حوار مع... الريح

u0645u0646 u0623u0639u0645u0627u0644 u0627u0644u0641u0646u0627u0646 u0627u0644u062au0634u0643u064au0644u064a u062du0645u064au062f u062eu0632u0639u0644
من أعمال الفنان التشكيلي حميد خزعل
تصغير
تكبير
«يا ثلج قد هيّجت أشجاني، ذكرتني أهلي بلبنان، بالله عني قل لجيراني، ما زال يرعى حرمة العهد، يا ثلج قد ذكرتني الموقد، أيام كنا حوله نقعد، نجثو لديه كأنه المسجد وكأننا النساك في الزهد». (هذان بيتان من قصيدة شعرية).

رحم الله من ذكّره الثلج بالأهل والأحباب والموطن، ولم يذكّره ببرد وإقفال طرقات وزحمة سير وتعطل حركة على الجبال المرتدية اللفة البيضاء، ولا بإمكانية انقطاع التيار وتعطل (الشوفاجات) في الغرف الباردة، مستعيضا عن كل ذلك بموقد ولمة أسرة بسيطة وحبات كستناء، وإن لم تتوافر فحبات بلوط، تتلوى على حر الجمر قبل أن تهوي في بطون المتحلقين حول النار.

قبل الثلج ريح، وخلاله ريح، وبعده ريح.

آخ من الريح، ومن حوار الريح، ومن جبل لا تهزه ريح.

أتتني الريح عقب يوم مغبر، سألتني: هل تعتقد أن عليك أن تترصّد ما تجنيه ويجنيه سواك وقد أتيتكم محملة بالغبار أو من دونه، حاجبة الرؤية أو غير حاجبة، مجبرة من يعاني من الربو أن يراجع المستشفيات أو غير مجبر، فاتحة أذرعتي للطيور (القلابي) أم لا؟ هل هذا كل ما تعرفه عن الريح؟ أم ان في ذاكرتك أمورا أخرى جميلة عن ريح غير مغبرة، إلا ان قصدت ديار قيس وليلى، وجميل وبثينة، تتنسم ريحا تحمل اليك أنفاسهم وعطر حبهم... العذري.

وألحت الريح على أن تدق أبوابي، فتحت لها، تفضلّت حتى من دون إذن، وقد تأبطت دفاتر وسجلات كثيرة، قالت لي اسمع، أريد أن أحاورك... فقبلت.

وحاورتني الريح فاتحة على سمعي وبصري وفؤادي سورة «الحاقة» في كتاب ربي الكريم، بادئة بعد البسملة «الحاقة ما الحاقة، وما أدراك ما الحاقة، كذبت ثمود وعاد بالقارعة، فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية، سخّرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية». (صدق الله العظيم).

قالت لي الريح: ماذا تعرف عني وأنت الستيني الذي تخاف من تقادم الأيام وبت تعدها عداً، هل جل ما تعرفه في عصرك التقني أن مجرد مجيئي هو عنوان الشتاء فقط، والخوف من الأنفلونزا الآتية على جناح ارتفاع درجة الحرارة وإقفال الابواب أمام البرد والصقيع، خوفا من لفحة مرض؟

فتحت سجل كتبها ودفاترها. قالت لي استمع اليّ، فوالله إني لو جلست معك أياما وأسابيع وشهورا وسنين، فلن أستطيع أن أضع أمام ناظريك سوى نقطة من بحر ما فعلت منذ كانت الحياة.

أنا الريح الحاملة للمطر، والناقلة للديم والسحاب من مكان الى آخر، والحمالة للقاح الشجر،هل تستطيعون أن تعيشوا من دون ريح أو أن تسكروا أبوابكم أمام الريح فتستريحون؟ ألا تتذكر قول الخليفة العباسي هارون الرشيد وهو يراقب الغمام المحمول على أشرعتي، أن بوركت فإن خراجك لي أنى نزلت.

أنا من كنت أحمل بساط النبي سليمان، عليه السلام، وأنقله من منطقة الى أخرى بسرعة الصوت على مقاييسكم الآنية.

أصخ السمع، ألا تسمع الريح التي تأتيك من منغوليا عابرة مئات السنين، حاملة في طياتها أصوات صهيل الخيل ووقع حوافرها، من جنكيز خان الى تيمورلنك. هل تحب قراءة التاريخ؟ إقرأ إذن.

أنا آتيك بنماذج منه بلمح البصر.

كنت شاهدة على دخول مكة، لمست ستائر جدران الكعبة قبل أن يلمسها البشر يوم الفتح، داعبت سمائل الفقراء الزاحفين بأمن وأمان ونفوس مستقرة، الى أم القرى ليدخلوها آمنين، بعد أن عز الفراق.

هل تعرف إيوان كسرى؟ أنا من عصف به يوم وُلد خاتم الأنبياء (ص) لأنه مكتوب أنه لا مجال بعد اليوم للضلالة ولا للجهل، وأن الأبواب فتحت على الجهادين...الأكبر والأصغر.

أنا الريح الحاملة لملايين ملايين ملايين الأصوات التي ترددت على امتداد البشرية في آفاق الكون، أين ذهبت تلك النغمات وكيف انتقلت من مكان الى آخر؟

أنفخ في بوقك؟ تخيّل أنه قد فتحت أمام ناظريك الحجب، لتندفع الى مسامعك قوافل الأصوات على امتداد الكون، حاملة معها ألمها وفرحها، صرخات قتلى الحروب، وضحكات المنتصرين المهزومين، نبرات الجرحى المفتونين بما أغمضوا عليه الجفون في ساعة الرحيل، ألا تسمعهم، بل اسمع، وهم يهيمون مع الريح وقد تجردوا من لباسهم الآدمي، وأصبحوا أطيافا خفافا بعد أن كانوا ثقالا.

أنا الريح التي كان يصغي اليها أفلاطون وهو يتأمّل على جبل الأكروبوليس، زاهدا في الدنيا، باحثا عن أصل الكون وكنهه، حتى اهتدى بالعقل الى وجود الخالق، فوضع «جمهوريته الفاضلة» على جناح التاريخ قبل أن يرحل.

سل أرسطو، ماذا قال في ليلته الأخيرة، وهو يطلب أن يتجرع السم على أن يتخلى عن مبادئه، أنى لك أن تعرف «وبصرك ليس حديدا» لكنك قد تعرف يوما.

خاطبت الريح بعد ان استمعت اليها مطولا فقلت لها:

اسمعي يا ريح، كل ما قلته صحيح، وأنا أترقبك في كل أيامي. لا يعني لي شيئا ما يمكن أن تؤديه للبشرية من خدمات (علمية) وإن كنت قادرة على توليد الضوء من وهج قوتك، وكل ما من شأنك أن تؤديه للعلم والعالم.

هل تستطيعين الإجابة عن أسئلتي؟ أخبريني عما فعله نيرون بمدينته بعد أن أشعل فيها النيران وساهمت أنت في انتشارها؟ كيف فعل نيرون ذلك، وماذا قال في تلك اللحظة؟

هل كانت هناك قارة اسمها أطلانطس كما شاهدنا في السينما، سادت بحضارة عريقة ثم بادت، هل كنت شاهدة على ذلك؟ وهل ستكونين شاهدة على مصير حضارة او حضارات نظيرة؟

ماذا كنت تفعلين عندما كان سيف بن ذي يزن يمتطي ظهر مارده يطوف به البلاد وينسج الأساطير؟

لقد خبرتك كثيرا في أيامي وأحلامي، ولقد أحببتك كثيرا وأنت تمرين فوق زرع أمي، تنشرين روائح النعناع، وتهزين سيقان نبتات البندورة، وتموجين فوق ثمر الخيار والكوسا.

هذا هو الزمن الذي أعرفه، كما كان يفعل جميل بثينة. هل كنت شاهدة على قصيدته الى حبيبته ابنة العم التي يقول مطلعها «تقول بثينة بعد أن رأت فنونا من الشعر الأحمر كبرت جميل وأودى الشباب». تعرفين أنني أحب القصيدة، لكنني عاشق لخاتمتها وهذا هو الأهم وبيت القصيد «قريبان مربعنا واحد فكيف كبرت ولم تكبري».

إنه العمر أيتها الريح، نولد معا ونعيش معا، ويتمرد بعضنا على الآخر، لكننا في نهاية المطاف نلقي بعصا السنين ونرحل.

أتعرفين أيتها الريح، كم أحبك وأنا أزور قبري والديّ رحمهما الله، وأنت تمررين كفك على وجهي وشعري او ما تبقى منه، وتداعبين بعض الزهور النابتة في المقبرة، وتمسحين عن عيني دموع الاشتياق الى الاهل والرهبة من المكان والزمن الآتي.

اكتفيت؟ سألتني الريح: هل تخشى أن أداهمك في يوم ما وأهز جسدك الفاني، وأقربك الى «يوم حفرتك»؟

ستحب ذلك يوما، وأنا أرافقك من تحت الى فوق، من الثرى الى الثريا، وأنت ترى أنوار الملائكة تشعّ ترحيبا بالقادم الجديد.

سألتني الريح: هل بت تخشاني بعد أن أصبحت تعرف البعض من أسراري؟ وقبل أن أجيب أجابت... «يا جبل ما يهزك ريح».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي