رؤى
البنية السردية في كتاب «كليلة ودمنة»
إن البناء السردي في كتاب «كليلة ودمنة»، يشتمل على عباءة سردية كبرى جامعة لقصصه، فهو منسق في أبواب حكائية، تشتمل على فصول لحكايات قصيرة، يبدأ كل باب بتساؤل الملك، ثم إجابة الفيلسوف بقصة قد تتفرع إلى ما هو أصغر، فلا مجال أن ينأى المتلقي بعيدا، وتأخذه أحداث القصص المشوقة عن غايات الكتاب وحكمه، وتبرهن كل قصة على الحكمة المبتغاة؛ وهذا من شأنه أن يجعل المتلقي محتفظا بالخيوط السردية المحورية في الكتاب، وأن يُعمِل عقله في تأويل الحكايات، وإدراك الحكمة المبتغاة في كل قصة على حدة، وربطها بفلسفة الكتاب ومراميه، وأيضا فهم دلالة الأحداث في القصص الفرعية، وكيفية برهنتها على الحكمة المستهدفة.
وهذا دال على الوعي العالي للمؤلف بيدبا في تكوينه «المبنى الحكائي»، والذي يختص بالطريقة التي تُعرَض بها القصة والمستوى الفني لها، فيما يسمى «الحبكة الحكائية»، وطبيعة الكتاب وبناؤه تجعله ينأى عن مفهوم المتن الحكائي والمتعلق بالقصة كما يفترض أنها جرت في الواقع، فيكاد واقع الأحداث يشي بأنها أحداث متخيلة تماما، حتى الحوار الحادث بين الملك دبشليم وبيدبا الفيلسوف، وهو أيضا في وضع المتخيل في كثير من أسئلته، بالنظر إلى الأسئلة الفلسفية وإجاباتها ذات المناحي التربوية والإرشادية، وتدرّجها وشموليتها؛ مما يجعلنا نؤكد على براعة المؤلف في مبناه الحكائي.
لقد جاء الكتاب ببناء سردي فريد فيما يسمى السرد الإطاري Frame Narrative فهو: «سرد يتضمن سردا آخر، (أو) سرد يعمل بوصفه إطارا لسرد آخر، بأن يشكّل محيطا أو خلفية له».
فقد جاء المتن - أولا - على هيئة سؤال وجواب (مفترضينِ) بين دبشليم وبيدبا، وتظل هذه الحوارية مفاتيح للأبواب الأربعة عشر، وفي كل باب مسألة والجواب عنها وفيها تمهيد للحكايات الفرعية فيها، واتخذ من شخصيتي كليلة ودمنة مفتاحين كبيرين لشخصيات الكتاب المستنطقة على ألسنة الحيوانات والطيور، وقد وصل بيدبا إلى فكرة الحوار على ألسن البهائم والسباع والطير، ليكون في ظاهره لهوا للخواص والعوام، وباطنه رياضة لعقول الخاصة، وفيه ما يحتاجه الإنسان من سياسة نفسه وأهله وخاصته.
ونلاحظ مراعاة عدم تشتيت المتلقي في حكايات فرعية، تذهب به بعيدا عن البناء الكلي للكتاب أو الحكاية الأصلية في الباب، وتسهّل عليه- بشكل دائم- خلال تلقيه اكتشاف القيمة الجمالية المتولّدة عن الوحدة العضوية الجامعة بين قصص الكتاب، وهذا يتطلب أن يعمل المتلقي/ الدارس/ الناقد خصيصتين تتعلقان بذاته في تذوق جمال السرد وهما: الذاكرة والذكاء، فالذاكرة تمكّن القارئ من الاحتفاظ بالعناصر المهمة وعدم نسيانها عند التأويل، والذكاء يمكّنه من إدراك نوعية العلاقات القائمة بين العناصر ذاتها.
ويدل الكتاب - وإن كان مترجما - على تمكن بيدبا من مجمل العلوم المتوافرة له حتى زمنه (اللغوية والأدبية والفلسفية)، «فكلما تمكن الروائي (المؤلف) من ثقافة تقنية متينة وعميقة في إنشاء الرواية (النص)، تراه يتخذ له أبعادا علاقاتية دقيقة تربط بينه وبين سارده من وجهة، وبين سارده وقارئه من وجهة ثانية، ثم بينه هو وبين سارده وقارئه جملة، وشخصيات الرواية (السرد) مجتمعة من وجهة أخرى»، والذي ينعكس على متن الكتاب فيجيء في بنية عاكسةٍ لتجليات الفلسفة والحكمة الهندية، مقدمةٍ شكلا سرديا جاذبا لكل متلق، قريبا من الهم الإنساني، وتوق النفوس إلى العيش بصفاء وسعادة، من خلال تطبيقها الحكمة المتلقاة في الكتاب، مما جعل الملك يزيد من قرب بيدبا، ويبالغ في إكرامه، مقراً بمكانته العظيمة التي نالها وسط النخبة العلمية والاجتماعية في زمنه.
وبدا هذا واضحا بعدما أتم بيدبا تأليف كتابه بعد عام من الاعتكاف في مقصورة مع تلميذه، ففرح الملك بهذا الخبر، ونادى في بلاد الهند أن يحضروا (أهل النخبة والعلم) قراءة الكتاب، وأمر بنصب سرير يضاهي سرير الملك يجلس عليه بيدبا، ولما اطّلع الملك على أبواب الكتاب وما فيه، أبدى إعجابه قائلا: «يا بيدبا ما عدوت الذي في نفسي، وهذا ما كنت أطلب، فاطلب ما شئت وتحكم». فكان بيدبا زاهدا في طلبات الدنيا، وشدد أن يكون هذا الكتاب مقتصرا على أبناء الهند فقط، ولا يتسرب لأهل فارس.
وحين عكف بيدبا على تحقيق رغبة الملك، فقد آثر ألا يكتب ترجمة عن حياته الخاصة، وحتى تلك المقدمة التي نعرضها إنما هي بقلم شخص آخر. فكأن الكتاب في أصله كان بادئاً بالمتن فقط، وهذا يوضح إلى أي مدى كان بيدبا زاهداً في أي شهرة أو خلود. وظهر واضحا في ردّه على الملك الذي طلب منه أن يذكر ما يريده من الدنيا، فسيجاب لطلبه، فقال بيدبا: «أيها الملك، أما المال فلا حاجة لي فيه، وأمّا الكسوة فلا أختار على لباسي ذا شيئا». نلاحظ مدى توحّده بدرجة كبيرة مع نفسه ومع ديانته وما فيها من فلسفة عظيمة متوارثة من بوذا وتلامذته ومن ساروا على دربه، وقوامها أن النفس في حاجة إلى تأديب وتهذيب كي يسهل السيطرة عليها، ويسلس قيادها، والتواضع والزهد علامتان على هذا الدرب.
لقد رأى حكماء الهند القدامى أننا في أعماق أغوار وجودنا متحدون مع الطبيعة المطلقة للواقع، وكانت المشكلة العملية الفورية، التي ظهرت من هذا الاكتشاف؛ هي كيفية إدراك هذه الذات الداخلية، ومن ثم تتحد مع جوهر الكون ذاته. وهو ما أنتج ما يسمى التماهي مع الواقع والكائنات والأحياء، فهي متعايشة معهم، لا سبيل إلى نفيها، ولا الاستعلاء عليها، خصوصا أن الطبيعة في المجتمع الهندي تمتاز بالتنوع البيئي من غابات وأنهار وبحار، وما تزخر به من مخلوقات عديدة، فيستغرق المرء فيها متأملا سائحا في جنباتها. وهذا يفسر لماذا أجرى بيدبا قصصه على ألسنة الحيوان والطير؛ وذلك لاعتقاد البراهمة بتناسخ الأرواح، فمن الممكن - كما يعتقد - أن تحل روح الإنسان في روح الطير والحيوان، وبالتالي يصبح مغزى الحكايات واضحاً، وتلقيها مفهوماً ـ وفق معتقدات البراهمة ـ وأن أحداث عالم البهائم قد تتشابه وتتكرر في عالم الإنسان. ويقال إن بيدبا كان أول من كتب الحكمة بهذا الشكل.
فهناك ميل واسع الانتشار في الفكر الهندي يفترض وجود عدالة أخلاقية كلية، فالعالم ينظر إليه على أنه مسرح أخلاقي كبير تديره العدالة، وكل شيء فيه يكون خيّراً أو شريراً أو محايداً، يتم اكتسابه واستحقاقه من يسعى إليه، وهو يعني مسؤولية المخلوقات عن أفعالها، وبيدها ماضيها ومستقبلها.
وبالتالي لا انفصام بين عالم البشر والحيوانات والطير، فكلها على مسرح واحد هو مسرح الحياة، والعدالة تحكم الجميع، والكل خاضع لها ولقانونها.
[email protected]