لبنان يطوي الإثنين فراغ الـ 900 يوم بانتخاب رئيسٍ جديد 6 / وصل أخيراً إلى ما حارب من أجله طويلاً
ميشال عون عن ميشال عون... رجل لا يُتوقّع
عون رافعاً شعار «التيار الوطني الحر»
الجنرال مع بناته
... ومع الرئيس الحريري يوم تبني الأخير ترشيحه
أصغر قائد للجيش وأكبر رئيس للجمهورية
خصومه يكرهونه إلى حدٍّ لا حد له وأنصاره يحبونه حباً... لا يوصف
تحدّى الطقس الباريسي البارد بزراعة «الملوخية»
«زمّور» الجنرال غالباً ما أقلق سلطة الوصاية السورية
خصومه يكرهونه إلى حدٍّ لا حد له وأنصاره يحبونه حباً... لا يوصف
تحدّى الطقس الباريسي البارد بزراعة «الملوخية»
«زمّور» الجنرال غالباً ما أقلق سلطة الوصاية السورية
الزمان: الإثنين 31 أكتوبر 2016... إنه الإثنين الكبير الذي ما بعده ليس كما قبله. إثنين تأخّر وصوله نحو 900 يوم، وهو يوم ينطوي على ألف سؤالٍ وسؤال.
المكان: مبنى البرلمان في ساحة النجمة وسط بيروت. المبنى الشاهد على حال الجمهورية في حُلوها ومُرها، يفتح أبوابه لحقبةٍ جديدةٍ يصعب التكهّن بـ «خيْطها الأبيض من الأَسْود».
صندوق زجاجي لـ «الاقتراع السري» و127 ورقة. مرشّحان بأوزانٍ متفاوتة وتحالُفاتٍ متداخلة و«حبسُ أنفاسٍ». مطرقةٌ ورئيسٌ وقسَم. أسارير، وجوم، وما بين بين.
فبعد 29 شهراً من جمهوريةٍ مقطوعة الرأس، يشقّ «الرئيس الجديد» طريقه إلى القصر المهجور غداً الاثنين بعد معركةٍ بين المرشحيْن الحليفيْن «أبناء الخط الواحد»، زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، ورئيس «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية.
العماد عون، الأوفر حظاً، كسَب المعركة قبل لعبة التصويت بعدما وفّى الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله بوعده إلى حليفه المسيحي الرقم واحد، وصولاً إلى تقديمه ما اعتبره «تضحيةً كبيرة جداً» بعدم الممانعة في عودة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة، فيما تجرّع الحريري «المخاطرة الكبرى» لإنهاء الفراغ الرئاسي بتبنّيه ترشيح عون، أكثر خصومه السياسيين شراسةً.
النائب فرنجية «المرتاح» لتكريسه منافساً قوياً ورئيساً مؤجلَّاً لما بعد عهد عون، يخوض معركة «أصواتٍ»، وخلفه يحتشد خصوم «الجنرال» على تَعدُّد ولاءاتهم، وفي مقدّمهم رئيس البرلمان نبيه بري، الذي توعّد العهد العتيد بمعارضةٍ شرسة قد تُفسِد على العماد عون «شهر العسل» الرئاسي في القصر.
كل ذلك يجري من خلف ظهر الإقليم المشتعل بين جبابرة المنطقة والعالم. ربما هي من المرات النادرة التي يُترك للاعبين محليين في لبنان تَدبُّر أمر رئاستهم، بعدما كانت «كلمة السرّ» الخارجية حاسمةً في تغليب الكفة ورسْم مصائر العهود والتحكم بخياراتِ زعماء «الجمهورية الهشّة».
ومع الاستعداد لوداع «فخامة الفراغ» واستقبال فخامة جنرال آخر في القصر، تفتح «الراي» ملفاً على حلقات يتناول «صناعة» الرؤساء في لبنان والسيرة الصاخبة للعماد عون و«رئيس الظلّ» في جمهوريته، صهره الوزير جبران باسيل، وحكاية مُنافِسه منذ أن كان «سليمان الصغير» وحتى بلوغه «حافة» القصر. ويتضمن الملف أيضاً إطلالة على تجربة «زعيم المعارضة» في العهد الجديد الرئيس بري، وتحقيقاتٍ عن سيّدات القصر والتحديات السياسية والاقتصادية التي تنتظر المرحلة الجديدة.
قد يكون اللقب الأحبّ الى قلبه الذي حمله منذ العام 1984 هو الجنرال. لكن اللقب الذي سعى اليه منذ العام 1988 هو فخامة الرئيس. منذ 28 عاماً وهو المرشّح الدائم الى رئاسة الجمهورية، ويعود اليوم الى قصر بعبدا الذي خرج منه العام 1990 تحت وابل قصف الطائرات السورية والمعارك الشرسة.
يدخل عون القصر الجمهوري بالبذة المدنية وبانتخابٍ ديموقراطي بمعيار الحد الادنى، ولو شكلياً، بعدما اتُفق على اسمه بتسوية داخلية حظيتْ بغطاء اقليمي ودولي، وهو الذي كان دخله في المرة الاولى بالبذة العسكرية وبذراعٍ مكسورة ملفوفة بالرباط الابيض، حين سلّمه الرئيس امين الجميل مقاليد الحكومة (العسكرية) الانتقالية كما كان يسمح الدستور ما قبل الطائف.
رجلٌ عسكري بكل ما للكلمة من معنى، ورجلٌ سياسي ايضاً بامتياز، وإن كان وصل الى السياسة بصدفة لا يزال كثر من السياسيين يتّهمون الرئيس الجميّل بانه مسؤول عنها. لكنه كان قد بدأ سابقاً اقترابه من العمل السياسي حين دخل الى الحلقة المقرّبة من الرئيس بشير الجميل حين كان لا يزال الأخير قائداً لـ «القوات اللبنانية» وقبل ان يصبح رئيساً (اغتيل بعدها). وتَأثّر عون بالرئيس كميل شمعون الذي يحلم ان يكون على خطاه، وكان على علاقة وطيدة برئيس حزب الوطنيين الاحرار داني كميل شمعون احد المقربين منه، على عكس الخصومة الحادة التي تجمعه اليوم مع شقيقه دوري كميل شمعون.
قد يكون من أكثر الشخصيات اللبنانية التي جمعت هذا الحدّ من الحلفاء والأعداء، يكرهه خصومه السياسيون والإعلاميون والمواطنون العاديون، كرهاً لا حدّ له. ويحبّه مناصروه حباً لا يوصف، الى حدّ انهم تبعوه من قصر بعبدا حيث تبرّعوا بأموالهم لحملة تحرير لبنان وخاصموا من أجله «القوات اللبنانية»، يوم كان يخطب بهم في اواخر الثمانينات «يا شعب لبنان العظيم». ولم يتركوه حين انتقل الى المنفى الباريسي، ولحقوه الى الرابية العام 2005 ولبّوه في الشارع حيث تظاهروا واستوطنوا الخيم، وصولاً الى الانتخابات النيابية التي أتت به «زعيماً» مسيحياً.
حيث يكون هو يكونون هم، من دون اي اعتبار او نقاش او حوار. فما يقوله «الجنرال» يصبح مسلَّماً به. جرّهم الى حربٍ مع «القوات» وضد سورية، وضد «تيار المستقبل» وعاد بهم الى سورية وبراد حيث زار أرض القديس مارون، وبدأ حملة لإعمار كنيسة هناك. اتى بهم الى تفاهم مع «حزب الله»، وصار العونيون يرفعون صوره وصور الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في منازلهم. من عداء مزمن مع «القوات اللبنانية»، عاد بمناصريه الى تفاهم مع «القوات»، فانتقلوا معه الى مصالحة مسيحية داخلية. رحّبوا بالنائب سليمان فرنجية وخاصموه حين ترشّح ضدّ جنرالهم، كما فعلوا مع الرئيس سعد الحريري لانه لم يرشّحه. أما اليوم فلديهم حليفان جديدان الحريري وجعجع.
شكّل حالة شعبية نادرة في لبنان. يرى نفسه الجنرال شارل ديغول لبنان، دافع عن حرية لبنان وسيادته ضدّ الوجود السوري وكان عرّاب القانون الأميركي لمحاسبة سورية ولم يكن بعيداً عن القرار الدولي 1559، ويرى فيه خصومه مدمِّر آخر مداميك الجمهورية الأولى وطلائع الجمهورية الثانية.
عصبيّ الى أقصى الحدود، ولطيفٌ في المجالس الخاصة، يتصرّف بأبوّة، لكنه حاسم في تصرفاته ولا يتراجع عنها بسهولة. حين يتعاطى بهدوء مع اي قضية، فيعني ان هناك شيئاً ما مخفياً في قرارة نفسه. يحبّ الإعلام ولا يترك مناسبة إلا يظهر فيها، لكنه لا يحب مَن يعارضه الرأي، ومشهور عنه جملة حوادث مع إعلاميين، يصرخ فيهم ويُسكِتهم. هاجمه إعلاميون كثر، ورفع دعاوى قضائية كثيرة في حق مَن هجاه، وقاطَع صحافيين ومنعهم من لقائه او حتى دخول مقرّه.
يقرأ كثيراً ويحفظ كثيراً. وقد تكون إقامته في فرنسا (على مدى نحو 14 عاماً) ساهمت في تعزيز هذا الجانب لانه كان يمضي أيامه في المنفى في القراءة والكتابة وتوجيه الرسائل السياسية للدول ولمناصريه على السواء. يستمع الى الموسيقى الكلاسيكية ويهتمّ بالحيونات الأليفة، وبالحديقة الصغيرة التي تحوط بمنزله في الرابية.
وتروي ابنته كلودين لجريدة «المستقبل» العام 2005 «كيف يهتم والدها بالحيوانات الاليفة، وبالزراعة، وكيف حاول على مدى عامين زرع الملوخية في (هوت ميزون) حيث البرد القارس يمنع نمو هذه النبتة لكنه نجح في العام الثالث».
تعيده الحدائق الى ذكريات طفولته في حارة حريك. فهو ابن الحارة التي صارت تُعرف بمعقل «حزب الله» في الضاحية الجنوبية لبيروت. لكن حين وُلد فيها عون عام 1935، كانت الحارة ضيعة ريفية يغلب عليها الطابع المسيحي. والده نعيم عون ووالدته ماري. تلقى علومه في مدرسة الفرير الجميزة، ودخل الى المدرسة الحربية العام 1955. تزوّج في 1968 من ناديا الشامي وله ثلاث فتيات: ميراي، زوجة مدير عام تلفزيون «اوتي في» روي الهاشم. كلودين، تزوّجت مرتين الاولى من الاستاذ الجامعي سامي نادر ثم العميد شامل روكز. وشانتال زوجة الوزير جبران باسيل.
تسلّم خلال تَدرُّجه في العمل العسكري، سلسلة مهمات كلها ميدانية، واختصاصه سلاح المدفعية. أنشأ اللواء الثامن في الجيش، وأمضى خدمته العسكرية في كل المناطق اللبنانية، ويفاخر دائما بأنه يعرفها كلها، وانه غير طائفي، وان عسكرييه وجنوده الذين وقفوا في المعارك التي خاضها ينتمون الى جميع الطوائف.
تولّى قيادة الجيش العام 1984، وكان أصغر قائدٍ للجيش، بعد خوضه معركة سوق الغرب في عهد الرئيس امين الجميل. ويقول في حديث الى «الاسبوع العربي»: «لم أكن أحب السياسة. أنا رجل عسكري، أمضيتُ حياتي على الجبهات، ولم أجلس على كرسي وراء مكتب إلا حين أصبحتُ قائداً للجيش».
بعد أحداث بيروت الغربية و6 فبراير وتطوراتها واتفاق 17 مايو (1983)، صار تغيير قائد الجيش ابرهيم طنوس بنداً من بنود التسويات الداخلية. اتّصل طنّوس بعون في 23 يونيو 1984 وأبلغ اليه تعيينه قائداً للجيش. وأعقب اتصال طنوس اتصالاً من الرئيس امين الجميل. وفي «أمر اليوم» الأول الذي وجّهه الى العسكريين قال: «إما ان تكونوا جنود طوائف ومرتزقة للعبة دولية او تكونوا جنود وطنٍ وهوية».
لكن قائد الجيش، لم يكن يعلم ان دخوله الى اليرزة «قائداً»، سيُدخِله التاريخ العسكري والسياسي، كما لم يفعل قبله باني الإدارة اللبنانية اول جنرال رئيس فؤاد شهاب العام 1958. فـ شهاب تسلّم الحكومة الانتقالية بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري (العام 1952)، لكنه سلّم الامانة عند انتخاب شمعون، ليعود (شهاب) بعد ست سنوات الى القصر الجمهوري. لكن عون، دخل القصر العام 1988 ورفض الخروج منه. ويقول كريم بقرادوني مؤرخ تلك المرحلة: «تلقّف ميشال عون السلطة كمَن يتسلّم كرة نار، لم تتأخر في إحراقه وإحراق ما تبقى».
سنتان قضاها عون في بعبدا، رئيساً لحكومة عسكرية، استقال نصف أعضائها المسلمون، وبقي الى جانبه وزيران عصام ابو جمرا وادغار معلوف، الاول عاش في باريس وعاد معه الى لبنان لكنهما اختلفا وانشقّ عنه. والثاني بقي معه بعد عودته ليصبح نائباً في كتلته.
ظروف تسليم الجميّل السلطة لعون معروفة، أوكل اليه الحكومة الانتقالية من دون رضى «القوات اللبنانية». أراد عون الإمساك بزمام الشرعية، من كل جوانبها، ولم يرد ان يسلّم الامانة حين بدأت المفاوضات لانتخاب رئيس جديد. رفض اي اسم مرشح، ورفض شروط الموفد الاميركي ريشارد مورفي «مخايل الضاهر او الفوضى». انقلب على الجميع، وتمسّك بفكرة إنقاذه للجمهورية المنهارة. رفَض اي مفاوضات اقليمية او دولية، وحاول منْع النواب من الذهاب الى الطائف لعقد الاتفاق (أقر في اكتوبر 1989) لإنهاء الحرب اللبنانية كما سعى الى منْعهم من العودة الى بيروت.
اختلطت معه الحروب التي فتحها دفعة واحدة. وهو أراد إنقاذ الجمهورية لكنه خسرها. ويقول ألبر منصور في كتابه «موت جمهورية»: «بدل السعي لتأمين انتخاب رئيس للجمهورية، تصرّف العماد عون على انه حاكم لبنان الى أجَل غير مسمى، وحتى يحين أجَل انتخابه هو لسدّة الرئاسة».
شنّ «حرب التحرير» على سورية (1989) لاستعادة استقلال لبنان، لكنها حرب أنهكت المسيحيين وبدتْ كأنها قفزة في المجهول كسرتْ الموازين لغير مصلحتهم اذ تكاتفت القوى السياسية كلها في لبنان وخارجه، من السعودية ومعها دول خليجية أخرى وواشنطن وفرنسا من أجل استيلاد اتفاق الطائف وووقف الحرب الطويلة.
ومع سير «القوات اللبنانية» باتفاق الطائف، قام عون وتحت شعار إنقاذ الشرعية بشنّ حرب على «القوات» بقيادة سمير جعجع نشبت في يناير 1990 وكانت أقسى حروب المسيحيين (عُرفت بـ «حرب الإلغاء»)، وكل طرف اتّهم الآخر بإشعالها. لكن نتيجتها واحدة، تدمير غير مسبوق في المناطق المسيحية وقتل وتشريد وهجرة المئات من المسيحيين الى خارج لبنان.
خاصم كل مَن وقف مع الطائف بدءاً من بكركي، التي توافد العونيون اليها واعتدوا على البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير وأهانوه لأنه مع الطائف واعتبروا انه يدافع عن جعجع.
كان رفضه لاتفاق الطائف قاطعاً، ولم يعترف به صراحة إلا قبل فترة قصيرة، مع الاستعداد الفعلي لدخول بعبدا. ورغم انه انخرط في منظومة الطائف وخاض الانتخابات النيابية والبلدية ودخل الحكومة، الا انه ظل يعاند ولا يعترف به، الى ان تدرّج وأصبح يقرّ بأنه أصبح أمراً واقعاً، ويطالب بين الحين والآخر بتعديله.
رفْضه الطائف، وإصراره على البقاء في بعبدا، وتخوينه النواب وكل مّن أيّد الطائف، ساهم في نظر سياسيين باغتيال اول رئيس للطائف، اي رينيه معوض. فعون لم يسلّم القصر بعد انتخاب معوّض في 5 نوفمبر 1989، واغتيل الرئيس بعد 17 يوماً لينتخب النظام السوري حليفهم الياس الهراوي، ويبدأ الإعداد لعملية انقلاب على الطائف تُوّجت بالضربة العسكرية ضد عون في 13 اكتوبر 1990 والتي شارك فيها الجيش السوري وطيرانه الذي قصف «القصر».
في تَسلسُل الأحداث وتَدهْور الوضع الداخلي وانهيار السلطات كلها، واشتعال لبنان، بقي العونيون يوالون زعيمهم. أمرٌ ما كان يشدّهم اليه، وبقي بالنسبة اليهم رمز تحرر لبنان. من القصر غادر عون في 13 اكتوبر 1990 الى السفارة الفرنسية ولم يعد الى القصر مطلقاً. أعلن استسلام قواته حين كان بعض ضباطه لا يزالون يحاربون على الجبهات. استسلم، لكنه بقي في حماية السفارة الفرنسية حتى اغسطس 1991، الى ان تمّ الاتفاق بين لبنان وفرنسا (التي كانت وحدها رفضت اسقاطه بضربة عسكرية) لاحقاً على نفيه وبقائه خمس سنوات في الاقامة الجبرية ممنوعاً عليه الإدلاء بالتصريحات. لكن عون بقي رغم كل ذلك رمزاً وصوتاً صارخاً في برية العونيين. ظلوا يتوافدون الى منزله رغم الإجراءات في فرنسا ولبنان وملاحقة كل من يُعرف انه ناشط عوني او انه التقى الجنرال في فرنسا، ولا سيما بعدما انتقل عون الى باريس وصار يتّمتع بحرية التحرك.
من باريس عاد صوت «الجنرال» يخاطب العونيين في اللقاءات السرية، في بعض الجامعات، في المنازل. وتحوّل الهاتف صلة الوصل بين العونيين وزعيمهم. وبدأ عصر عون مع الخطب الآتية من باريس، ومع المنشورات التي تُوزّع والنشرات السرّية التي يتناقلها العونيون. كانت اي مقابلة مع عون حدَثاً في ذاته، وكان الناشطون لا يتورعون عن الذهاب اليه، ونقْل تعليماته. بين 1990 وعام 2001، تاريخ بدء التحرك الفعلي للعونيين مع القواتيين في 7 اغسطس، 11 عاماً غذى فيها عون أحلام المناصرين وتطلعاتهم. في تلك المرحلة كان عون يُمسِك أكثر بشارعه، الذي تحوّل إطلاق «زمور الجنرال» فيه علامة تحدّ ومحطّ ملاحقة من الأجهزة الامنية اللبنانية والسورية.
مع انطلاق شرارة المعارضة ضدّ النظام السوري، من بكركي التي أصدرت النداء الاول للمطارنة الموارنة في سبتمبر 2000، ومن ثم إعلان ولادة لقاء قرنة شهوان الذي اعتُبر بمثابة «المكتب السياسي» للبطريرك صفير، انضمّ «التيار الوطني الحر» الى اللقاء. لكنه سرعان ما انسحب منه، الا ان التنسيق ظلّ مستمراً بينه وبين أركان المعارضة وبين التجمعات الطالبية للأحزاب المسيحية تحديداً.
وفي اغسطس 2001 كان اول موعد كسر معه اللبنانيون، وجلّهم آنذاك من المسيحيين حاجز الخوف ونزلوا الى الشارع ضدّ القمع والملاحقات، رافعين الصوت ضدّ الوجود السوري. وشكّل 7 اغسطس من ذلك العام محطة بارزة وهو التاريخ الذي شهد توقيف عشرات الناشطين والقياديين في التيار العوني و«القوات اللبنانية» اللذين كانا حجر الزاوية في حركة الاعتراض المتنامية برعاية الكنيسة بوجه سورية، وهي التوقيفات التي جرت بعد اربعة ايام من المصالحة المسيحية - الدرزية والزيارة التاريخية للبطريرك صفير للجبل، قبل ان تحصل في 9 اغسطس من العام نفسه المواجهات الشهيرة امام قصر العدل في بيروت حيث كان شبان وشابات ينظمون اعتصاماً ضد التوقيفات وقُمعوا بوحشية من النظام الأمني اللبناني - السوري.
ومع التحضيرات للتمديد للرئيس اميل لحود في 3 سبتمبر 2004، كان السوريون يحضّرون لنهاية عهدهم في لبنان، وكان عون يضاعف تصعيده ضدهم، فبدأ حشد التأييد للقرار الدولي رقم 1559 الذي صدر عشية التمديد وطالب خصوصاً بانسحاب الجيش السوري.
توالت المحطات المفصلية في حياة عون بدءاً من هذا التاريخ وصولاً الى عام 2005 حين اغتيل الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير، وبدأت رحلة العودة الى لبنان. هناك روايتان للعودة الى بيروت، رواية تقول إنها تمّت باتفاق بين عون والرئيس اميل لحود عبر موفدين منهم كريم بقرادوني واميل اميل لحود على ما يروي بقرادوني نفسه في كتابه «صدمة وصمود»، وصياغته ورقة المبادرة التي نقلها النائب لحود الى ماهر حافظ الاسد الذي أبلغها بدوره الى شقيقه الرئيس بشار الأسد، فوافق عليها شرط موافقة «حزب الله.» وهكذا صار. ورواية أخرى تقول انه لم يعقد اي اتفاق، وانه عاد الى لبنان بفعل تطور الأحداث بعد اغتيال الحريري وخروج السوريين والاستعداد لإطلاق جعجع من السجن الذي كان أُدخل اليه العام 1994.
عودة عون الى بيروت بعد غياب 15 عاماً في المنفى، أشعلت مجدداً الحماسة العونية. عادت الهتافات الى الشارع وصدحت الأغنيات العونية. وتحوّل رمز العونيين «عون راجع» الى «عون رجع». لم يكن بالأمر السهل على العونيين استيعاب هذه العودة. جيل كامل كبِر في غياب «الجنرال»، وجيل جديد بدأ النضال، وهو لا يعرفه لكنه يحلم به رئيساً للجمهورية.عاد عون الى بيروت في 7 مايو 2005، مستعداً لخوض الانتخابات النيابية التي أتت له بأكثرية نيابية، فكرّسه البطريرك صفير نفسه في عظة الاحد كزعيم مسيحي اول.
ومجدداً بدأت مرحلة مختلفة من مسار الجنرال.
هو يقول عن نفسه بالانكليزية انه «لا يُتوقع» اي unpredictable. وقد يكون هذا من أحد أكثر الأوصاف التصاقاً به. وبالفعل هذا ما كشفته الأعوام العشرة الأخيرة.
حين عُقد الاتفاق الثلاثي برعاية سورية (في ديسمبر 1985 ووقّعه الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة «أمل» والقوات اللبنانية بقيادة ايلي حبيقة)، عارضه عون ليس من الزاوية السياسية بل العسكرية، وما كُتب فيه عن الجيش. وحين شنّ «حرب التحرير» على سورية، قام بذلك بسبب ما اعتبره احتلال سورية للبنان. لكنه قبل عودته الى بيروت كان بدأ يوجّه رسائل لسورية كي تنسحب من لبنان ويعرض عليها صلحاً اذا انسحبتْ منه. عاد الى بيروت، وأعلن تدريجاً فتح صفحة جديدة مع سورية لأنها أخرجت جيشها من لبنان ولم تعد دولة محتلة. وزار دمشق للمرة الاولى بعد غياب 18 عاماً في العام 2008.
هو الرجل الذي لا يُتوقع، وقّع ورقة تفاهم مع «حزب الله» في 6 فبراير 2006، ووقف الى جانبه في حرب يوليو من العام نفسه. مع تأكيد ان موقفه من اسرائيل كعدوّ، كان ثابتاً طوال فترة خدمته ضابطا وقائداً للجيش.
خاصم عون تيار «المستقبل»، ولم يدخل الى الحكومة الاولى بعد الانتخابات العام 2005، لانه لم يرض بالحصة التي أُعطيت له. ودارت بين الجانبين معارك كلامية كثيرة، حول غالبية الملفات، وصولاً الى إصدار «التيار الحر» كتاب «الابراء المستحيل» الذي عدّه محاكمة لعهد حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري والرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري.
في العام 2008، اضطر تحت وطأة التفاهمات الاقليمية والدولية التي كرّسها اتفاق الدوحة في أعقاب أحداث 7 مايو العسكرية والعملية التي نفّذها «حزب الله» في بيروت والجبل ان يقبل بالعماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية لكنه لم يكن على وفاق معه بل خاض معه على مدى اعوام ولايته الستة ما يشبه «المعركة» تحت عنوان «الشرعية الشعبية معي والشرعية الدستورية مع رئيس الجمهورية» في ما عُرف بـ «حرب الميشالين او الجنرالين».
عون الذي فاز في الانتخابات النيابية عام 2005 وعام 2009 بأكبر حصة مسيحية، رغم انه يدين لحزب الله بالمقاعد المسيحية في الدوائر التي يمثّل فيها الشيعة ثقلاً انتخابياً مرجِّحاً، لم يقبل التمديد للبرلمان (حصل مرتين متتاليتين منذ 2013)، ورفض الإذعان لكثير من الشروط التي وُضعت عليه في تأليف الحكومات.
خاصم وهادن جميع الافرقاء. وظلّ متمسكاً بأنه الاقوى مسيحياً ووطنياً، وبأن «أحداً لم يأخذ توقيعه». يؤخذ عليه من خصومه انه دائماً ما يهادن ويخاصم في الوقت الخاطئ. صادَق العراق حين كان العالم كلّه يقف ضده. وصادَق سورية حين بدأت تنهار وينهال عليها غضب العالم. وعادى الاميركيين في عزّ فترة تسليمهم لبنان الى سورية.
وبحسب خصومه فهو يهاجم حين لا تدعو الحاجة، وينفعل حين لا يكون الوقت مناسباً. ومع ذلك يغضب لأي انتقاد يطال هذا الجزء من تاريخه وشخصيته. حتى في انتقال تياره الى مرحلة الحزب، تعرّض للانتقادات نفسها، لانه وقف مع فريق يمثّله صهره الوزير جبران باسيل، ضد المناضلين القدامى، ورفض ان «يربّحه احد جميل التظاهر والنضال». الرجل الذي خرج من عائلة غير معروفة ومن طبقة عادية، ولم يكترث للإقطاع، أورث صهره (باسيل) رئاسة حزب التيار الوطني وخاض «معارك سياسية» لتوزيره، وجاء بابن شقيقته آلان عون نائباً، وكان يطالب بصهره العميد شامل روكز قائداً للجيش، نافياً ان يكون السبب العلاقة العائلية بل كفاءة روكز.
أحاط عون نفسه بعائلته الصغيرة، وبمجموعة من المستشارين والجنود والضباط الذين ظلوا معه. لكنه ايضاً تخلى عن كثيرين، وانقلب عليه كثر من المقربين منه سابقاً، لأسباب يقول هو عنها لانه لم يؤمّن لهم النيابة او الوزارة، وهم يقولون لانه حادَ عن طريق الحرية والسيادة والاستقلال، في علاقته بسورية وبحزب الله.
بعد تسع سنوات من عودته الى لبنان، بدأت «القوات اللبنانية» حواراً معه بجدية. الحوارات السابقة كانت متقطعة وغير مجدية، الى ان كان حوار العام الماضي ما أسفر عن مصالحة تامة بينهما أنهت ثلاثين عاماً من الحروب المسيحية الداخلية. لم يكن عون يَدري ان توقيعه المصالحة مع جعجع ستأتي به رئيساً، وان ترشيح الحريري لفرنجية سيؤدي بجعجع الى ترشيح عون، ويتبناه الحريري، ويفتح امامه سكة الحل الرئاسي.
قائد الجيش السابق ظلت عيْنه على الجيش، الذي كان ينتمي اليه صهره العميد روكز. أوجد حالة في الجيش، لم يعرفها سوى الجنرال فؤاد شهاب. ورغم مرور لحود وسليمان والعماد جان قهوجي في قيادة الجيش، الا ان الحالة العونية ظلت قائمة في أوساط الضباط الجدد. هو القائد نفسه الذي قال «لا وطن من دون جيش، ولا جيش من دون مناقبية. وبقاء العسكري نظيفاً، هو الشرط الأساس لبقاء الجيش جيشاً».
الجنرال الخارج من رحم الأحداث والصعوبات والمعارك والمنفى، والعودة الى وطنه، يستعدّ اليوم ليصبح رئيساً للجمهورية. يحمل 81 عاماً من عمره وتاريخاً حافلاً بالانتصارات والهزائم، والعداوات، والكثير من الأسرار، في لحظة تاريخية، يستعيد فيها حقاً يعتبره مكتسباً، وتأخر 28 عاماً كي يعود اليه.
يدخل عون قصر بعبدا، بغير ما خرج منه. وتعود عائلته معه، بغير ما خرجت منه. يدخل رئيساً للجمهورية بعد سنتين ونصف سنة على الشغور الرئاسي، تتويجاً لمسار سياسي، يعارضه البعض ويؤيده البعض. لكنه حكماً خاتمة جيّدة لرجلٍ وصل اخيراً الى ما حارب من أجله طويلاً، على طريق إنقاذ الجمهورية كما يحلم بها.
المكان: مبنى البرلمان في ساحة النجمة وسط بيروت. المبنى الشاهد على حال الجمهورية في حُلوها ومُرها، يفتح أبوابه لحقبةٍ جديدةٍ يصعب التكهّن بـ «خيْطها الأبيض من الأَسْود».
صندوق زجاجي لـ «الاقتراع السري» و127 ورقة. مرشّحان بأوزانٍ متفاوتة وتحالُفاتٍ متداخلة و«حبسُ أنفاسٍ». مطرقةٌ ورئيسٌ وقسَم. أسارير، وجوم، وما بين بين.
فبعد 29 شهراً من جمهوريةٍ مقطوعة الرأس، يشقّ «الرئيس الجديد» طريقه إلى القصر المهجور غداً الاثنين بعد معركةٍ بين المرشحيْن الحليفيْن «أبناء الخط الواحد»، زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، ورئيس «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية.
العماد عون، الأوفر حظاً، كسَب المعركة قبل لعبة التصويت بعدما وفّى الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله بوعده إلى حليفه المسيحي الرقم واحد، وصولاً إلى تقديمه ما اعتبره «تضحيةً كبيرة جداً» بعدم الممانعة في عودة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة، فيما تجرّع الحريري «المخاطرة الكبرى» لإنهاء الفراغ الرئاسي بتبنّيه ترشيح عون، أكثر خصومه السياسيين شراسةً.
النائب فرنجية «المرتاح» لتكريسه منافساً قوياً ورئيساً مؤجلَّاً لما بعد عهد عون، يخوض معركة «أصواتٍ»، وخلفه يحتشد خصوم «الجنرال» على تَعدُّد ولاءاتهم، وفي مقدّمهم رئيس البرلمان نبيه بري، الذي توعّد العهد العتيد بمعارضةٍ شرسة قد تُفسِد على العماد عون «شهر العسل» الرئاسي في القصر.
كل ذلك يجري من خلف ظهر الإقليم المشتعل بين جبابرة المنطقة والعالم. ربما هي من المرات النادرة التي يُترك للاعبين محليين في لبنان تَدبُّر أمر رئاستهم، بعدما كانت «كلمة السرّ» الخارجية حاسمةً في تغليب الكفة ورسْم مصائر العهود والتحكم بخياراتِ زعماء «الجمهورية الهشّة».
ومع الاستعداد لوداع «فخامة الفراغ» واستقبال فخامة جنرال آخر في القصر، تفتح «الراي» ملفاً على حلقات يتناول «صناعة» الرؤساء في لبنان والسيرة الصاخبة للعماد عون و«رئيس الظلّ» في جمهوريته، صهره الوزير جبران باسيل، وحكاية مُنافِسه منذ أن كان «سليمان الصغير» وحتى بلوغه «حافة» القصر. ويتضمن الملف أيضاً إطلالة على تجربة «زعيم المعارضة» في العهد الجديد الرئيس بري، وتحقيقاتٍ عن سيّدات القصر والتحديات السياسية والاقتصادية التي تنتظر المرحلة الجديدة.
قد يكون اللقب الأحبّ الى قلبه الذي حمله منذ العام 1984 هو الجنرال. لكن اللقب الذي سعى اليه منذ العام 1988 هو فخامة الرئيس. منذ 28 عاماً وهو المرشّح الدائم الى رئاسة الجمهورية، ويعود اليوم الى قصر بعبدا الذي خرج منه العام 1990 تحت وابل قصف الطائرات السورية والمعارك الشرسة.
يدخل عون القصر الجمهوري بالبذة المدنية وبانتخابٍ ديموقراطي بمعيار الحد الادنى، ولو شكلياً، بعدما اتُفق على اسمه بتسوية داخلية حظيتْ بغطاء اقليمي ودولي، وهو الذي كان دخله في المرة الاولى بالبذة العسكرية وبذراعٍ مكسورة ملفوفة بالرباط الابيض، حين سلّمه الرئيس امين الجميل مقاليد الحكومة (العسكرية) الانتقالية كما كان يسمح الدستور ما قبل الطائف.
رجلٌ عسكري بكل ما للكلمة من معنى، ورجلٌ سياسي ايضاً بامتياز، وإن كان وصل الى السياسة بصدفة لا يزال كثر من السياسيين يتّهمون الرئيس الجميّل بانه مسؤول عنها. لكنه كان قد بدأ سابقاً اقترابه من العمل السياسي حين دخل الى الحلقة المقرّبة من الرئيس بشير الجميل حين كان لا يزال الأخير قائداً لـ «القوات اللبنانية» وقبل ان يصبح رئيساً (اغتيل بعدها). وتَأثّر عون بالرئيس كميل شمعون الذي يحلم ان يكون على خطاه، وكان على علاقة وطيدة برئيس حزب الوطنيين الاحرار داني كميل شمعون احد المقربين منه، على عكس الخصومة الحادة التي تجمعه اليوم مع شقيقه دوري كميل شمعون.
قد يكون من أكثر الشخصيات اللبنانية التي جمعت هذا الحدّ من الحلفاء والأعداء، يكرهه خصومه السياسيون والإعلاميون والمواطنون العاديون، كرهاً لا حدّ له. ويحبّه مناصروه حباً لا يوصف، الى حدّ انهم تبعوه من قصر بعبدا حيث تبرّعوا بأموالهم لحملة تحرير لبنان وخاصموا من أجله «القوات اللبنانية»، يوم كان يخطب بهم في اواخر الثمانينات «يا شعب لبنان العظيم». ولم يتركوه حين انتقل الى المنفى الباريسي، ولحقوه الى الرابية العام 2005 ولبّوه في الشارع حيث تظاهروا واستوطنوا الخيم، وصولاً الى الانتخابات النيابية التي أتت به «زعيماً» مسيحياً.
حيث يكون هو يكونون هم، من دون اي اعتبار او نقاش او حوار. فما يقوله «الجنرال» يصبح مسلَّماً به. جرّهم الى حربٍ مع «القوات» وضد سورية، وضد «تيار المستقبل» وعاد بهم الى سورية وبراد حيث زار أرض القديس مارون، وبدأ حملة لإعمار كنيسة هناك. اتى بهم الى تفاهم مع «حزب الله»، وصار العونيون يرفعون صوره وصور الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في منازلهم. من عداء مزمن مع «القوات اللبنانية»، عاد بمناصريه الى تفاهم مع «القوات»، فانتقلوا معه الى مصالحة مسيحية داخلية. رحّبوا بالنائب سليمان فرنجية وخاصموه حين ترشّح ضدّ جنرالهم، كما فعلوا مع الرئيس سعد الحريري لانه لم يرشّحه. أما اليوم فلديهم حليفان جديدان الحريري وجعجع.
شكّل حالة شعبية نادرة في لبنان. يرى نفسه الجنرال شارل ديغول لبنان، دافع عن حرية لبنان وسيادته ضدّ الوجود السوري وكان عرّاب القانون الأميركي لمحاسبة سورية ولم يكن بعيداً عن القرار الدولي 1559، ويرى فيه خصومه مدمِّر آخر مداميك الجمهورية الأولى وطلائع الجمهورية الثانية.
عصبيّ الى أقصى الحدود، ولطيفٌ في المجالس الخاصة، يتصرّف بأبوّة، لكنه حاسم في تصرفاته ولا يتراجع عنها بسهولة. حين يتعاطى بهدوء مع اي قضية، فيعني ان هناك شيئاً ما مخفياً في قرارة نفسه. يحبّ الإعلام ولا يترك مناسبة إلا يظهر فيها، لكنه لا يحب مَن يعارضه الرأي، ومشهور عنه جملة حوادث مع إعلاميين، يصرخ فيهم ويُسكِتهم. هاجمه إعلاميون كثر، ورفع دعاوى قضائية كثيرة في حق مَن هجاه، وقاطَع صحافيين ومنعهم من لقائه او حتى دخول مقرّه.
يقرأ كثيراً ويحفظ كثيراً. وقد تكون إقامته في فرنسا (على مدى نحو 14 عاماً) ساهمت في تعزيز هذا الجانب لانه كان يمضي أيامه في المنفى في القراءة والكتابة وتوجيه الرسائل السياسية للدول ولمناصريه على السواء. يستمع الى الموسيقى الكلاسيكية ويهتمّ بالحيونات الأليفة، وبالحديقة الصغيرة التي تحوط بمنزله في الرابية.
وتروي ابنته كلودين لجريدة «المستقبل» العام 2005 «كيف يهتم والدها بالحيوانات الاليفة، وبالزراعة، وكيف حاول على مدى عامين زرع الملوخية في (هوت ميزون) حيث البرد القارس يمنع نمو هذه النبتة لكنه نجح في العام الثالث».
تعيده الحدائق الى ذكريات طفولته في حارة حريك. فهو ابن الحارة التي صارت تُعرف بمعقل «حزب الله» في الضاحية الجنوبية لبيروت. لكن حين وُلد فيها عون عام 1935، كانت الحارة ضيعة ريفية يغلب عليها الطابع المسيحي. والده نعيم عون ووالدته ماري. تلقى علومه في مدرسة الفرير الجميزة، ودخل الى المدرسة الحربية العام 1955. تزوّج في 1968 من ناديا الشامي وله ثلاث فتيات: ميراي، زوجة مدير عام تلفزيون «اوتي في» روي الهاشم. كلودين، تزوّجت مرتين الاولى من الاستاذ الجامعي سامي نادر ثم العميد شامل روكز. وشانتال زوجة الوزير جبران باسيل.
تسلّم خلال تَدرُّجه في العمل العسكري، سلسلة مهمات كلها ميدانية، واختصاصه سلاح المدفعية. أنشأ اللواء الثامن في الجيش، وأمضى خدمته العسكرية في كل المناطق اللبنانية، ويفاخر دائما بأنه يعرفها كلها، وانه غير طائفي، وان عسكرييه وجنوده الذين وقفوا في المعارك التي خاضها ينتمون الى جميع الطوائف.
تولّى قيادة الجيش العام 1984، وكان أصغر قائدٍ للجيش، بعد خوضه معركة سوق الغرب في عهد الرئيس امين الجميل. ويقول في حديث الى «الاسبوع العربي»: «لم أكن أحب السياسة. أنا رجل عسكري، أمضيتُ حياتي على الجبهات، ولم أجلس على كرسي وراء مكتب إلا حين أصبحتُ قائداً للجيش».
بعد أحداث بيروت الغربية و6 فبراير وتطوراتها واتفاق 17 مايو (1983)، صار تغيير قائد الجيش ابرهيم طنوس بنداً من بنود التسويات الداخلية. اتّصل طنّوس بعون في 23 يونيو 1984 وأبلغ اليه تعيينه قائداً للجيش. وأعقب اتصال طنوس اتصالاً من الرئيس امين الجميل. وفي «أمر اليوم» الأول الذي وجّهه الى العسكريين قال: «إما ان تكونوا جنود طوائف ومرتزقة للعبة دولية او تكونوا جنود وطنٍ وهوية».
لكن قائد الجيش، لم يكن يعلم ان دخوله الى اليرزة «قائداً»، سيُدخِله التاريخ العسكري والسياسي، كما لم يفعل قبله باني الإدارة اللبنانية اول جنرال رئيس فؤاد شهاب العام 1958. فـ شهاب تسلّم الحكومة الانتقالية بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري (العام 1952)، لكنه سلّم الامانة عند انتخاب شمعون، ليعود (شهاب) بعد ست سنوات الى القصر الجمهوري. لكن عون، دخل القصر العام 1988 ورفض الخروج منه. ويقول كريم بقرادوني مؤرخ تلك المرحلة: «تلقّف ميشال عون السلطة كمَن يتسلّم كرة نار، لم تتأخر في إحراقه وإحراق ما تبقى».
سنتان قضاها عون في بعبدا، رئيساً لحكومة عسكرية، استقال نصف أعضائها المسلمون، وبقي الى جانبه وزيران عصام ابو جمرا وادغار معلوف، الاول عاش في باريس وعاد معه الى لبنان لكنهما اختلفا وانشقّ عنه. والثاني بقي معه بعد عودته ليصبح نائباً في كتلته.
ظروف تسليم الجميّل السلطة لعون معروفة، أوكل اليه الحكومة الانتقالية من دون رضى «القوات اللبنانية». أراد عون الإمساك بزمام الشرعية، من كل جوانبها، ولم يرد ان يسلّم الامانة حين بدأت المفاوضات لانتخاب رئيس جديد. رفض اي اسم مرشح، ورفض شروط الموفد الاميركي ريشارد مورفي «مخايل الضاهر او الفوضى». انقلب على الجميع، وتمسّك بفكرة إنقاذه للجمهورية المنهارة. رفَض اي مفاوضات اقليمية او دولية، وحاول منْع النواب من الذهاب الى الطائف لعقد الاتفاق (أقر في اكتوبر 1989) لإنهاء الحرب اللبنانية كما سعى الى منْعهم من العودة الى بيروت.
اختلطت معه الحروب التي فتحها دفعة واحدة. وهو أراد إنقاذ الجمهورية لكنه خسرها. ويقول ألبر منصور في كتابه «موت جمهورية»: «بدل السعي لتأمين انتخاب رئيس للجمهورية، تصرّف العماد عون على انه حاكم لبنان الى أجَل غير مسمى، وحتى يحين أجَل انتخابه هو لسدّة الرئاسة».
شنّ «حرب التحرير» على سورية (1989) لاستعادة استقلال لبنان، لكنها حرب أنهكت المسيحيين وبدتْ كأنها قفزة في المجهول كسرتْ الموازين لغير مصلحتهم اذ تكاتفت القوى السياسية كلها في لبنان وخارجه، من السعودية ومعها دول خليجية أخرى وواشنطن وفرنسا من أجل استيلاد اتفاق الطائف وووقف الحرب الطويلة.
ومع سير «القوات اللبنانية» باتفاق الطائف، قام عون وتحت شعار إنقاذ الشرعية بشنّ حرب على «القوات» بقيادة سمير جعجع نشبت في يناير 1990 وكانت أقسى حروب المسيحيين (عُرفت بـ «حرب الإلغاء»)، وكل طرف اتّهم الآخر بإشعالها. لكن نتيجتها واحدة، تدمير غير مسبوق في المناطق المسيحية وقتل وتشريد وهجرة المئات من المسيحيين الى خارج لبنان.
خاصم كل مَن وقف مع الطائف بدءاً من بكركي، التي توافد العونيون اليها واعتدوا على البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير وأهانوه لأنه مع الطائف واعتبروا انه يدافع عن جعجع.
كان رفضه لاتفاق الطائف قاطعاً، ولم يعترف به صراحة إلا قبل فترة قصيرة، مع الاستعداد الفعلي لدخول بعبدا. ورغم انه انخرط في منظومة الطائف وخاض الانتخابات النيابية والبلدية ودخل الحكومة، الا انه ظل يعاند ولا يعترف به، الى ان تدرّج وأصبح يقرّ بأنه أصبح أمراً واقعاً، ويطالب بين الحين والآخر بتعديله.
رفْضه الطائف، وإصراره على البقاء في بعبدا، وتخوينه النواب وكل مّن أيّد الطائف، ساهم في نظر سياسيين باغتيال اول رئيس للطائف، اي رينيه معوض. فعون لم يسلّم القصر بعد انتخاب معوّض في 5 نوفمبر 1989، واغتيل الرئيس بعد 17 يوماً لينتخب النظام السوري حليفهم الياس الهراوي، ويبدأ الإعداد لعملية انقلاب على الطائف تُوّجت بالضربة العسكرية ضد عون في 13 اكتوبر 1990 والتي شارك فيها الجيش السوري وطيرانه الذي قصف «القصر».
في تَسلسُل الأحداث وتَدهْور الوضع الداخلي وانهيار السلطات كلها، واشتعال لبنان، بقي العونيون يوالون زعيمهم. أمرٌ ما كان يشدّهم اليه، وبقي بالنسبة اليهم رمز تحرر لبنان. من القصر غادر عون في 13 اكتوبر 1990 الى السفارة الفرنسية ولم يعد الى القصر مطلقاً. أعلن استسلام قواته حين كان بعض ضباطه لا يزالون يحاربون على الجبهات. استسلم، لكنه بقي في حماية السفارة الفرنسية حتى اغسطس 1991، الى ان تمّ الاتفاق بين لبنان وفرنسا (التي كانت وحدها رفضت اسقاطه بضربة عسكرية) لاحقاً على نفيه وبقائه خمس سنوات في الاقامة الجبرية ممنوعاً عليه الإدلاء بالتصريحات. لكن عون بقي رغم كل ذلك رمزاً وصوتاً صارخاً في برية العونيين. ظلوا يتوافدون الى منزله رغم الإجراءات في فرنسا ولبنان وملاحقة كل من يُعرف انه ناشط عوني او انه التقى الجنرال في فرنسا، ولا سيما بعدما انتقل عون الى باريس وصار يتّمتع بحرية التحرك.
من باريس عاد صوت «الجنرال» يخاطب العونيين في اللقاءات السرية، في بعض الجامعات، في المنازل. وتحوّل الهاتف صلة الوصل بين العونيين وزعيمهم. وبدأ عصر عون مع الخطب الآتية من باريس، ومع المنشورات التي تُوزّع والنشرات السرّية التي يتناقلها العونيون. كانت اي مقابلة مع عون حدَثاً في ذاته، وكان الناشطون لا يتورعون عن الذهاب اليه، ونقْل تعليماته. بين 1990 وعام 2001، تاريخ بدء التحرك الفعلي للعونيين مع القواتيين في 7 اغسطس، 11 عاماً غذى فيها عون أحلام المناصرين وتطلعاتهم. في تلك المرحلة كان عون يُمسِك أكثر بشارعه، الذي تحوّل إطلاق «زمور الجنرال» فيه علامة تحدّ ومحطّ ملاحقة من الأجهزة الامنية اللبنانية والسورية.
مع انطلاق شرارة المعارضة ضدّ النظام السوري، من بكركي التي أصدرت النداء الاول للمطارنة الموارنة في سبتمبر 2000، ومن ثم إعلان ولادة لقاء قرنة شهوان الذي اعتُبر بمثابة «المكتب السياسي» للبطريرك صفير، انضمّ «التيار الوطني الحر» الى اللقاء. لكنه سرعان ما انسحب منه، الا ان التنسيق ظلّ مستمراً بينه وبين أركان المعارضة وبين التجمعات الطالبية للأحزاب المسيحية تحديداً.
وفي اغسطس 2001 كان اول موعد كسر معه اللبنانيون، وجلّهم آنذاك من المسيحيين حاجز الخوف ونزلوا الى الشارع ضدّ القمع والملاحقات، رافعين الصوت ضدّ الوجود السوري. وشكّل 7 اغسطس من ذلك العام محطة بارزة وهو التاريخ الذي شهد توقيف عشرات الناشطين والقياديين في التيار العوني و«القوات اللبنانية» اللذين كانا حجر الزاوية في حركة الاعتراض المتنامية برعاية الكنيسة بوجه سورية، وهي التوقيفات التي جرت بعد اربعة ايام من المصالحة المسيحية - الدرزية والزيارة التاريخية للبطريرك صفير للجبل، قبل ان تحصل في 9 اغسطس من العام نفسه المواجهات الشهيرة امام قصر العدل في بيروت حيث كان شبان وشابات ينظمون اعتصاماً ضد التوقيفات وقُمعوا بوحشية من النظام الأمني اللبناني - السوري.
ومع التحضيرات للتمديد للرئيس اميل لحود في 3 سبتمبر 2004، كان السوريون يحضّرون لنهاية عهدهم في لبنان، وكان عون يضاعف تصعيده ضدهم، فبدأ حشد التأييد للقرار الدولي رقم 1559 الذي صدر عشية التمديد وطالب خصوصاً بانسحاب الجيش السوري.
توالت المحطات المفصلية في حياة عون بدءاً من هذا التاريخ وصولاً الى عام 2005 حين اغتيل الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير، وبدأت رحلة العودة الى لبنان. هناك روايتان للعودة الى بيروت، رواية تقول إنها تمّت باتفاق بين عون والرئيس اميل لحود عبر موفدين منهم كريم بقرادوني واميل اميل لحود على ما يروي بقرادوني نفسه في كتابه «صدمة وصمود»، وصياغته ورقة المبادرة التي نقلها النائب لحود الى ماهر حافظ الاسد الذي أبلغها بدوره الى شقيقه الرئيس بشار الأسد، فوافق عليها شرط موافقة «حزب الله.» وهكذا صار. ورواية أخرى تقول انه لم يعقد اي اتفاق، وانه عاد الى لبنان بفعل تطور الأحداث بعد اغتيال الحريري وخروج السوريين والاستعداد لإطلاق جعجع من السجن الذي كان أُدخل اليه العام 1994.
عودة عون الى بيروت بعد غياب 15 عاماً في المنفى، أشعلت مجدداً الحماسة العونية. عادت الهتافات الى الشارع وصدحت الأغنيات العونية. وتحوّل رمز العونيين «عون راجع» الى «عون رجع». لم يكن بالأمر السهل على العونيين استيعاب هذه العودة. جيل كامل كبِر في غياب «الجنرال»، وجيل جديد بدأ النضال، وهو لا يعرفه لكنه يحلم به رئيساً للجمهورية.عاد عون الى بيروت في 7 مايو 2005، مستعداً لخوض الانتخابات النيابية التي أتت له بأكثرية نيابية، فكرّسه البطريرك صفير نفسه في عظة الاحد كزعيم مسيحي اول.
ومجدداً بدأت مرحلة مختلفة من مسار الجنرال.
هو يقول عن نفسه بالانكليزية انه «لا يُتوقع» اي unpredictable. وقد يكون هذا من أحد أكثر الأوصاف التصاقاً به. وبالفعل هذا ما كشفته الأعوام العشرة الأخيرة.
حين عُقد الاتفاق الثلاثي برعاية سورية (في ديسمبر 1985 ووقّعه الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة «أمل» والقوات اللبنانية بقيادة ايلي حبيقة)، عارضه عون ليس من الزاوية السياسية بل العسكرية، وما كُتب فيه عن الجيش. وحين شنّ «حرب التحرير» على سورية، قام بذلك بسبب ما اعتبره احتلال سورية للبنان. لكنه قبل عودته الى بيروت كان بدأ يوجّه رسائل لسورية كي تنسحب من لبنان ويعرض عليها صلحاً اذا انسحبتْ منه. عاد الى بيروت، وأعلن تدريجاً فتح صفحة جديدة مع سورية لأنها أخرجت جيشها من لبنان ولم تعد دولة محتلة. وزار دمشق للمرة الاولى بعد غياب 18 عاماً في العام 2008.
هو الرجل الذي لا يُتوقع، وقّع ورقة تفاهم مع «حزب الله» في 6 فبراير 2006، ووقف الى جانبه في حرب يوليو من العام نفسه. مع تأكيد ان موقفه من اسرائيل كعدوّ، كان ثابتاً طوال فترة خدمته ضابطا وقائداً للجيش.
خاصم عون تيار «المستقبل»، ولم يدخل الى الحكومة الاولى بعد الانتخابات العام 2005، لانه لم يرض بالحصة التي أُعطيت له. ودارت بين الجانبين معارك كلامية كثيرة، حول غالبية الملفات، وصولاً الى إصدار «التيار الحر» كتاب «الابراء المستحيل» الذي عدّه محاكمة لعهد حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري والرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري.
في العام 2008، اضطر تحت وطأة التفاهمات الاقليمية والدولية التي كرّسها اتفاق الدوحة في أعقاب أحداث 7 مايو العسكرية والعملية التي نفّذها «حزب الله» في بيروت والجبل ان يقبل بالعماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية لكنه لم يكن على وفاق معه بل خاض معه على مدى اعوام ولايته الستة ما يشبه «المعركة» تحت عنوان «الشرعية الشعبية معي والشرعية الدستورية مع رئيس الجمهورية» في ما عُرف بـ «حرب الميشالين او الجنرالين».
عون الذي فاز في الانتخابات النيابية عام 2005 وعام 2009 بأكبر حصة مسيحية، رغم انه يدين لحزب الله بالمقاعد المسيحية في الدوائر التي يمثّل فيها الشيعة ثقلاً انتخابياً مرجِّحاً، لم يقبل التمديد للبرلمان (حصل مرتين متتاليتين منذ 2013)، ورفض الإذعان لكثير من الشروط التي وُضعت عليه في تأليف الحكومات.
خاصم وهادن جميع الافرقاء. وظلّ متمسكاً بأنه الاقوى مسيحياً ووطنياً، وبأن «أحداً لم يأخذ توقيعه». يؤخذ عليه من خصومه انه دائماً ما يهادن ويخاصم في الوقت الخاطئ. صادَق العراق حين كان العالم كلّه يقف ضده. وصادَق سورية حين بدأت تنهار وينهال عليها غضب العالم. وعادى الاميركيين في عزّ فترة تسليمهم لبنان الى سورية.
وبحسب خصومه فهو يهاجم حين لا تدعو الحاجة، وينفعل حين لا يكون الوقت مناسباً. ومع ذلك يغضب لأي انتقاد يطال هذا الجزء من تاريخه وشخصيته. حتى في انتقال تياره الى مرحلة الحزب، تعرّض للانتقادات نفسها، لانه وقف مع فريق يمثّله صهره الوزير جبران باسيل، ضد المناضلين القدامى، ورفض ان «يربّحه احد جميل التظاهر والنضال». الرجل الذي خرج من عائلة غير معروفة ومن طبقة عادية، ولم يكترث للإقطاع، أورث صهره (باسيل) رئاسة حزب التيار الوطني وخاض «معارك سياسية» لتوزيره، وجاء بابن شقيقته آلان عون نائباً، وكان يطالب بصهره العميد شامل روكز قائداً للجيش، نافياً ان يكون السبب العلاقة العائلية بل كفاءة روكز.
أحاط عون نفسه بعائلته الصغيرة، وبمجموعة من المستشارين والجنود والضباط الذين ظلوا معه. لكنه ايضاً تخلى عن كثيرين، وانقلب عليه كثر من المقربين منه سابقاً، لأسباب يقول هو عنها لانه لم يؤمّن لهم النيابة او الوزارة، وهم يقولون لانه حادَ عن طريق الحرية والسيادة والاستقلال، في علاقته بسورية وبحزب الله.
بعد تسع سنوات من عودته الى لبنان، بدأت «القوات اللبنانية» حواراً معه بجدية. الحوارات السابقة كانت متقطعة وغير مجدية، الى ان كان حوار العام الماضي ما أسفر عن مصالحة تامة بينهما أنهت ثلاثين عاماً من الحروب المسيحية الداخلية. لم يكن عون يَدري ان توقيعه المصالحة مع جعجع ستأتي به رئيساً، وان ترشيح الحريري لفرنجية سيؤدي بجعجع الى ترشيح عون، ويتبناه الحريري، ويفتح امامه سكة الحل الرئاسي.
قائد الجيش السابق ظلت عيْنه على الجيش، الذي كان ينتمي اليه صهره العميد روكز. أوجد حالة في الجيش، لم يعرفها سوى الجنرال فؤاد شهاب. ورغم مرور لحود وسليمان والعماد جان قهوجي في قيادة الجيش، الا ان الحالة العونية ظلت قائمة في أوساط الضباط الجدد. هو القائد نفسه الذي قال «لا وطن من دون جيش، ولا جيش من دون مناقبية. وبقاء العسكري نظيفاً، هو الشرط الأساس لبقاء الجيش جيشاً».
الجنرال الخارج من رحم الأحداث والصعوبات والمعارك والمنفى، والعودة الى وطنه، يستعدّ اليوم ليصبح رئيساً للجمهورية. يحمل 81 عاماً من عمره وتاريخاً حافلاً بالانتصارات والهزائم، والعداوات، والكثير من الأسرار، في لحظة تاريخية، يستعيد فيها حقاً يعتبره مكتسباً، وتأخر 28 عاماً كي يعود اليه.
يدخل عون قصر بعبدا، بغير ما خرج منه. وتعود عائلته معه، بغير ما خرجت منه. يدخل رئيساً للجمهورية بعد سنتين ونصف سنة على الشغور الرئاسي، تتويجاً لمسار سياسي، يعارضه البعض ويؤيده البعض. لكنه حكماً خاتمة جيّدة لرجلٍ وصل اخيراً الى ما حارب من أجله طويلاً، على طريق إنقاذ الجمهورية كما يحلم بها.