الفن وجذور المعاناة الإنسانية

رؤى / محاولة لتجميل الملامح الشائهة

u0645u0646 u0623u0639u0645u0627u0644 u0627u0644u0641u0646u0627u0646 u0631u0636u0627 u062fu0648u0633u062ar
من أعمال الفنان رضا دوست
تصغير
تكبير
| وائل أبورميح |
يبدو الفن - في الظرف التاريخي الحاضر - محاولة لتغيير شيء ما غير مَرْضِيّ في محيط الوجود، يبدو مراوغة سيكلوجية لتجميل قبح انساني يتسم بالأزلية والديمومة المفرطة، وأحيانا يبدو ترنسندنتاليا ازاء وجوده مُتَمَغّرة كالحة الأسارير لا يمكن لعائش في هذا العالم ان يشيح بوجهه عنها! لقد آل التطور الإنساني إلى ترسيخ جذور المعاناة، ودق المزيد والمزيد من أوتاد الشقاء، ولم تعد الامكانات الضخمة التي انتجتها الالة الصناعية بفضل فيوضات العقل البشرية قادرة على حل المشكلات الاكثر استعصاء على الحل كالحروب والاحقاد القومية والعقدية والفقر بكل تداعياته الصحية والاجتماعية ولم يبق غريبا ان نلحظ هذه المهاوى الكبرى في التاريخ الإنساني على كل النقاط المرحلية في المسافة بيننا - نحن ابناء الساعة - وأبينا آدم. وحده الفن كان يحاول المقاومة الصامتة المتجردة، وحده الفن الذي كان يشير بإصبعه السبابة دوما إلى اشكال الشقاء والمعاناة والنبذ والحرمان والفساد، ويحاول ان يبرزها بكل ما فيها من دمامة بغيضة بغية ان يجد البشر في اجتثاثها، وحده الفن كان يرصد حركة الظلم كجدلية كامنة لدى ابناء آدم منذ قتل قابيل اخاه إلى الآن، هذا الفن ظل قابعا وراء كل شجرة، وتحت كل طاولة، وفوق كل ذروة، وداخل كل وهدة، ليتابع عن كثب صيرورة الصراع الإنساني، وتشكله بأشكاله المختلفة في مرايا التاريخ الضخمة وربما كان الفن هو الشاهد الوحيد على المبررات - المنطقية وغير المنطقية - التي كانت تستتر وراء الاحداث، وتنساب عند منابعها حتى في مجتمعنا العربي ظل الفن دوما يلفت النظر إلى مشكلات الواقع ودواعيها وعواقبها، ولكننا درجنا على أن ننظر للفن على أنه تسلية وحسب، وليس الحق إلا خلاف هذا، فالأيام مثلا نُظر اليها على انها سيرة ذاتية حكائية للعلامة الدكتور طه حسين، ولكننا حين نتجاوز هذه النظرة السطحية لنضع أنفسنا في غمرة النص سنكتشف أننا امام شيء آخر يكاد ان يكون سجلا وافيا لاحالات كبرى إلى مشكلات هي من صميم منغصات الواقع الإنساني في كل أطواره.
فمثلا تحاول الايام ان تلفت نظرنا إلى الكيفية التي يمكن للمواطن البسيط جدا في مصر ان يحصل بها على حقوقه الحياتية الأصيلة، وما يعتور هذه الكيفية من عوائق ومصاعب تنحو بالأمور منحى غير طبيعي، وتشير إلى ان هذه الكيفية لا يتم تسييرها في مسارها الطبيعي بآلية نظامية أو قانونية أو حتى عرفية، بل بالصدفة الاعتباطية وحدها، هذه المشكلة مثلا تومئ إيماءً إيحائياً إلى غياب القانون، فمجتمع يعجز فيه الإنسان البسيط عن نيل حقوقه بطريقة ميسورة هو مجتمع القانون الغائب. مثل ذلك ما نجده في (الحب فوق هضبة الهرم) لنجيب محفوظ، فالمشكلة الاجتماعية المطروحة والتي تبدو للعيان تظل تحلل نفسها، وتمتاز إلى اجزائها حتى تقودنا إلى الدرب الذي انبعثت منه، فيتجلى لنا المجتمع المصري عانياً لنمط من التفكير المثالي يصبح حجر عثرة أمام مواصلة الحياة. ويمكننا اعمال النظرة نفسها في روائع الكاتب الكولمبي جابرييل جارسيا ماركيز (مئة عام من العزلة) و(الحب في زمن الكوليرا) و(في ساعة نحس) حيث ترمي رواياته إلى تأسيس رؤية واضحة للحروب والاوبئة تبرز ما يتسببان فيه من اختلالات في العلاقات الإنسانية تفقد الحياة سيولتها وانسيابها، وتخلق منها جلامد صخرية تحد من التطور، وتهشم العواطف، وتساعد على تعقيد اواصر الصلة تعقيدا سلبيا ينشر مناخ الشك والحيرة والضآلة وفقدان الذات. هذا الاسهام الذي يقدمه الفن في مسيس الحاجة إلى ان نتفاعل معه، ليخلصنا من مجموعة هائلة من الاغلال تكبل حركتنا، ان الفن مثلا يمكنه ان يعالج فينا ضيق الافق الفكري، والعجز عن فهم الآخر، والغلق بالاختلاف، والمخايلة بما لدينا، والانغلاق على النفس، والتأثر السلبي بالآخر. إن القرآن نفسه يدعو إلى التفاعل مع الآخر والانفتاح عليه والتواصل معه: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت (46).
