مثقفون بلا حدود / التعليم عن بعد... ما له وما عليه!

تصغير
تكبير
«يعرّف القانون الفرنسي التعلم من بعد بأنه ذلك النوع من التعلم الذي لا يتطلب حضور المعلم بصفة دائمة في قاعات الدراسة، وإنما يمكنه التواجد فقط في بعض الأوقات للقيام بواجبات مختارة تتطلبها عملية التعلم».ا.هـ

هذا تعريف من جملة تعريفات منها من سبق هذا التعريف ومنها من جاء بعده تباعا، سواء أكان على مستوى مؤسسات معنية بالتعليم عن بعد أم أفراد متخصصين مثل (هولمبرج: Holmberg – ومور: Moore- وبيترز: Peters) وغيرهم. بعد ذلك بدأ التعليم عن بعد يحقق نجاحا في أهدافه، وإنجازا في مخرجاته، لربما كانت البدايات ضبابية في الصورة التعليمية إلا أنها شيئا فشيئا بدأت غاياتها تتضح، ومهامها تتحقق رويدا رويدا، واستطاعت هذه المنظومة التعليمية (التعليم عن بعد) أن تشكل خطا موازيا أو رديفا لا غنى عنه للتعليم العام والعادي، إلا أن التعليم عن بعد لم يكن تعليما تربويا محضا، بل كان تعليما علميا، وهذا ما أشار إليه تعريف القانون الفرنسي في عبارته (ذلك النوع من التعليم الذي لا يتطلب حضور المعلم بصفة دائمة في قاعات الدراسة، وإنما يمكنه التواجد فقط في بعض الأوقات للقيام بواجبات مختارة تتطلبها عملية التعلم)، وهنا لا حظ علماء التربية والتعليم هذا البون الشاسع الذي أحدثه التعليم عن بعد، بعد أن كان التعليم مرتبطا ارتباطا وثيقا بالتربية من خلال المعلم سيد الفصل؛ لذلك ترى جميع الوزارات المعنية ببدايات التعليم تسمى وزارات التربية أولا، ثم التعليم ثانيا. إذن محور العملية التربوية والتعليمية هو الدارس. والدارس في التربية والتعليم بمثابة الشخصية الرئيسة أو المحورية في القصة أو الرواية، بمعنى أنه يأخذ كل الأبعاد البدنية والنفسية والاجتماعية وغيرها، وما ينطبق على دارس التعليم العام والعادي الذي يرتاد المدرسة يوميا ينطبق تماما على دارس التعليم عن بعد ولكن- وحري بنا أن نقف ونضع خطين باللون الأحمر تحت لفظة «ولكن»- لو قدّرنا أن عنصري الزمان والمكان حجرة عثر في تحصيله الدراسي أو التعليمي، ولو قدّرنا أن حالته المادية متردية وضعيفة، يبقى لنا المراحل العمرية، فلا أظن أن التعليم عن بعد يصلح للناشئة، أي من سن رياض الأطفال حتى شهادة الثانوية العامة، ففي هذه المراحل الدراسية الأولى يحتاج الدارس إلى معلم يتناغم ويتفاعل معه وجها لوجه، خلافا لكبار السن الذين لم يتحصلوا على تعليمهم بسبب أي ظرف من الظروف التي ذكرناها آنفا. فالعملية هنا عملية تعليمية بحتة، منزوعة التربية؛ إن جل اهتمام الدارس فيها أن يمحو أميته ويثقف نفسه ويتعلم القراءة والكتابة لمعرفة ما يدور حوله في العالم الخارجي، وهذا حق مشروع كفلته كل الأديان السماوية وكل الدساتير الوضعية، يقول الباحث الدكتور وليد خضر الزند: «إن برنامج التعليم عن بعد والتعليم المفتوح ينبع من حاجة الإنسان إلى التعليم والتي أكدتها الشرائع السماوية وحقوق الإنسان في العالم، ومن ثم فإنها تستهدف تحقيق هذه الحاجة في تحقيق الذات في مجال استيعاب منجزات العلم والمعرفة، ليس عن طريق المؤسسات العلمية التقليدية والتي تستخدم في الغالب نمطا تعليميا واحدا يركز على السمع والبصر، بل عن طريق طاقات الإنسان الخلاقة الأخرى»ا.هـ.

ففي كل الأحوال نحن لا نشجع التعليم عن بعد في المراحل الأولى من التعليم تحت أي ظرف من الظروف، فإذا كانت حالة الدارس المادية جيد ولكنه من سكان المناطق البعيدة والنائية والمتطرفة والسواحيلية والصحراوية والجبلية، فننصحه أن يترك مكان سكنه ويذهب لتحصيل العلم، حيث إن محيط المؤسسة التربوية التعليمية تحتوي على أجواء تسهم في تكوين الدارس وتساعده على الفهم والاستيعاب وتبني له شخصية مستقلة بذاتها من مثل (شراء الكتب واختيار كتب المطالعة، والتنقل من درس إلى آخر، الاحتكاك بالعالم الخارجي أثناء التنقل وكيفية التعامل معه، الزيارات الميدانية والرحلات، تكوين أصدقاء في كل مرحلة عمرية...إلخ)، كل ذلك بلا شك يدخل في صميم العملية التربوية والتعليمية، وقد نوّه الباحث الدكتور محمد عطا مدني، على أن عيوب ومشكلات التعليم تكمن في «قص المناقشات الجامعية والحوار المباشر الذي يثري العلمية التعليمية ويصبغها بطابع الحيوية والنشاط، يشعر الدارس في التعليم من بعد بالعزلة الدراسية والاجتماعية، مما يسبب له الخمول في مواصلة دراسته»ا.هـ

أما إذا كان الدارس داخل المدينة وقريب من الجامعة أو الكلية وليس لديه رسوم الجامعة أو الكلية، ننصحه إذا ضاقت به كل سبل تحصيل المال من المساعدات أو المنح أو اللجان الخيرية؛ فعليه أن يعمل عملا شريفا، لمواصلة دراسته والحضور الشخصي لتلقي العلم والمعرفة، تجنبا للمعاناة التي يحدثنا عنها الباحث الدكتور طارق عبدالرؤوف، قائلا: «معاناة الجامعي عن بعد من انخفاض المكانة الاجتماعية حيث يعد تعليما من الدرجة الثانية، يرتاده فقط من لم يقدر أكاديميا أوماليا على امتلاك أشكال التعليم التقليدي»ا.هـ،

وقد لمسنا ذلك في الأوفر حظا بفرص العمل، فهناك جامعات ومؤسسات ووزارات لا تقبل في التعيين من يحمل شهادة التعليم عن بعد، ويعدّون مخرجات التعليم عن بعد أقل شأنا علميا من التعليم العادي.

لعلي أسأل سؤالا وجيها بالنسبة للزيجات المبكرة- ولاسيما- في الأرياف والمناطق النائية، تجد البنت قد تزوجت وهي في السادسة عشرة من عمرها، ولا تكاد تصل العشرين من عمرها إلا ولديها ثلاثة من الأبناء على أقل تقدير، وبعد فترة من الزمن سوف تجد صعوبة في التواصل معهم ثقافيا وعلميا واجتماعيا خاصة البنات، وهي بهذه الفترة قد تخلت عن دراستها من أجل الزوج والبيت وتربية الأولاد، أفلا يحق لها أن تواصل تعليمها بواسطة التعليم عن بعد، لكي تكون قريبة من فكر وثقافة أبنائها؟! كذلك الشاب الذي تعرضت أسرته لظروف مثل فقدان رب الأسرة المعيل، فوجد هذا الشاب نفسه أمام تحمل مسؤولية أسرة من أم وأخوة يصرف عليهم ويعيلهم بسن مبكرة، بعد فترة من الزمن أفلا يحق لهذا الرجل أن يواصل سلم تعليمه الذي أوقفته الظروف عند مستوى معين من التعليم؟!

* كاتب وباحث لغوي كويتي

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي