تقرير

التدخّل الروسي منع قيام «إمارة إسلامية» في سورية و«الجهاديون» يتمدّدون باندماج جديد

تصغير
تكبير
اندماج «جند الأقصى» بـ «فتح الشام» يفتح الباب لتنظيمات أخرى ويزيد من قوة «الجبهة»
عندما تدخّلت روسيا في الحرب الدائرة على أرض سورية، كاد تنظيم «القاعدة» حينها أن يعلن اكتمال مقومات الإمارة الإسلامية، بمؤسساتها وشرعيتها في مدينة إدلب الشمالية، من دون الحاجة إلى إعلان قيام الامارة، لتفادي ما يمكن ان ينتج عنه من تداعيات. وحينها كان الوضع العسكري للجيش السوري وحلفائه في تقهقر، من الأرياف الى المدن الكبرى مع احتمالٍ كبير بخسارة حلب، وحتى أرياف حماة.

وبعد سنة من التدخّل الروسي، أصبح وجود «قاعدة الجهاد» تحت اسم «جبهة فتح الشام» نقطة الاختلاف الجوهرية بين وزيريْ خارجية أميركا وروسيا، جون كيري، وسيرغي لافروف، في أيّ محادثات لوقف الأعمال العدائية، وزال احتمال اكتمال إمارة إسلامية «لقاعدة الجهاد» في سورية، موقتاً، الى حين انجلاء الأمور.

إلا ان الاندماج بين «جبهة فتح الشام»، وبين المتشدّدين من «جند الأقصى» أعطى دفعاً جديداً وقوة لا يستهان بها، من أعداد الجهاديين العقائديين، ومن السلاح والعتاد لـ «قاعدة الجهاد» عموماً في سورية، ما جعل الأمور أكثر تعقيداً في بلاد الشام، حيث أصبح لدى هؤلاء قوة لا يستهان بها، مقابل قوة المعارضة المسلّحة، التي تقودها تنظيمات تستطيع كل من الولايات المتحدة وروسيا التعامل معها والتخاطب مع قيادتها بالوسائل المباشرة وغير المباشرة...

عندما اندلعت الحرب في سورية عام 2011، أرسل زعيم «تنظيم الدولة الاسلامية في العراق» أبو بكر البغدادي، أحد قادته العسكريين ومعه «فريق عمل» ومال كافٍ، لإنشاء قاعدة لـ «الجهاديين»، تمهّد لتمدُّد «تنظيم الدولة» العراقي الى بلاد الشام، وكان على رأس هؤلاء، السوري ابو محمد الجولاني، الذي أسّس «جبهة النصرة لأهل الشام» وخاض أهمّ المعارك، وقدّم انتحاريين وانغماسيين، ليصل الى داخل العاصمة دمشق، إلا أن انتصاراته المتعددة والاحترام الذي تنعّم به بين الفصائل السورية عموماً - ومن ضمنها تلك المدعومة مباشرة من واشنطن - أثارت ارتياب البغدادي، ما عجّل في إعلانه عن ولادة تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» المعروف تحت اسم «داعش»، فما كان من الجولاني - الذي يعرف تاريخ الحكام الإسلاميين وبطشهم عند النزاع على السلطة منذ وفاة الرسول الأكرم - إلا الإعلان عن بيعته لزعيم «القاعدة» في خراسان، الشيخ أيمن الظواهري، الذي وجد بالبيعة فرصة لإعادة بثّ «روح الجهاد» التي تأثّرت بضربات الولايات المتحدة، وحروبها الشرق أوسطية والعمليات الاستخباراتية.

وتُمثِّل بلاد الشام حلم الإسلاميين الجهاديين، وعلى رأسهم الظواهري، الذي جلس - بإعلان الجولاني البيعة له - على رأس قوة لا يستهان بها من الجهاديين، في زعامته على اليمن وسورية، وهذا ما سبّب الشرخ بين الظواهري والبغدادي وحرباً ضروساً بين «الجهاديين» أنفسهم، أينما تَواجد هؤلاء على أرضٍ واحدة.

أما الجولاني، فقد اعتمد سياسة ذكية، وتصرّف كالسنبلة التي تميل مع الرياح، فعندما هبّت رياح واشنطن لضرب «النصرة» كقوة عسكرية - لا كأفراد - واتُهمت «الجبهة» من المعارضة المسلحة السورية، بأنها تنفّذ أجندة خارجية، أعلن الجولاني ان تنظيمه «لا ينتمي الى اي تنظيم خارجي»، وفسر أعضاء التنظيم الإعلان وكأنه «فك ارتباط»، ورغم ان أعضاء مجلس شورته هم في غالبيّتهم من جهاديي «القاعدة» القدماء، فإن هذا لم يمنع ان الاسم الجديد قوبل بارتياح داخلي في سورية بين أطراف التنظيمات المسلحة الأخرى التي تقاتل النظام، ليصبح الاسم الجديد «جبهة فتح الشام».

وقادت «جبهة فتح الشام» معارك عنيفة في حلب، واستطاعتْ كسر الطوق عن مدينة حلب الشرقية المحاصَرة لأسابيع عدة، بعد تكبُّد أكثر من ألف قتيل من المهاجمين، وبينهم من المعارضة المسلّحة. إلا ان هذا الجهد الحربي عاد وكلّف الكثير من الأرواح والعتاد، لأن روسيا صمّمت على إعادة فرض الطوق على ما تبقّى من حلب. وهكذا أفرغت الطائرات الروسية حممها على المهاجمين، لتعيد الحصار من جديد. فلملم «الجهاديون» والمعارضة المسلحة جراحهم، لتعطيهم الديبلوماسية الاميركية الفرصة - من خلال تجاذباتها مع روسيا حول مشروع وقف الأعمال العدائية الفاشل - لإعادة تنظيم الصفوف والاستعداد لمعركة جديدة تُحضّر حول حلب. والسبب الرئيس لفشل مفاوضات وقف النار هو تمسّك الولايات المتحدة بعدم فصل المعارضة المسلّحة عن الجهاديين، والاستماتة بالدفاع عن بقاء قوة الجهاديين موحدة ومندمجة مع المعارضة التي تدعمها، كي لا تنطلق مرحلة الاقتتال الداخلي بين معارضي النظام السوري وآخرين، يتطلعون إلى بناء إمارة إسلامية في بلاد الشام.

واستطاعت حنكة زعيم القوة الجهادية الأكبر في سورية (بغض النظر عن قوة داعش) الجولاني، البقاء بين صفوف المعارضة والاحتماء بها، رغم خلافات قوية في المنهج والأهداف، بينه وبين قادة المعارضة المسلّحة. وهذا الخلاف تتشارك فيه المعارضة مع بقية التنظيمات الجهادية مثل «جند الأقصى» التي تعمل في الشمال السوري، واتُهمت مرات عدة بتنفيذ اجندة «داعش».

وهكذا، اندلعت اشتباكات عنيفة بين «أحرار الشام» المدعومة من تركيا «وجند الأقصى»، أسفرت عن مقتل العشرات من الطرفين، واتُهم «الجند» بـ «الخوارج» و«الردة» ووجد أكثر من 15 عالماً في الساحة السورية «وجوب استئصالهم» وكذلك «القضاء عليهم». واستطاعت «احرار الشام» السيطرة على مواقع عدة «للجند» في ساعات قليلة لتطلب «اجتثاثهم» وتسليم سلاحهم ومقراتهم فوراً. إلا ان تدخل السعودي عبد الله المحيسني، انتزع من «أحرار الشام» الموافقة على دمج «جند الأقصى» بفصيل آخر بقي على الحياد، ألا وهو «جبهة فتح الشام» بعد إنهاء وجودهم نهائياً تحت مسمى «الجند». وهكذا أصدر «جند الأقصى» بياناً موقّعاً من قائدهم الشيخ ابو دياب السرميني، ومن ابو محمد الجولاني، عن بيعة «الجند» لـ «جبهة فتح الشام» و«إحالة القضايا العالقة (مع أحرار الشام) الى قضاء شرعي».

وتَسبّب هذا الإعلان بحالة إرباك أولية. فأكد الناطق الرسمي باسم «أحرار الشام» أحمد قره علي، ان «لا صحة لأي عقد او اتفاق»، وكذلك أعلن مسؤول قاطع حماة في «جند الأقصى» أبو ذر الجزراوي، انه غير معني بالاندماج. إلا أن الساعات القليلة التي تلت الاتفاق وضعت نهاية للمعترضين، ورضي الجميع في «جند الأقصى» بمن فيهم ابو ذر النجدي الجزراوي وعبد الحكيم الجزراوي وأبو أحمد القطري وابو عمار المصري وابو حمزة اليمني بالبيعة، لتصبح «جبهة فتح الشام» أقوى بكثير، لدورها بالمصالحة ودمج فريق «الجند» القوي العقائدي، الذي استطاع فتح جبهة حماة، والتقدم والسيطرة على مناطق عدة كانت تابعة للنظام السوري، وهذا الاندماج الجديد بمثابة سيف ذي حدين او أكثر، لأنه:

1 - يعطي الاتفاق حجة اقوى لروسيا ضد اميركا التي تحاول المحافظة على جهاديي «قاعدة الجهاد» في سورية لوجود العدد الكبير من المقاتلين الأجانب ولا سيما ان «جند الأقصى» على لائحة الارهاب الاميركية. فهل تستطيع واشنطن تجاهل هذا الأمر؟ محتمل، فسياسة الرئيس باراك اوباما تقضي بعدم الإخلال بالتوازن لحين تسلم الرئيس الجديد.

2 – يعطي الاتفاق قوة اكبر لـ «جبهة فتح الشام» لتضاف الى رصيدها وقوتها، اذا استطاعت كبح زمام أعضائها الجدد (جند الاقصى) وترويضهم باتباع «جهاد التمكين» والقبول بالساحة الشامية، كما هي، الى حين تعاظم قوة الجهاديين لفرض الشريعة كما يريدونها هم، والتي تمنعهم من الاندماج مع «الجيش الحر» العلماني في معارك مشتركة.

3 – اندماج «جند الاقصى» يفتح الباب لتنظيمات أخرى جهادية للالتحاق «بجبهة فتح الشام» ما سيزيد من قوتها وتعاظُم مكانتها. وهذا ما يضاعف خطر الاشتباك مع التنظيم او معاداته او الابتعاد عنه ليصبح فريسةَ اي تَفاهُم مستقبلي روسي - اميركي محتمل، لأن ذلك سيؤدي الى هزيمة الطرفين ودماء كثيرة لا تتحمّلها كل أطراف المعارضة المسلحة.

ويبقى الوجود الروسي في الساحة الشامية هو الاساس، الذي يمنع قيام اي امارة مستقبلية. فروسيا تعتبر سورية خطاً أحمر، وهي مستعدة - كما قال وزير الخارجية والقيادة العسكرية - لضرب اي طرف (حتى الولايات المتحدة) اذا هوجم الجيش السوري، وهذا يدلّ على اهمية سورية لروسيا، وانها ستبقى في سورية لمدة غير محدَّدة، وستستخدم كل أنواع الأسلحة التي تريد استخدامها لمنْع الجهاديين من تشكيل اي كيان طويل الأمد. وهذا يبشّر بأن الحرب طويلة في سورية، لعدم رضوخ اي طرف أساسي لمشيئة الآخر، حتى ولو استُخدمت القوة المفرطة.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي