابقون للفوز انتخابياً على دماء الفلسطينيين.
رابعاً: محاولة إجبار حكومة «حماس» في غزة على التراجع عن مواقفها الثابتة، والضغط عليها بواسطة الحصار والتجويع والإظلام ومنع الدواء ومقومات الحياة من دخول غزة، ثم سياسة القتل. كل ذلك لإظهار ضعف «حماس»، وفشلها أمام الشعب الفلسطيني في غزة، وذلك كي يندفع أهل غزة تحت ضغط الجوع والظلام إلى التمرد على «حركة حماس»، ولكن الشعب الفلسطيني في غزة خيب ظنهم، وظل ثابتاً صامداً.
ويبقى أن غزة رغم ما تعانيه من ظلم الاحتلال الصهيوني والحصار، والمؤامرات الداخلية والخارجية، إلا أنها تقدم مثالاً حياً نادراً على قوة الصمود والمقاومة، رغم عدم التكافؤ مطلقاً في موازين القوى مع كل أداء، وخاصة العدو الصهيوني الذي لا يعرف إلا لغة الدم والغدر وسفك الدماء.
وأخيراً... متى تظهر بارقة نور في ظلام الوطن العربي، تبدد ظلمته، وتعطي الأمل بإشراقة نور وغد مشرق يعيش فيه العرب بكرامة، متى يسري دم العزة والحياة في عروق الكثير من حكومات الوطن العربي، فتنتفض من موتها السريري، وتخرج من ظلمة القبور إلى نور الحياة، لتقف وتساند إخواننا المحاصرين في غزة بكل ما تملك؟ لكم الله يا أهلنا في غزة، لن يضيعكم.
ممدوح إسماعيل
محامٍ وكاتب
[email protected]