نقد

فخ الأنا... في «آخر الوصايا الصغيرة» لخالد النصرالله

تصغير
تكبير
تعود الرواية مرارا إلى أزمنة الطفولة والنشأة المبكرة كنموذج للكثير ممن يعايش الصمت الأسري
«اشتممت رائحة تراب مبلول، كان السطح بالكاد قد بدأ بامتصاص زخات المطر التي توقفت منذ قليل، شعرت أنني والمجنون قد انخرطنا في كل هذا».... الرواية ص: 120.

في روايته «آخر الوصايا الصغيرة»- الصادرة حديثا عن دار نوفا بلس- يقدم الروائي خالد النصرالله تجربة مختلفة للقارئ، تأخذه عبر رحلة زمنها ليلة ماطرة لكنها مفخخة بارتباكات الذات و ندوب الذاكرة.

هذا العمل الروائي يحتال عليك بصفتك قارئا، فلوهلة تشعر أنك أمام مادة مباشرة، أو لنقل سهلة الهضم، لكنك بمجرد المضي في الرواية تكتشف أنك تخوض غمار عمل عميق، بل عميق جدا، حتى أني احتجت أن أعاود قراءة الرواية طمعا بمستوى أكبر من التلقي.

فما الذي نواجهه في «آخر الوصايا» إذاً ؟

أو... كيف قرأت «آخر الوصايا»؟ بعد التسليم بأن النص ملك لقارئه، وقد تفتح له كلمة ما/ سطر/ فقرة أفقا جديدا و حبكة متوالدة.

الحكاية:

الحكاية هي قوام الرواية، روحها المقدمة بثوب السرد، وحكايتنا تأخذ شكل الواقع، مؤثثة بمرافق حيواتنا المعتادة، بيت و أصدقاء وطفولة، وأحداث عابرة قد نواجهها مِرارا لكن الفكرة تكمن في المفارقة التي جعلت من كل ذلك مادة روائية تستوقف المتلقي و تناوشه بالأسئلة.

تحكي الرواية قصة «الحسن» الرجل الذي لا يحب التدخين، صاحب الصوت الجميل، والخجل المبطن، الأقرب إلى العزلة، المخذول في كثير من علاقاته، المصنف- قسرا- ضمن فئة ما، والذي يظن أنه وصل إلى مرحلة الاطمئنان ولكنه و من خلال حدث عارض ينسف كل حصون المناعة الذاتية ويرتمي مآزق الذاكرة.

فهو من خلال رحلته مع «المجنون» يعود إلى مستهلات الوعي الأول، في مكاشفة موجعة مع الذات، ليفهم و يعي صورته الراهنة.

الحقيقة... قادني ذلك لرواية «دكتور جيكل و مستر هايد»، فهل كان المجنون اليائس «الآبق» صورة نقيضة لـ «الحسن» الشيخ العاقل المطمئن؟ أم أنه صوت آخر للشخصية ذاتها؟ منفذ لما تخاف أن تكون؟ نافذة لتطلّع مكبوت؟

هل المجنون النحيف الدميم هو ذاته «الحسن» البدين؟

ربما تكون هنالك علامة في ما ورد في صفحة71:

قال المجنون:

«ستقتلنا يا مجنون؟»

أو في صفحة 104

«لذا كان - كعادته - المجنون يسأل و يجيب عن سؤاله من تلقاء نفسه»

هل ما جرى في مخيم جليعة هو مجرد اختلاق من «الحسن» نفسه ليشعر بتحقيق الذات، ويبيني من خلال الأخيلة مكانة لنفسه؟

الرواية منيعة، لا تفصح عن نفسها بسهولة، و تطلب من القارئ أن يعاود اكتشاف مدنها، وهذا ما وجدته جميلا جدا.

الشخصيات:

تتركز الرواية في شخصيتيّ «الحسن» والمجنون.

تركز الرواية على تذبذات الحسن، فالرواية تعود مرارا إلى أزمنة الطفولة والنشأة المبكرة، وقد وجدت أن هذه الشخصية نموذج للكثير ممن يعايش الصمت الأسري، بلا حوار تفاعلي، فهذا «الحسن» يعود من مدرسته ماشيا كل يوم رغم بعد المسافة، وينخرط في جماعات من دون متابعة وردع من والديه، ويعيش عاطفة مكبوتة مأسورة الكتمان من دون أن تنفذ إليه فطنة أم أو فضول أخت، حتى ابن عمه الذي أسماه السارد «عبد الله» والذي كان كبير التأثير في منعطفات حياة الشخصية، لم يقدر أن يقتحم ذلك الحاجز العصيّ ليفهم دواخل الحسن أو ليشكلا معا ما يفترض أنه علاقة إنسانية صادقة. فقط الجدة، تعبر ذاكرة الشخصية بحضور مميز حان، و تحضر الرواية كرمز للحنين وصفاء الأيام المطمئنة.

أما المجنون فأجد أن الناص نجح في إقناع القارئ به، فرسمها بواقعية، وأوصل إلى المتلقي ملامحها ومشاعرها، دوافعها و مخاوفها، فيجد التعاطف سبيله إليها أحيانا، والغضب منها ربما، والرثاء مرات أخرى.

الحبكة:

إذا كانت الحكاية- في الرواية- هي روح الفكرة و تبدلات مصائر شخوصها فإن الحبكة هي طريقة الروائي في إيصال ذلك.

اعتمد الناص زمن اليوم الواحد، أو لنقل الليلة الواحدة، فكان ذلك زمن الرواية التي كانت تتقدم كـ كرة الثلج، لتتسع الأحداث و تكبر بسرعة مجنونة دون قدرة الشخوص على السيطرة على تبعات أفعالهم الصغيرة.

اللغة:

توقفت كثيرا عند لغة الرواية، فمن قرأ لـ خالد النصرالله سابقا سيتعثر- قليلا- في لغة النص الحالي، لكني بعد التلقي الثاني وجدت أن النص يقدم اللغة بناء على مستوى الشخصية.

فالنص يسرد عبر الحسن، و تلك اللغة تناسب شخصيته و آفاقه الفكرية، مما ينسج المادة بنسيج مقنع، لكني رغم ذلك شعرت بضعف بعض التراكيب اللغوية، فهل يُعدّ ذلك نوعا من التجريب في الكتابة الروائية؟

ربما.

«آخر الوصايا الصغيرة» عمل جميل، مختلف، يستحق التأمل.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي