ملف / يهود لبنان... حكاية الطائفة المُخْتفية (4 من 5) / «الراي» تفتح «الصندوق الأسود» لنشاطها من لحظة وصولها إلى عمليةِ الإيقاع بها
«لؤلؤة الموساد» الجاسوسة التي أصابتْها «اللعنة»... بالصدفة
كوهين في صورة قبل 9 سنوات
شولا كوهين في صباها
اللواء سامي الخطيب
«اللؤلؤة» ساهمتْ في تهريب يهود لبنان وسورية إلى إسرائيل
تزوّجتْ بلبناني يهودي كستارٍ لتبرير وجودها في لبنان وإمكان عملها في الدعارة بشكل لا يلفت الأنظار
أوّل «إشارة خطر» حول عمل شولا وردت العام 1958
من سورية
كُلف ضابط لبناني بإقامة علاقة غرامية وهمية مع كوهين ومراقبة مَن يزورها في منازلها الخمسة
في 1961 كان الضابط عزيز الأحدب أول مَن لفت انتباهه موضوع كوهين وعملائها
بدأ انكشاف نشاط شولا التجسسي عندما باشرتْ الدولة اللبنانية التحقيق بعملية تزوير طوابع بريدية
قام أحد عناصر المخابرات بتحويل نفسه بائع زهور أمام مبنى «الامباسادور» بينما كان معاوِن له يتنكّر على أنه بوّاب العمارة
جرتْ عملية التوقيف المتزامِنة لكوهين و9 آخرين
في 9 أغسطس 1961
تزوّجتْ بلبناني يهودي كستارٍ لتبرير وجودها في لبنان وإمكان عملها في الدعارة بشكل لا يلفت الأنظار
أوّل «إشارة خطر» حول عمل شولا وردت العام 1958
من سورية
كُلف ضابط لبناني بإقامة علاقة غرامية وهمية مع كوهين ومراقبة مَن يزورها في منازلها الخمسة
في 1961 كان الضابط عزيز الأحدب أول مَن لفت انتباهه موضوع كوهين وعملائها
بدأ انكشاف نشاط شولا التجسسي عندما باشرتْ الدولة اللبنانية التحقيق بعملية تزوير طوابع بريدية
قام أحد عناصر المخابرات بتحويل نفسه بائع زهور أمام مبنى «الامباسادور» بينما كان معاوِن له يتنكّر على أنه بوّاب العمارة
جرتْ عملية التوقيف المتزامِنة لكوهين و9 آخرين
في 9 أغسطس 1961
هم أبناء الطائفة «المُخْتفية» أو «المتخفّية» التي دفعتْ ثمن الخلط بين اليهودي والإسرائيلي والصهيوني، والذين «ضاعتْ» هويّتهم اللبنانية و«اختبأ» وجههم الديني تباعاً منذ أن «خبت» هويّة فلسطين مع نكبة 1948.
هم أبناء الطائفة 18 في لبنان الذين كان عددهم يناهز 25 ألفاً قبل قيام دولة إسرائيل وحتى بعدها، ولم يبقَ منهم اليوم «على الورق» إلا نحو 5 آلاف ونيف، لا يعيش منهم بصورة دائمة في «بلاد الأرز» إلا نحو 200، إما تحوّل قسمٌ كبيرٌ منهم إلى المسيحية أو الإسلام، وإما اختاروا «حياة الظلّ» بعدما ذاق كثيرون قبلهم ذُلّ القمع والاضطهاد.
هم أبناء الطائفة المعترَف بها في لبنان رسمياً (منذ العام 1936 إبان الانتداب الفرنسي) تحت اسم «الطائفة الإسرائيلية»، والذين يحاولون منذ أعوامٍ العودة إلى «الضوء» من بوابة كنيس ماغن ابراهام في وادي أبو جميل (وسط بيروت) الذي نفض عنه غبار الحرب ويَنتظر مراسم افتتاحه رسمياً التي تأجّلتْ مرات عدّة. وإذا كان الدمار الذي لحِق بهذا الكنيس الذي بني العام 1925 وكان من أجمل المعابد اليهودية في الشرق الأوسط، شكّل العنوان الأبرز لما أصاب هذه الطائفة، خصوصاً قبيل الحرب اللبنانية (اندلعت العام 1975) وخلالها، فإن عودة الحياة إليه وتحوُّله مجدداً مركزاً للعبادة يبقى الإشارة الفعلية، المعلَّقة حتى اليوم، إلى أن يهود لبنان عادوا إلى صلب النسيج اللبناني وأنهم سيخرجون من «مخابئهم».
قبل أعوام قليلة، بلْسم كنيس ماغن ابراهام، الذي استعار هندسته من الفن العمراني إبان النهضة (هو من تصميم المهندس الشهير Bindo Manham)، «جراحه» بتبرعاتٍ غالبيتّها من الجالية اللبنانية اليهودية في الخارج، ولكنه ما زال يقبع على «رصيف الانتظار» في ما كان يُعرف بـ «وادي اليهود» الذي شكّل قبل بدء «جولات الهجرة» المتلاحقة «عاصمة» يهود لبنان، وفيه بنوا مؤسساتهم التجارية والدينية ومدارسهم وجمعياتهم الشهيرة.
رئيس الطائفة اليهودية في لبنان اسحق أرازي، وكأن «في فمه ماء»، حين تحدّث مراراً عن انتهاء أعمال ترميم الكنيس التي اعتبرها «بمثابة فخر للمجتمع اليهودي ومحاولة للتأكيد على وجودهم في لبنان»، من دون أن يشير إلى أسباب التأخّر في افتتاحه، ولكن مع تأكيد «لو أردْنا أن ننشئ متحفاً، كنا سلّمناه للدولة. ما نريده هو أن يعود هذا الكنيس إلى طبيعته، أي أن يصبح مكاناً للعبادة مرّة أخرى».
في وادي ابو جميل، وحده هذا الكنيس الذي يحتوي على قناطر نُقشتْ عليها نجمة داود وكتابات باللغة العبرية يبقى الشاهد على عدم اندثار الطائفة اليهودية في لبنان، هي التي تحوّلت بدايةً طائفةً «مخيفة» بعد 1948، مروراً بنكسة 1967 والاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1978، ثم الواسع النطاق في 1982، إلى طائفة خائفة لم تَجد لها مكاناً في لبنان ما بعد الحرب وفي المصالحات الوطنية التي أرسى ركائزها اتفاق الطائف، وكأنّها «تُلفظ» من الفسيفساء اللبنانية بعدما دفعت ثمن التاريخ والجغرافيا ومصطلحاتٍ دينية وقومية.
«الراي» تقلّب على حلقاتٍ تاريخ الطائفة اليهودية في لبنان وحاضرها وفصول شبه «تَبخُّرها»، وتضيء على أبرز معالمها الدينية وخريطة انتشارها العقاري، كما تتحدّث إلى بعض أبنائها «المنسيين» الذين تجرأوا على الخروج «إلى الضوء»، وتستعيد أشهر الحكايا التي ارتبطت بها.
في 21 مايو 2017، طوى الموت واحدة من أكثر الحكايا الجاسوسية إثارةً في تاريخ «الغزو» الإسرائيلي المبكّر للبنان، وكان مسرحها بيروت وتضاهي في ملابساتها قصة ايليا كوهين في دمشق... «لؤلؤة» الموساد أو الجاسوسة الساحرة هو التوصيف الذي استحقّته شولا كوهين التي بدأ نشاطها في لبنان العام 1952 وتوفيت في إسرائيل أخيراً.
فمنذ قيام إسرائيل، كانت الدولة المهجوسة بالأمن، تولي اهتماماً عالياً لجهاز الاستخبارات الخارجية المعروف بالـ «موساد».
وكانت أولى الشبكات التي أُسندت إليها أدوار مهمة هي شبكة «ايليا كوهين» في سورية الذي بدأ نشاطه الاستخباراتي العام 1951 قبل أن يُعدم في ساحة المرجة بدمشق في العام 1965، ثم شبكة «شولا كوهين» التي «ازدهر» نشاطها التجسسي بين 1952 حتى 1961.
اليوم، نقلّب صفحات حياة كوهين، أصْلها وفصْلها (وُلدت في الأرجنتين) وكيفية زواجها، ونستعرض «صندوقها الأسود» «الذي غالباً ما استهوت تفاصيله اللواء المتقاعد سامي الخطيب، وهو الذي أشرف على عملية القبض على «لؤلؤة الموساد» وقاد هذه العملية إلى جانب ضابطيْن آخريْن.
على مدى نحو عقد من الزمن كانت كوهين «رأس» شبكة خطيرة، استخدمتْ الدعارة وعاهرات «شِباكاً» للإيقاع بضحاياها واختراق «دائرة المتنفّذين» في الدولة اللبنانية ومراكز القرار ونسْج علاقات مع شخصيات سياسية وأمنية بينها وزراء ونواب. وقد جنّدتْ معها شخصيات لبنانية، أغرتْهم خلالها بالمال والنساء واتخذتْ لـ «نشاطها» 5 بيوت دعارة جهّزتها بواسطة «الموساد» بكل عُدة التسجيل اللازمة، من آلات تصوير سرية وسواها، زُرعت في غرف النوم لتتيح ابتزاز زبائنها فيتحوّلون مصدر معلومات. وقد تمّ كشف عملها التجسسي بالصدفة العام 1961 وصولاً إلى القبض عليها في العام نفسه وسجْنها حتى العام 1967 حين جرى إطلاق سراحها إثر عملية تبادُل أسرى بين لبنان والدولة العبرية.
أمْر العمليات الذي أدار نشاط شولا كوهين كان يتركز على جمْع أيّ معلومات عن النشاطات العسكرية للدول العربية، والأهمّ البحث عن مسؤول لبناني ذي نفوذ قوي في الدوائر الرسمية، تستطيع من خلاله الوصول إلى ما تريده، خصوصاً لجهة تهريب أكبر عدد من يهود لبنان وسورية والعراق إلى إسرائيل عن طريق احدى الثغر في مرجعيون (جنوب لبنان).
واحدة من المهمات «المركزية» التي أوكلتْ إلى كوهين كانت تنفيذ القرار الإسرائيلي بتهجير يهود العراق والدول الأخرى من بلادهم لإرغامهم على التوجّه إلى إسرائيل، ولاسيما أصحاب الثروات. وبالنسبة إلى يهود سورية ولبنان، كان الوضع مختلفاً كون الدولة العبرية تقع على حدود البلدين، وقد تم تسليم شولا كوهين مهمة التفرغ لهؤلاء اليهود، فكانت تعمل على تهريبهم من سورية نحو لبنان كمحطة أولى، ومن ثم تنقلهم إلى إسرائيل عبر الحدود الجنوبية.
لم تكن هذه «المغامِرة» قد تجاوزت الـ 32 من عمرها حين استخدمتْ شكلها الجذاب، وكانت حينها متزوّجة من تاجر يهودي صغير من لبنان هو جوزيف كيشاك، وكان صاحب ميني ماركت في منطقة وادي أبو جميل، وأنجبت منه ثلاثة أولاد، ابنتين وصبيا يدعى إيزاك ليفانون، (أصبح لاحقاً سفيراً لإسرائيل في مصر من العام 2009 حتى 2011).
وفي استعادة لذكريات تلك المرحلة يروي اللواء سامي الخطيب، أن «كوهين عراقية الأصل، وقرّر الموساد الإسرائيلي إرسالها إلى لبنان، وأنجز لها أوراقاً ثبوتية مزوَّرة، ثم تولى إيصالها إلى بيروت في العام 1947، لتبدأ من هناك أولى مهماتها الاستخباراتية».
انتحلت كوهين صفة مندوبة لإحدى الشركات السياحية الاوروبية حين نزلت بادئ الأمر في فندق «غراند أوتيل» وهو أشهر فنادق بيروت آنذاك، ثم انتقلتْ إلى إحدى الشقق الفاخرة في عمارة «الامباسادور» (بين ستاركو وكليمنصو حالياً)، وأوهمت الآخرين بأنها جاءت للبحث عن وكلاء للشركة السياحية الأوروبية في لبنان.
وفي تفاصيل «الصندوق الأسود» لنشاط كوهين بحسب الخطيب، الذي حقّق معها بعد القبض عليها، أنه «بعد مضي أقلّ من عام، رأى الموساد أن يتم تزويجها من يهودي لبناني كستارٍ تعمل خلفه ومن أجل تبرير وجودها في لبنان، فضلاً عن إمكان عملها في الدعارة السرّية بشكل لا يلفت الأنظار إليها، وهكذا تعرّفتْ على جوزيف كيشاك في إحدى المناسبات اليهودية في كنيس أبراهام ماغن في بيروت، وبعد أشهر من اللقاءات تزوجتْ منه وأنجبت أول أولادها، لتنطلق بعدها في رحلة التجسس والعمالة».
أول الخيط في الشبهات التي بدأتْ تحوم حول شولا، كان بعد هجرة جماعية وبأعداد كبيرة ليهود سورية إلى لبنان، إلى جانب وقوع عمليات متشابهة من إفلاس لمصارف ومحال تجارية، وحتى اغتيالات لشخصيات يهودية لترهيب أبناء الطائفة في سورية وحضّهم على ترْك البلاد نحو إسرائيل. فهذه التحرّكات المتكرّرة لفتتْ أنظار الجهات الأمنية السورية، ولاسيما بعد محاولات كوهين جمْع المعلومات السرية عن سورية، وإقامة علاقات مع شخصيات من البلد. ونتيجة لذلك، وُضعت نشاطاتها تحت مراقبة الأجهزة الأمنية السورية، فأرسلت دمشق ضابطاً إلى بيروت في 15 مايو 1958 (حسب الوثائق الموجودة لدى سامي الخطيب ولدى المحفوظات الوطنية) للاجتماع مع نظرائه، ووضْعهم بالصورة عن أعمال شولا المريبة. إلا أنّ هذا الضابط (وهو من آل القوادري)، صُدم عندما أخبروه في لبنان «أن شولا بعيدة عن الشبهات».
غير أنه لم يمض وقت طويل حتى بدأتْ «رائحة» شولا كوهين تفوح بين أوساط الحكومة اللبنانية التي كان يرأسها آنذاك الراحل رشيد كرامي، وكان فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. وأول مَن لفت انتباهه موضوع كوهين وعملائها مطلع العام 1961 كان الضابط اللبناني عزيز الأحدب، الذي قرأ عن طريق الصدفة محضر الاجتماع بين الضباط اللبنانيين والسوريين، وانطلق في رحلة البحث وجمْع المعلومات عنها. وتَزامَن هذا الأمر مع سرقات كبيرة لأوراق وطوابع من وزارة المال، فأوعز إلى الشرطة القضائية وإلى المكتب الثاني (مخابرات الجيش) بمراقبة الأمر والتحرّي عنه.
اللواء الخطيب الذي ينفض الغبار عن تلك الحكاية يقول إن القضية «لم تكن مهمة مخابرات الجيش، ولكن بسبب خطورتها تمّت تكلفتهم بالتعاون مع الشرطة القضائية. وبالفعل قام رئيس شعبة المكتب الثاني العقيد أنطوان سعد بتكليف الملازم غابي لحّود بمراقبة اتصالات ومنزل ومكان عمل محمود عوض، وتمت تكلفتي أنا وملازم آخر يدعى عباس حمدان بالمراقبة. ولم تكن تسمح تقنيات تلك الفترة بإخضاع أكثر من 60 خطاً لعمليات المراقبة، ولم يكن بمقدورنا مراقبة الخطوط بشكل متواصل، إلا أنه في نهاية المطاف اكتشفنا أن عوض يملك أموالاً ضخمة في المصارف، إلى جانب محال وأسهم في شركات سياحية ومصرفية في كل من بيروت وطرابلس. ومن الاتصالات المتكررة لاحظنا تكرار اسم شولا، ومن خلال اتصالاته معها تبيّن أن الحديث كان يدور بينهما عن شخصيات سياسية كبيرة، ومنها أسماء عربية، وأسماء قيادات عسكرية في الجنوب».
ولعل الأكثر إثارة في مسار «الإيقاع» بشولا كوهين كان قيام العقيد سعد بتكليف الملازم ميلاد القارح (مخابرات جيش) بإقامة علاقة غراميّة وهميّة مع كوهين ومراقبة مَن يزورها في منازلها الخمسة. «وخلال تردُّده على منزليْها في الصنائع ووادي أبو جميل، اكتشف أن هناك امرأة ورجلا من آل عبدالله من بلدة الخيام، وراشيل رفول ومحمود عوض هم الأساس في الشبكة المزعومة».
وتَرافق الكمين المحكم الذي نصبتْه الاستخبارات اللبنانية لعميلة «الموساد» مع خطة وُضعت لمراقبة منزلها في وادي أبو جميل والبيوت الأخرى. ففي شهر يوليو من العام 1961 سكن الملازم عباس حمدان في الطبقة الخامسة من مبنى «الإمباسادور»، أي فوق شقة شولا تماماً، وكان يراقب سهراتها اليومية التي غالباً لا تخلو من لعب الميسر والدعارة، ولفتته زيارة عدد من الشخصيات العسكرية والسياسية لها. وبعد مدة اكتشف أن لدى كوهين خطيْن هاتفييْن، وهذا الأمر نادر جداً ولا يحصل إلا داخل بيت مسؤول كبير، كما أنه قام بوضع صحن لاقط (بالمقلوب) على أرضية الشقة للاستماع إلى الأصوات والمحادثات التي تجري داخل منزلها. وفي الوقت نفسه قام أحد عناصر من مخابرات الجيش يُدعى جان ناصيف بتحويل نفسه إلى بائع زهور تحت منزلها، فيما كان معاون آخر له يتنكر على أنه بوّاب العمارة. علماً أن عمليات الرصد أظهرتْ أن زوج كوهين جوزيف كيشاك لم يكن على علم بنشاطها السرّي، كونها أبعدتْ نشاطاتها عن مسكنها الزوجي.
أما الملازم غابي لحّود، فتولّى مراقبة منزل محمود عوض في الروشة. ولم تمرّ أيام قليلة إلا صدر الأمر من العقيد أنطوان سعد بدهْم منازل المتَّهَمين جميعاً. وهكذا، ليل السبت الواقع في 9 اغسطس 1961 (تم اختيار هذا اليوم كونه يوم العطلة اليهودية حيث تكون شولا في منزلها مع عائلتها)، وعند الساعة الحادية عشرة والنصف وصلتْ قوة من الجيش يترأسها الملازم حمدان إلى وادي أبو جميل... راقبتْ الأجواء جيداً، وانتظرتْ ثلاث ساعات قبل أن يتمّ دهْم شقة كوهين. وبالتزامن مع ذلك، وصل غابي لحود مع عناصره إلى الروشة للقبض على محمود عوض، بينما وصل اللواء الخطيب مع مجموعته إلى بحمدون الضيعة ليلقي القبض على منى ونهى وحسين عبد الله. أما بالنسبة إلى راشيل رفول، فقد تم اقتيادها من مكان عملها في أحد الأندية الليلية في كاراكاس (الروشة). ووصل عدد أفراد الشبكة الذين ألقي القبض عليهم 10 أشخاص، أهمّهم شولا وعوض. وبحلول الخامسة من صباح اليوم التالي كان الموقوفون في سجن «القلعة» في منطقة الروشة (تحوّل اليوم إلى مدرسة رسمية للبنات)، وهناك تمّ أخذ اعترافاتهم ما عدا كوهين التي كانت حريصة على عدم البوح بأي شيء.
وبعدما وقعت الشبكة في «الفخ» وإنجاز التحقيقات الأولية، رُفع الملف إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية جورج ملاّط، الذي بدوره أحال الموقوفين على قاضي التحقيق في محكمة بيروت العسكرية الياس رزق الله.
وحُكم على «اللؤلؤة» بالإعدام مع تخفيض العقوبة إلى 20 سنة سجنا كونها كانت المحرّض، أما عوض فحُكم عليه بالمؤبَّد كونه المسؤول المباشر عن تأمين المعلومات والتجسس على المعنيين، فيما كانت عقوبة راشيل رفول وأعوانها السجن 10 سنوات. وبعد سنة على توقيف كوهين، تم ترحيل زوجها وأولادها إلى خارج لبنان، قبل أن يذهبوا إلى إسرائيل. أما محمود عوض، فتوفي في العام 1963 داخل السجن. ويلفت الخطيب في هذا السياق إلى أنه «توفي جرّاء إصابته بمرض عضال ولم يقتله أحد كما أُشيع».
وبقيت كوهين في السجن حتى العام 1967، فبعد حرب الأيام الستة (خلال رئاسة شارل الحلو للجمهورية) جرتْ «مفاوضات عسكرية» بين الطرفيْن اللبناني والإسرائيلي، على أساس أن تُسلّم كوهين إلى السلطات الإسرائيلية مقابل إطلاق الأخيرة 300 موقوف لبناني وسوري وفلسطيني لديها. وتمّت عملية التبادل التي كانت حينها الأولى بين لبنان وإسرائيل عبر الصليب الأحمر الدولي.
هم أبناء الطائفة 18 في لبنان الذين كان عددهم يناهز 25 ألفاً قبل قيام دولة إسرائيل وحتى بعدها، ولم يبقَ منهم اليوم «على الورق» إلا نحو 5 آلاف ونيف، لا يعيش منهم بصورة دائمة في «بلاد الأرز» إلا نحو 200، إما تحوّل قسمٌ كبيرٌ منهم إلى المسيحية أو الإسلام، وإما اختاروا «حياة الظلّ» بعدما ذاق كثيرون قبلهم ذُلّ القمع والاضطهاد.
هم أبناء الطائفة المعترَف بها في لبنان رسمياً (منذ العام 1936 إبان الانتداب الفرنسي) تحت اسم «الطائفة الإسرائيلية»، والذين يحاولون منذ أعوامٍ العودة إلى «الضوء» من بوابة كنيس ماغن ابراهام في وادي أبو جميل (وسط بيروت) الذي نفض عنه غبار الحرب ويَنتظر مراسم افتتاحه رسمياً التي تأجّلتْ مرات عدّة. وإذا كان الدمار الذي لحِق بهذا الكنيس الذي بني العام 1925 وكان من أجمل المعابد اليهودية في الشرق الأوسط، شكّل العنوان الأبرز لما أصاب هذه الطائفة، خصوصاً قبيل الحرب اللبنانية (اندلعت العام 1975) وخلالها، فإن عودة الحياة إليه وتحوُّله مجدداً مركزاً للعبادة يبقى الإشارة الفعلية، المعلَّقة حتى اليوم، إلى أن يهود لبنان عادوا إلى صلب النسيج اللبناني وأنهم سيخرجون من «مخابئهم».
قبل أعوام قليلة، بلْسم كنيس ماغن ابراهام، الذي استعار هندسته من الفن العمراني إبان النهضة (هو من تصميم المهندس الشهير Bindo Manham)، «جراحه» بتبرعاتٍ غالبيتّها من الجالية اللبنانية اليهودية في الخارج، ولكنه ما زال يقبع على «رصيف الانتظار» في ما كان يُعرف بـ «وادي اليهود» الذي شكّل قبل بدء «جولات الهجرة» المتلاحقة «عاصمة» يهود لبنان، وفيه بنوا مؤسساتهم التجارية والدينية ومدارسهم وجمعياتهم الشهيرة.
رئيس الطائفة اليهودية في لبنان اسحق أرازي، وكأن «في فمه ماء»، حين تحدّث مراراً عن انتهاء أعمال ترميم الكنيس التي اعتبرها «بمثابة فخر للمجتمع اليهودي ومحاولة للتأكيد على وجودهم في لبنان»، من دون أن يشير إلى أسباب التأخّر في افتتاحه، ولكن مع تأكيد «لو أردْنا أن ننشئ متحفاً، كنا سلّمناه للدولة. ما نريده هو أن يعود هذا الكنيس إلى طبيعته، أي أن يصبح مكاناً للعبادة مرّة أخرى».
في وادي ابو جميل، وحده هذا الكنيس الذي يحتوي على قناطر نُقشتْ عليها نجمة داود وكتابات باللغة العبرية يبقى الشاهد على عدم اندثار الطائفة اليهودية في لبنان، هي التي تحوّلت بدايةً طائفةً «مخيفة» بعد 1948، مروراً بنكسة 1967 والاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1978، ثم الواسع النطاق في 1982، إلى طائفة خائفة لم تَجد لها مكاناً في لبنان ما بعد الحرب وفي المصالحات الوطنية التي أرسى ركائزها اتفاق الطائف، وكأنّها «تُلفظ» من الفسيفساء اللبنانية بعدما دفعت ثمن التاريخ والجغرافيا ومصطلحاتٍ دينية وقومية.
«الراي» تقلّب على حلقاتٍ تاريخ الطائفة اليهودية في لبنان وحاضرها وفصول شبه «تَبخُّرها»، وتضيء على أبرز معالمها الدينية وخريطة انتشارها العقاري، كما تتحدّث إلى بعض أبنائها «المنسيين» الذين تجرأوا على الخروج «إلى الضوء»، وتستعيد أشهر الحكايا التي ارتبطت بها.
في 21 مايو 2017، طوى الموت واحدة من أكثر الحكايا الجاسوسية إثارةً في تاريخ «الغزو» الإسرائيلي المبكّر للبنان، وكان مسرحها بيروت وتضاهي في ملابساتها قصة ايليا كوهين في دمشق... «لؤلؤة» الموساد أو الجاسوسة الساحرة هو التوصيف الذي استحقّته شولا كوهين التي بدأ نشاطها في لبنان العام 1952 وتوفيت في إسرائيل أخيراً.
فمنذ قيام إسرائيل، كانت الدولة المهجوسة بالأمن، تولي اهتماماً عالياً لجهاز الاستخبارات الخارجية المعروف بالـ «موساد».
وكانت أولى الشبكات التي أُسندت إليها أدوار مهمة هي شبكة «ايليا كوهين» في سورية الذي بدأ نشاطه الاستخباراتي العام 1951 قبل أن يُعدم في ساحة المرجة بدمشق في العام 1965، ثم شبكة «شولا كوهين» التي «ازدهر» نشاطها التجسسي بين 1952 حتى 1961.
اليوم، نقلّب صفحات حياة كوهين، أصْلها وفصْلها (وُلدت في الأرجنتين) وكيفية زواجها، ونستعرض «صندوقها الأسود» «الذي غالباً ما استهوت تفاصيله اللواء المتقاعد سامي الخطيب، وهو الذي أشرف على عملية القبض على «لؤلؤة الموساد» وقاد هذه العملية إلى جانب ضابطيْن آخريْن.
على مدى نحو عقد من الزمن كانت كوهين «رأس» شبكة خطيرة، استخدمتْ الدعارة وعاهرات «شِباكاً» للإيقاع بضحاياها واختراق «دائرة المتنفّذين» في الدولة اللبنانية ومراكز القرار ونسْج علاقات مع شخصيات سياسية وأمنية بينها وزراء ونواب. وقد جنّدتْ معها شخصيات لبنانية، أغرتْهم خلالها بالمال والنساء واتخذتْ لـ «نشاطها» 5 بيوت دعارة جهّزتها بواسطة «الموساد» بكل عُدة التسجيل اللازمة، من آلات تصوير سرية وسواها، زُرعت في غرف النوم لتتيح ابتزاز زبائنها فيتحوّلون مصدر معلومات. وقد تمّ كشف عملها التجسسي بالصدفة العام 1961 وصولاً إلى القبض عليها في العام نفسه وسجْنها حتى العام 1967 حين جرى إطلاق سراحها إثر عملية تبادُل أسرى بين لبنان والدولة العبرية.
أمْر العمليات الذي أدار نشاط شولا كوهين كان يتركز على جمْع أيّ معلومات عن النشاطات العسكرية للدول العربية، والأهمّ البحث عن مسؤول لبناني ذي نفوذ قوي في الدوائر الرسمية، تستطيع من خلاله الوصول إلى ما تريده، خصوصاً لجهة تهريب أكبر عدد من يهود لبنان وسورية والعراق إلى إسرائيل عن طريق احدى الثغر في مرجعيون (جنوب لبنان).
واحدة من المهمات «المركزية» التي أوكلتْ إلى كوهين كانت تنفيذ القرار الإسرائيلي بتهجير يهود العراق والدول الأخرى من بلادهم لإرغامهم على التوجّه إلى إسرائيل، ولاسيما أصحاب الثروات. وبالنسبة إلى يهود سورية ولبنان، كان الوضع مختلفاً كون الدولة العبرية تقع على حدود البلدين، وقد تم تسليم شولا كوهين مهمة التفرغ لهؤلاء اليهود، فكانت تعمل على تهريبهم من سورية نحو لبنان كمحطة أولى، ومن ثم تنقلهم إلى إسرائيل عبر الحدود الجنوبية.
لم تكن هذه «المغامِرة» قد تجاوزت الـ 32 من عمرها حين استخدمتْ شكلها الجذاب، وكانت حينها متزوّجة من تاجر يهودي صغير من لبنان هو جوزيف كيشاك، وكان صاحب ميني ماركت في منطقة وادي أبو جميل، وأنجبت منه ثلاثة أولاد، ابنتين وصبيا يدعى إيزاك ليفانون، (أصبح لاحقاً سفيراً لإسرائيل في مصر من العام 2009 حتى 2011).
وفي استعادة لذكريات تلك المرحلة يروي اللواء سامي الخطيب، أن «كوهين عراقية الأصل، وقرّر الموساد الإسرائيلي إرسالها إلى لبنان، وأنجز لها أوراقاً ثبوتية مزوَّرة، ثم تولى إيصالها إلى بيروت في العام 1947، لتبدأ من هناك أولى مهماتها الاستخباراتية».
انتحلت كوهين صفة مندوبة لإحدى الشركات السياحية الاوروبية حين نزلت بادئ الأمر في فندق «غراند أوتيل» وهو أشهر فنادق بيروت آنذاك، ثم انتقلتْ إلى إحدى الشقق الفاخرة في عمارة «الامباسادور» (بين ستاركو وكليمنصو حالياً)، وأوهمت الآخرين بأنها جاءت للبحث عن وكلاء للشركة السياحية الأوروبية في لبنان.
وفي تفاصيل «الصندوق الأسود» لنشاط كوهين بحسب الخطيب، الذي حقّق معها بعد القبض عليها، أنه «بعد مضي أقلّ من عام، رأى الموساد أن يتم تزويجها من يهودي لبناني كستارٍ تعمل خلفه ومن أجل تبرير وجودها في لبنان، فضلاً عن إمكان عملها في الدعارة السرّية بشكل لا يلفت الأنظار إليها، وهكذا تعرّفتْ على جوزيف كيشاك في إحدى المناسبات اليهودية في كنيس أبراهام ماغن في بيروت، وبعد أشهر من اللقاءات تزوجتْ منه وأنجبت أول أولادها، لتنطلق بعدها في رحلة التجسس والعمالة».
أول الخيط في الشبهات التي بدأتْ تحوم حول شولا، كان بعد هجرة جماعية وبأعداد كبيرة ليهود سورية إلى لبنان، إلى جانب وقوع عمليات متشابهة من إفلاس لمصارف ومحال تجارية، وحتى اغتيالات لشخصيات يهودية لترهيب أبناء الطائفة في سورية وحضّهم على ترْك البلاد نحو إسرائيل. فهذه التحرّكات المتكرّرة لفتتْ أنظار الجهات الأمنية السورية، ولاسيما بعد محاولات كوهين جمْع المعلومات السرية عن سورية، وإقامة علاقات مع شخصيات من البلد. ونتيجة لذلك، وُضعت نشاطاتها تحت مراقبة الأجهزة الأمنية السورية، فأرسلت دمشق ضابطاً إلى بيروت في 15 مايو 1958 (حسب الوثائق الموجودة لدى سامي الخطيب ولدى المحفوظات الوطنية) للاجتماع مع نظرائه، ووضْعهم بالصورة عن أعمال شولا المريبة. إلا أنّ هذا الضابط (وهو من آل القوادري)، صُدم عندما أخبروه في لبنان «أن شولا بعيدة عن الشبهات».
غير أنه لم يمض وقت طويل حتى بدأتْ «رائحة» شولا كوهين تفوح بين أوساط الحكومة اللبنانية التي كان يرأسها آنذاك الراحل رشيد كرامي، وكان فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. وأول مَن لفت انتباهه موضوع كوهين وعملائها مطلع العام 1961 كان الضابط اللبناني عزيز الأحدب، الذي قرأ عن طريق الصدفة محضر الاجتماع بين الضباط اللبنانيين والسوريين، وانطلق في رحلة البحث وجمْع المعلومات عنها. وتَزامَن هذا الأمر مع سرقات كبيرة لأوراق وطوابع من وزارة المال، فأوعز إلى الشرطة القضائية وإلى المكتب الثاني (مخابرات الجيش) بمراقبة الأمر والتحرّي عنه.
اللواء الخطيب الذي ينفض الغبار عن تلك الحكاية يقول إن القضية «لم تكن مهمة مخابرات الجيش، ولكن بسبب خطورتها تمّت تكلفتهم بالتعاون مع الشرطة القضائية. وبالفعل قام رئيس شعبة المكتب الثاني العقيد أنطوان سعد بتكليف الملازم غابي لحّود بمراقبة اتصالات ومنزل ومكان عمل محمود عوض، وتمت تكلفتي أنا وملازم آخر يدعى عباس حمدان بالمراقبة. ولم تكن تسمح تقنيات تلك الفترة بإخضاع أكثر من 60 خطاً لعمليات المراقبة، ولم يكن بمقدورنا مراقبة الخطوط بشكل متواصل، إلا أنه في نهاية المطاف اكتشفنا أن عوض يملك أموالاً ضخمة في المصارف، إلى جانب محال وأسهم في شركات سياحية ومصرفية في كل من بيروت وطرابلس. ومن الاتصالات المتكررة لاحظنا تكرار اسم شولا، ومن خلال اتصالاته معها تبيّن أن الحديث كان يدور بينهما عن شخصيات سياسية كبيرة، ومنها أسماء عربية، وأسماء قيادات عسكرية في الجنوب».
ولعل الأكثر إثارة في مسار «الإيقاع» بشولا كوهين كان قيام العقيد سعد بتكليف الملازم ميلاد القارح (مخابرات جيش) بإقامة علاقة غراميّة وهميّة مع كوهين ومراقبة مَن يزورها في منازلها الخمسة. «وخلال تردُّده على منزليْها في الصنائع ووادي أبو جميل، اكتشف أن هناك امرأة ورجلا من آل عبدالله من بلدة الخيام، وراشيل رفول ومحمود عوض هم الأساس في الشبكة المزعومة».
وتَرافق الكمين المحكم الذي نصبتْه الاستخبارات اللبنانية لعميلة «الموساد» مع خطة وُضعت لمراقبة منزلها في وادي أبو جميل والبيوت الأخرى. ففي شهر يوليو من العام 1961 سكن الملازم عباس حمدان في الطبقة الخامسة من مبنى «الإمباسادور»، أي فوق شقة شولا تماماً، وكان يراقب سهراتها اليومية التي غالباً لا تخلو من لعب الميسر والدعارة، ولفتته زيارة عدد من الشخصيات العسكرية والسياسية لها. وبعد مدة اكتشف أن لدى كوهين خطيْن هاتفييْن، وهذا الأمر نادر جداً ولا يحصل إلا داخل بيت مسؤول كبير، كما أنه قام بوضع صحن لاقط (بالمقلوب) على أرضية الشقة للاستماع إلى الأصوات والمحادثات التي تجري داخل منزلها. وفي الوقت نفسه قام أحد عناصر من مخابرات الجيش يُدعى جان ناصيف بتحويل نفسه إلى بائع زهور تحت منزلها، فيما كان معاون آخر له يتنكر على أنه بوّاب العمارة. علماً أن عمليات الرصد أظهرتْ أن زوج كوهين جوزيف كيشاك لم يكن على علم بنشاطها السرّي، كونها أبعدتْ نشاطاتها عن مسكنها الزوجي.
أما الملازم غابي لحّود، فتولّى مراقبة منزل محمود عوض في الروشة. ولم تمرّ أيام قليلة إلا صدر الأمر من العقيد أنطوان سعد بدهْم منازل المتَّهَمين جميعاً. وهكذا، ليل السبت الواقع في 9 اغسطس 1961 (تم اختيار هذا اليوم كونه يوم العطلة اليهودية حيث تكون شولا في منزلها مع عائلتها)، وعند الساعة الحادية عشرة والنصف وصلتْ قوة من الجيش يترأسها الملازم حمدان إلى وادي أبو جميل... راقبتْ الأجواء جيداً، وانتظرتْ ثلاث ساعات قبل أن يتمّ دهْم شقة كوهين. وبالتزامن مع ذلك، وصل غابي لحود مع عناصره إلى الروشة للقبض على محمود عوض، بينما وصل اللواء الخطيب مع مجموعته إلى بحمدون الضيعة ليلقي القبض على منى ونهى وحسين عبد الله. أما بالنسبة إلى راشيل رفول، فقد تم اقتيادها من مكان عملها في أحد الأندية الليلية في كاراكاس (الروشة). ووصل عدد أفراد الشبكة الذين ألقي القبض عليهم 10 أشخاص، أهمّهم شولا وعوض. وبحلول الخامسة من صباح اليوم التالي كان الموقوفون في سجن «القلعة» في منطقة الروشة (تحوّل اليوم إلى مدرسة رسمية للبنات)، وهناك تمّ أخذ اعترافاتهم ما عدا كوهين التي كانت حريصة على عدم البوح بأي شيء.
وبعدما وقعت الشبكة في «الفخ» وإنجاز التحقيقات الأولية، رُفع الملف إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية جورج ملاّط، الذي بدوره أحال الموقوفين على قاضي التحقيق في محكمة بيروت العسكرية الياس رزق الله.
وحُكم على «اللؤلؤة» بالإعدام مع تخفيض العقوبة إلى 20 سنة سجنا كونها كانت المحرّض، أما عوض فحُكم عليه بالمؤبَّد كونه المسؤول المباشر عن تأمين المعلومات والتجسس على المعنيين، فيما كانت عقوبة راشيل رفول وأعوانها السجن 10 سنوات. وبعد سنة على توقيف كوهين، تم ترحيل زوجها وأولادها إلى خارج لبنان، قبل أن يذهبوا إلى إسرائيل. أما محمود عوض، فتوفي في العام 1963 داخل السجن. ويلفت الخطيب في هذا السياق إلى أنه «توفي جرّاء إصابته بمرض عضال ولم يقتله أحد كما أُشيع».
وبقيت كوهين في السجن حتى العام 1967، فبعد حرب الأيام الستة (خلال رئاسة شارل الحلو للجمهورية) جرتْ «مفاوضات عسكرية» بين الطرفيْن اللبناني والإسرائيلي، على أساس أن تُسلّم كوهين إلى السلطات الإسرائيلية مقابل إطلاق الأخيرة 300 موقوف لبناني وسوري وفلسطيني لديها. وتمّت عملية التبادل التي كانت حينها الأولى بين لبنان وإسرائيل عبر الصليب الأحمر الدولي.