إن الفن يخلق المساحة المشتركة لتداني الفكر وتقارب التصورات، وفي ذات الوقت يمكنه ان يقصي النظرة البراجماتية والمنطلق المصلحي الضيق، كما يمكنه الحد - مطلقا - من التحيز الديني والعرقي والقومي، ليبني مجتمعاً كوزموبوليتانيّاً قادراً على استيعاب الاختلاف وهضم التعدد واستمراء البينونة. لست مع ذلك وممن يعتقد في المجتمع اليوتوبي، ولا ممن يرون إمكانية تحقيقه على أرض الواقع، بيد أن الفن يمكنه أن يمنحنا أقرب صورة واقعية لمجتمع بشري شبه مثالي، ولكن هذه الفكرة ذاتها قد تبدو مثالية طوباوية، فكيف للفن - كقيمة إنسانية - أن يقاوم الظلم كفعل إنساني؟ الاجابة انني لست أعتقد في قدرة الفن على تغيير الظلم انتزاعاً ينتزعه من الصدور، ولا حجراً يحجز به الظالمين عن المظلومين، وانما يسهم الفن من خلال نشر الثقافة الانسانية، وبث القيم في خلق مفهوم الألفة وروح التفاهم والتفهم، وأدب التجاور والتحاور، والاستعداد لقبول الآخر المغاير، ووأد الظنون السيئة بأصحاب الاختلاف بغية بلوغ المجتمع الأرقى الذي حض النبي - عليه صلوات الله - على تأسيسه ووضع ركائزه حين قال: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً). ومما آسف له - غاية الأسف - أن يقف بعض المثقفين من ذوي الصدور الضيقة موقفاً مجحفاً من الفن، فيزدروه يذودوا عنه، ضاربين المثل ببعض أعمال سينمائية ترتكس في وحل الاستثارة الجنسية الفجة، وتعمد الى مخاطبة الغريزة الدنيا دون العقل والوجدان، وحجتهم داحضة، لأن هذه الأعمال تنتمي تحديداً الى صناعة رأسمالية عمياء هدفها الربح المجرد، وليس من قصدها أصلاً خدمة الثقافة أو سدانة الفن، فهي مجرد مظهر اقتصادي استغلالي لآليات السوق الفنية تعكس الرغبة في الاثراء السريع عبر جسر الفن دون ان يكون لهذا الأخير اي قيمة في ذاته، وان كنا لا نجحد وجود أعمال فنية كبرى يلحُّ على نسيجها الهاجس الجنسي كما هي الحال في (الدروب الظليلة) المجموعة القصصية الشهيرة للكاتب الروسي الكبير ايفان بونين، أو في (كائن لا تحتمل خفته) لميلان كونديرا، هؤلاء ينظرون الى هنات الفن ومغامزه، ويشيحون عن فوائده ومناقبه، فيعتبرونه داعية الرذيلة والتفسخ الأخلاقي، وما هو إلا داعية الفضيلة، فما أشبه الفن حين يعرض للرذيلة بالوالد حين يذكر لولده الخلة القبيحة، فهو لا يذكرها له ليأتيها وإنما لينأى عنها، وإلا فمن الذي يزعم أن قصة أوديب تحض على زواج الرجل بأمه أو تستمرئ شناعته؟! ان هذه النظرة لا يمكن أن تنتج الا عن عدم الوعي بقراءة الأعمال الفنية، وضعف الاستغراق فيها، وقلة اعتياد السباحة في نهر الفن وارتياد شواطئه ومرافئه، تلك النظرة التي حرمتنا استكشاف أنفسـنا - بتملي الفن - والآخرين، وأعاقتنا عن الاستفادة بالفكر المغاير، وثمرات القرائح المختلفة، ثم أودت بنا في النهاية الى أن نعتبر الفن نشاطاً خلاعياً.
لقد فشل المجتمع الإنساني الحالي في الوصول الى حالة الاتحاد من خلال الدين، رغم أن الله تعالى أوجده، ليلتف الناس حوله أمة واحدة، ولكن الناس اختلفوا فيه، فلم يبق إلا العرف الذي يمكنه أن يجمع الناس على المبادئ الثوابت والأصول القواعد كاحترام حقوق الإنسان - أي إنسان - ومحاربة الفقر والمرض واطعام الجياع واعالة اليتامى والأرامل، وقبل كل شيء سيادة القانون، هذا العرف لا يمكننا انتاجه وتعميمه الا من خلال الفن الذي تضمن كثافة حضوره وعمق تأثيره اعادة صياغة المجتمع وأخلاقياته بشكل تطويري متجدد.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي