رؤى
إهداء خاص للجندي الغالي... وعد الشفاء
أرى في الشوارع الناس وقد التفوا في أوشحتهم، فقد رحل الشروق البرتقالي تاركا الشتاء مع أمانيه الدافئة، وأنا أضع سماعات الجوال في أذني، جزء مني يعيش مع الأغاني، وآخر في مكان بعيد يقبع هناك على حدود البلاد، على التراب البارد حيث نشبت خيام الحراسة كالعقد اللؤلؤي حول عنق الأرض، لا أدري إن كان يأكل جيدا، كنت قد أوصيته أن يهتم بنفسه لأجل الوطن ولأجلي.
لا أدري إن كان يفترض بي أن أمسح تلك الدمعة الشقية التي تغزو ابتسامتي المجنونة المفاجئة في زحام الحافلة، حين أقلب بين صورنا والتسجيلات التي جمعناها لنزهاتنا، أم الذكريات التي تصحبني إلى المثلجات الضخمة التي ظلت تنسكب قطراتها طول الطريق، أم أعود لسنوات حيث كنا ندرس على الهاتف، كنا صغارا لدرجة لم نتوقع بها أن الحياة تزرع بداخلنا بذرة لحياة جديدة، فذلك الطبيب الصغير قد صلب جدرانه الحب، هزم الحاضر واصطحبني معه في رحلة عمر صادقة وجميلة، ووصلت به أكتاف المسؤولية حتى اختير ليصير مقاتلا لائقا في صفوف الجيش والخدمة العسكرية، يزرع طبه وعلمه للحضور. حين أسرح في المستقبل أرى طبيبين حالمين كبرا معا، هزما جروحا وحروبا من كل الأشكال، سيبنيان غدا مزدهرا ويبدآن من بيتهما الصغير، هناك متعة غريبة تجعلني أمسك أقلامي وأدرس بقوة في عام تخرجي، ورغم أنه الأصعب أراه من أكثر الأعوام التي ستحفر بزهوها في عظامي، أعطاني سحرا مميزا لأحتفظ به في قلبي، وأواصل به في أيام بعده الغابرة، مازلت أسمع صوته في كل لحظة فما أروع أن يكون الحبيب معلما! لا أحتاج عينين لأرى بهما ملامحا ارتسمت في فؤادي، إني أحفظ نظراته الحانية كما يحفظ ضحكاتي وخطواتي، إني كباحثة من عالم القصص تناجي الحمام المطوق أن يوصلني به، ليشفي آلاما تمزق ضلوعي، هناك حيث يوجد ذلك الشيء الذي ينقبض في صدري كحرارة رمل الشواطئ في أُوار عنيف، يجلجل أنفاسي رعد الاشتياق إلى أحاديثنا كأني في اختبار صعب، ماذا لأفعل! فابنة قلبك قوية كالأغصان لا تكسرها رياح عاصفة، وإنما يشققها سيول الشوق لرائحتك وصوتك، كالنرجسة الصغيرة ما يربطها على القمم الصخرية هو جذور إيمانها، وأنت جذوري وصديق عمري، فلكيف تسري الحياة من دون ذلك الذي سخر سعادته لحمايتي، جعل متعته في إسعادي، خلق من حياته بستانا مشرقا وسجادة حمراء لتسري عليها قدماي كأميرة في كتاب، يرى فوق رأسي ذلك التاج المرصع الشفاف، لي صورة خاصة في عمق أحشائه، همش الحزن ودفنه لأجل استحرامه رؤية دمعة من عيني، أدرك أن الورود لا تنمو في الصحارى فكان هو لي التربة وكنت له الوردة، لطالما نكست رايات الصعاب أمام قدميه، فككت له طلاسم وألغاز، منحته من عقلي وأمومتي فهو الأب والابن، إني لا أسرد قصة من قديم الزمان، ولكنني أصف شعورا راجحا مرهفا متعال خلق طفرة في الزمن، إننا نعيش في عالم البرود والفتور، لكن حيثما يجتمع الألماس تجد الصائغ، وحيثما يجتمع المحصول تجد المزارع، وحيثما يجتمع الشعور تجد القلوب المتشابهة المتشابكة كتوائم الروح، يقال في الأساطير أننا خلقنا ثنائيات، ولكن أحدا ما فصلنا فصار كل كيان يبحث عن مكمله وعن إنسان يفقد معنى الوجود بغيابه، يتخاطر معك بالأفكار، ترسل من عينيك إشارات لعقله، يراك في أحلامه، تسمعه في كل ذبذبات تصل إلى أذنك، وهكذا نحن، وفي عالمنا الذي تهيمن على أسطحه القواعد، عندما تحب القانون الذي يربطك بجوار حبيبك، فإنك ستهوى ربط حزام الأمان واتباع تعليمات القيادة في درب الحب والهوى.
قبل القمة يوجد الصخر المتعلثم والأراضي المتعجرفة، دهاليز في الجوف، عواء في الظلام، قبل القمة سلالم مزخرفة بالأشواك، ليال كالأثمد، منحدرات طاحنة، مشكلات متشابكة، لا انتصار بلا عرق، بلا ألم، فالحب للشجعان، لا يرتفع البناء بلا أياد صامدة وأرواح بريئة ناصعة كلمعة الماء العذب، بالإيمان أن من يحرك مفاتيح الكون يسكن الأعالي، لا يخيب واثقا ألقى صنارته راغبا في الحياة، القلوب النظيفة تنفض غبار اليأس من كفيها تهزم غشاوة الليل، وينتصر الفجر البديع، الإيمان يغسل الزرع، الدموع تطهر العشب من الطفيليات، كما يطهر الحب أنفسنا وينقيها، الشر دوما يكره السعادة، يضرم النار في ضعفاتنا، يملأ بالضوضاء عقولنا، يضخ الخوف في أحلامنا، ولكن الحب الصادق هو الجبل الراسي عبر القرون، ورغم كل الكوارث الطبيعية وبعد الأعاصير المخلخلة يبقى وسام الأرض ، وتتحول الأيام لكلمات عظيمة مكتوبة في مذكرات ملأتها بطولات حبنا الغالي، فكيف تربي أطفالا وتعلي أجيالا إن لم تحمل لهم قصة عن أبوين متحابين، ضاقت بهما الحياة، فبنيا لأنفسهما أزهارا فوق الرماد.
الطبيب هو العاطفة، هو أكثر ابتسامة مشرقة في وجه متعب، هو مترجم لبهجة مقيدة خلف الوجع، ويأتي وعد الشفاء كالضمادة القطنية ترطب الإحساس، وعدني بالشفاء، أخبرني بالرجوع إلى أحضاني قريبا، بإزالة الأمطار من عيني بيديه كما اعتاد، بناء مستقبل منير وحياة رقيقة مع صغيرته المدللة، وعدني برحلة في مركب مزين على بحر سعيد، بحياة ربيعية حنونة، بدفء يحتويني، بنور يخبط نوافذي عند التعب، بشمس تغني كل صباح لنا فقط، وعدته بالصبر والثقة، وعدته بالسعادة والهناء، بتطييب خاطره كالبلسم، فإن كنا نزور الأرض مرة واحدة، لما لا نحفر عليها حبا يخلد بدوام المجرة والكواكب، حبيبي الجندي الباسل والليث الأمين الصادق الذي ما يلبث وأن يستجيب لنداء الرجولة كلما تناديه، أراهم أبطال بلادنا، يصطفون كالسهام أمام البرد القارص، يتوهجون رغم نهش الجوع وألم الجسد، أرى انعكاسا لصورته مع النجوم، أرى وجهه ينظر إلي كما رأيته يوم الرحيل، دواؤه عناقي القوي الذي أرجف جسدانا، يتلمس شعري ووجنتي كعاشق بليغ، عيناه تلقيان شعرا في حبيبته الفراشة ذات الفستان الناعم، وضع حول رأسي طوقا من السنابل والزهور، ثم ضغط على يدي لنستمد من بعضنا القوة، توهجت روحانا كالفنار العابر في الشفق، وهطل البرد يهمس في أذنينا آخر كلمات قبل المغادرة.
* كاتبة مصرية
لا أدري إن كان يفترض بي أن أمسح تلك الدمعة الشقية التي تغزو ابتسامتي المجنونة المفاجئة في زحام الحافلة، حين أقلب بين صورنا والتسجيلات التي جمعناها لنزهاتنا، أم الذكريات التي تصحبني إلى المثلجات الضخمة التي ظلت تنسكب قطراتها طول الطريق، أم أعود لسنوات حيث كنا ندرس على الهاتف، كنا صغارا لدرجة لم نتوقع بها أن الحياة تزرع بداخلنا بذرة لحياة جديدة، فذلك الطبيب الصغير قد صلب جدرانه الحب، هزم الحاضر واصطحبني معه في رحلة عمر صادقة وجميلة، ووصلت به أكتاف المسؤولية حتى اختير ليصير مقاتلا لائقا في صفوف الجيش والخدمة العسكرية، يزرع طبه وعلمه للحضور. حين أسرح في المستقبل أرى طبيبين حالمين كبرا معا، هزما جروحا وحروبا من كل الأشكال، سيبنيان غدا مزدهرا ويبدآن من بيتهما الصغير، هناك متعة غريبة تجعلني أمسك أقلامي وأدرس بقوة في عام تخرجي، ورغم أنه الأصعب أراه من أكثر الأعوام التي ستحفر بزهوها في عظامي، أعطاني سحرا مميزا لأحتفظ به في قلبي، وأواصل به في أيام بعده الغابرة، مازلت أسمع صوته في كل لحظة فما أروع أن يكون الحبيب معلما! لا أحتاج عينين لأرى بهما ملامحا ارتسمت في فؤادي، إني أحفظ نظراته الحانية كما يحفظ ضحكاتي وخطواتي، إني كباحثة من عالم القصص تناجي الحمام المطوق أن يوصلني به، ليشفي آلاما تمزق ضلوعي، هناك حيث يوجد ذلك الشيء الذي ينقبض في صدري كحرارة رمل الشواطئ في أُوار عنيف، يجلجل أنفاسي رعد الاشتياق إلى أحاديثنا كأني في اختبار صعب، ماذا لأفعل! فابنة قلبك قوية كالأغصان لا تكسرها رياح عاصفة، وإنما يشققها سيول الشوق لرائحتك وصوتك، كالنرجسة الصغيرة ما يربطها على القمم الصخرية هو جذور إيمانها، وأنت جذوري وصديق عمري، فلكيف تسري الحياة من دون ذلك الذي سخر سعادته لحمايتي، جعل متعته في إسعادي، خلق من حياته بستانا مشرقا وسجادة حمراء لتسري عليها قدماي كأميرة في كتاب، يرى فوق رأسي ذلك التاج المرصع الشفاف، لي صورة خاصة في عمق أحشائه، همش الحزن ودفنه لأجل استحرامه رؤية دمعة من عيني، أدرك أن الورود لا تنمو في الصحارى فكان هو لي التربة وكنت له الوردة، لطالما نكست رايات الصعاب أمام قدميه، فككت له طلاسم وألغاز، منحته من عقلي وأمومتي فهو الأب والابن، إني لا أسرد قصة من قديم الزمان، ولكنني أصف شعورا راجحا مرهفا متعال خلق طفرة في الزمن، إننا نعيش في عالم البرود والفتور، لكن حيثما يجتمع الألماس تجد الصائغ، وحيثما يجتمع المحصول تجد المزارع، وحيثما يجتمع الشعور تجد القلوب المتشابهة المتشابكة كتوائم الروح، يقال في الأساطير أننا خلقنا ثنائيات، ولكن أحدا ما فصلنا فصار كل كيان يبحث عن مكمله وعن إنسان يفقد معنى الوجود بغيابه، يتخاطر معك بالأفكار، ترسل من عينيك إشارات لعقله، يراك في أحلامه، تسمعه في كل ذبذبات تصل إلى أذنك، وهكذا نحن، وفي عالمنا الذي تهيمن على أسطحه القواعد، عندما تحب القانون الذي يربطك بجوار حبيبك، فإنك ستهوى ربط حزام الأمان واتباع تعليمات القيادة في درب الحب والهوى.
قبل القمة يوجد الصخر المتعلثم والأراضي المتعجرفة، دهاليز في الجوف، عواء في الظلام، قبل القمة سلالم مزخرفة بالأشواك، ليال كالأثمد، منحدرات طاحنة، مشكلات متشابكة، لا انتصار بلا عرق، بلا ألم، فالحب للشجعان، لا يرتفع البناء بلا أياد صامدة وأرواح بريئة ناصعة كلمعة الماء العذب، بالإيمان أن من يحرك مفاتيح الكون يسكن الأعالي، لا يخيب واثقا ألقى صنارته راغبا في الحياة، القلوب النظيفة تنفض غبار اليأس من كفيها تهزم غشاوة الليل، وينتصر الفجر البديع، الإيمان يغسل الزرع، الدموع تطهر العشب من الطفيليات، كما يطهر الحب أنفسنا وينقيها، الشر دوما يكره السعادة، يضرم النار في ضعفاتنا، يملأ بالضوضاء عقولنا، يضخ الخوف في أحلامنا، ولكن الحب الصادق هو الجبل الراسي عبر القرون، ورغم كل الكوارث الطبيعية وبعد الأعاصير المخلخلة يبقى وسام الأرض ، وتتحول الأيام لكلمات عظيمة مكتوبة في مذكرات ملأتها بطولات حبنا الغالي، فكيف تربي أطفالا وتعلي أجيالا إن لم تحمل لهم قصة عن أبوين متحابين، ضاقت بهما الحياة، فبنيا لأنفسهما أزهارا فوق الرماد.
الطبيب هو العاطفة، هو أكثر ابتسامة مشرقة في وجه متعب، هو مترجم لبهجة مقيدة خلف الوجع، ويأتي وعد الشفاء كالضمادة القطنية ترطب الإحساس، وعدني بالشفاء، أخبرني بالرجوع إلى أحضاني قريبا، بإزالة الأمطار من عيني بيديه كما اعتاد، بناء مستقبل منير وحياة رقيقة مع صغيرته المدللة، وعدني برحلة في مركب مزين على بحر سعيد، بحياة ربيعية حنونة، بدفء يحتويني، بنور يخبط نوافذي عند التعب، بشمس تغني كل صباح لنا فقط، وعدته بالصبر والثقة، وعدته بالسعادة والهناء، بتطييب خاطره كالبلسم، فإن كنا نزور الأرض مرة واحدة، لما لا نحفر عليها حبا يخلد بدوام المجرة والكواكب، حبيبي الجندي الباسل والليث الأمين الصادق الذي ما يلبث وأن يستجيب لنداء الرجولة كلما تناديه، أراهم أبطال بلادنا، يصطفون كالسهام أمام البرد القارص، يتوهجون رغم نهش الجوع وألم الجسد، أرى انعكاسا لصورته مع النجوم، أرى وجهه ينظر إلي كما رأيته يوم الرحيل، دواؤه عناقي القوي الذي أرجف جسدانا، يتلمس شعري ووجنتي كعاشق بليغ، عيناه تلقيان شعرا في حبيبته الفراشة ذات الفستان الناعم، وضع حول رأسي طوقا من السنابل والزهور، ثم ضغط على يدي لنستمد من بعضنا القوة، توهجت روحانا كالفنار العابر في الشفق، وهطل البرد يهمس في أذنينا آخر كلمات قبل المغادرة.
* كاتبة مصرية