مثقفون بلا حدود
بساطة الرموز في فيلم «نهلة» الجزائري
د. فهد سالم الراشد
فيلم «نهلة» من إنتاج التلفزيون الجزائري للمخرج فاروق بلوفة 1979، يحكي قصة صحافي جزائري في بيروت عام 1976، عند اندلاع الحرب الأهلية يلتقي بشخصيات عدة تحيط بالمغنية «نهلة».
تحليل الفيلم: أرادت السينما الجزائرية أن تضع لها موضع قدم ليس فقط على المستوى المحلي؛ بل على المستوى العربي والعالمي أيضا، وقد نجحت في ذلك من خلال هذا الفيلم الذي يجسد لنا المشاركة الوجدانية بين أبناء الوطن العربي، ورمزية المصير المشترك، ورمزية الوجود في خندق واحد كتفا إلى كتف، كما أرادت السينما الجزائرية أن تثبت قدرتها على الإنتاج خارج نطاق الجزائر، إن هذا الفيلم تم تصويره في لبنان وفي أصعب فترة زمنية مرت على لبنان وهي رمزية على قدرة الإنتاج الجزائري في أحلك الظروف وأصعبها؛ فالحرب الأهلية قد اشتعلت بين الطوائف اللبنانية وبشراسة لا نظير لها، مما أتاح الفرصة أمام الإسرائيليين لاستغلال هذا التمزق الداخلي اللبناني كي تشن الغارة تلو الغارة على مواقع الفلسطينيين ومخيماتهم، وتظل مدينة بيروت رمزا للصمود الذي قهر العدو الصهيوني ولم يستطع معه النيل من كبريائها، والرمزية هنا تكمن في العناد والإصرار والمقاومة، كما أن الهجوم الإسرائيلي رمز لوحشية الآلة العسكرية الصهيونية التي لم تميز بين المواقع العسكرية والمواقع المدنية، ولم تفرق بين العسكري والمدني ولم تفرق بين الطفل والصبي والشاب والأم والعجوز والشيخ الهرم؛ بل مزقت الكل وتركت أشلاءهم في العراء، وهدمت البيوت والبنايات حتى غدت أطلالا خاوية من سكانها وأضحى كثير من الأسر على شفير الانهيار والتفكك والدمار، مناظر تنخلع له القلوب، واللافت للنظر أنه حينما تنتهي الغارة الجوية الإسرائيلية، يخرج الناس من كل اتجاه ومن تحت البنايات ليعيشوا حياتهم اليومية المعتادة رغم أنف الصهاينة الأعداء.
ويشدك المخرج الجزائري فاروق بلوفة، في عبارة غاية في الروعة قيلت على لسان أحد أبطال الفيلم وهي «مصلحة الشعب اللبناني والشعب الفلسطيني واحدة لا تتجزأ»، جميل أن يصور لك المخرج هذا التضامن العربي رغم قسوة الحرب، ومرارة نتائجها، إلا أن المخرج أبى إلا أن يضرب لنا روعة الاتحاد وقوة التكاتف – ولاسيما – وأنت ترى صورة الزعيم العربي جمال عبد الناصر معلقة على شوارع لبنان، وغناء أم كلثوم يصدع في أرجاء بيروت وأزقتها ومقاهيها الجميلة، ويختار لك المخرج مقطعا من أغنية يوحي بالكثير حينما تشدو أم كلثوم قائلة: «لا ليلة ولا يوم أنا ذقت النوم أيام بعدك»، لاشك بأنها تحمل إسقاطات في مخيلة المخرج، وترمي بظلالها على وجدانه العربي...
وينتقل بنا المخرج الجزائري إلى رمز آخر؛ فلا تغيب عنه الصغيرة فكيف بالكبيرة! إن الكتابة على الجدران بعبارات ثورية ضد العدو الصهيوني رمز للرفض المطلق؛ فالأرض أرضي والجدار جداري ولا مكان لك أيها اليهودي ههنا، وهذا ما عـبّر عنه المخرج الجزائري حينما صور لنا الغناء عن الحب والحياة اليومية والتفاؤل الذي تسعد به لبنان في كل صباح، وإذا كانت المقاومة صلبة وصلدة في وجه الغزاة الغاصبين، فإن روح السلام والحوار مع الآخر مفتوحة في قلب كل مسلم هذا ما نقله المخرج في لقاء الرئيس المصري أنور السادات مع كيسنجر وزير خارجية أميركا في عهد الرئيس الأميركي جوني كارتر، ولعل المخرج أراد أن يربط المصير اللبناني بالمصير الجزائري أيضا نستشف ذلك عندما استخدمت الصحافية اللبنانية مصطلح «المرابطة»، كما أراد أن يقول للبنانيين إن الجزائر ليست بمنأى عنكم بدليل هذه المتابعة الصحافية الجزائرية لأحداث لبنان- لاسيما- الجنوب اللبناني المحتل آنذاك.
وحين يصور لك المخرج أدوات العمل الصحافي من مثل الورقة والقلم وجهاز التسجيل بالأشرطة والأسطوانات وطابعة يدوية صغيرة، فهو بذلك يرمز إلى إتقان العمل الصحافي الذي يتسم به الصحافي الجزائري، كما أن هدوء الصحافي الجزائري والنظر الدائم والتمعن والإنصات وعدم التدخل إلا وقت الحاجة وعدم الكشف عن هويته ووظيفته، كل ذلك جعله محل اهتمام بطلة الفيلم «نهلة»، التي ترمز إلى الوطنية اللبنانية، لعل هذا الفيلم يتكلم عن التجربة الصحافية الجزائرية في بدياتها وفي نضجها.
لقد اعتمد المخرج الجزائري فاروق بلوفة، في هذا الفيلم الرمز في كل شيء وإن صح التعبير فإن الفيلم رمزي بكل ما يعنيه هذا المصطلح الأدبي من معنى، فها هو يصور لبنان بلد التعليم والتجارة والأسواق ممتلئة بكل متطلبات العيش، ولا ينقصها غير الأمن والأمان، وإن كان اللبنانيون لا يعيرون اهتماما لمسألة الأمن والأمان؛ فهم يخرجون ويتجولون ويمارسون حياتهم اليومية المعتادة بحلوها ومرها وهدوئها وصخبها، والصحافي الجزائري لا يقل عنهم حبا للحياة، فهو أيضا يتجول في لبنان بحرية مطلقة راميا الخوف وراء ظهره غير عابئ بما قد يكتنفه من أخطار الغارات الهمجية الإسرائيلية المفاجئة.
لقد تألق المخرج الجزائري فاروق بلوفة، في تصوير هذا الفيلم لدرجة أنه لم يفته شيئا، فقد صور المراقص والطرب والغناء حتى معاكسة المارة للبنات، وسيارات المرسيدس التي تكثر في لبنان ترمز إلى درجة عالية من الترف والعيش الرغد والدعة، كما صور كيف اهتز العالم العربي لوفاة ملكة الغناء العربي أم كلثوم، ولم يغفل فيروز فقد مثلت دورها ( نهلة )، ذلك الصوت العربي الجبلي الثائر، ثم ينتقل بنا إلى مطابع لبنان المتقدمة وهي ترمز إلى الحضارة والثقافة العالية للبنانيين.
خلاصة القول إن الحرب لم تحرم الشعب اللبناني من الابتسام.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]
تحليل الفيلم: أرادت السينما الجزائرية أن تضع لها موضع قدم ليس فقط على المستوى المحلي؛ بل على المستوى العربي والعالمي أيضا، وقد نجحت في ذلك من خلال هذا الفيلم الذي يجسد لنا المشاركة الوجدانية بين أبناء الوطن العربي، ورمزية المصير المشترك، ورمزية الوجود في خندق واحد كتفا إلى كتف، كما أرادت السينما الجزائرية أن تثبت قدرتها على الإنتاج خارج نطاق الجزائر، إن هذا الفيلم تم تصويره في لبنان وفي أصعب فترة زمنية مرت على لبنان وهي رمزية على قدرة الإنتاج الجزائري في أحلك الظروف وأصعبها؛ فالحرب الأهلية قد اشتعلت بين الطوائف اللبنانية وبشراسة لا نظير لها، مما أتاح الفرصة أمام الإسرائيليين لاستغلال هذا التمزق الداخلي اللبناني كي تشن الغارة تلو الغارة على مواقع الفلسطينيين ومخيماتهم، وتظل مدينة بيروت رمزا للصمود الذي قهر العدو الصهيوني ولم يستطع معه النيل من كبريائها، والرمزية هنا تكمن في العناد والإصرار والمقاومة، كما أن الهجوم الإسرائيلي رمز لوحشية الآلة العسكرية الصهيونية التي لم تميز بين المواقع العسكرية والمواقع المدنية، ولم تفرق بين العسكري والمدني ولم تفرق بين الطفل والصبي والشاب والأم والعجوز والشيخ الهرم؛ بل مزقت الكل وتركت أشلاءهم في العراء، وهدمت البيوت والبنايات حتى غدت أطلالا خاوية من سكانها وأضحى كثير من الأسر على شفير الانهيار والتفكك والدمار، مناظر تنخلع له القلوب، واللافت للنظر أنه حينما تنتهي الغارة الجوية الإسرائيلية، يخرج الناس من كل اتجاه ومن تحت البنايات ليعيشوا حياتهم اليومية المعتادة رغم أنف الصهاينة الأعداء.
ويشدك المخرج الجزائري فاروق بلوفة، في عبارة غاية في الروعة قيلت على لسان أحد أبطال الفيلم وهي «مصلحة الشعب اللبناني والشعب الفلسطيني واحدة لا تتجزأ»، جميل أن يصور لك المخرج هذا التضامن العربي رغم قسوة الحرب، ومرارة نتائجها، إلا أن المخرج أبى إلا أن يضرب لنا روعة الاتحاد وقوة التكاتف – ولاسيما – وأنت ترى صورة الزعيم العربي جمال عبد الناصر معلقة على شوارع لبنان، وغناء أم كلثوم يصدع في أرجاء بيروت وأزقتها ومقاهيها الجميلة، ويختار لك المخرج مقطعا من أغنية يوحي بالكثير حينما تشدو أم كلثوم قائلة: «لا ليلة ولا يوم أنا ذقت النوم أيام بعدك»، لاشك بأنها تحمل إسقاطات في مخيلة المخرج، وترمي بظلالها على وجدانه العربي...
وينتقل بنا المخرج الجزائري إلى رمز آخر؛ فلا تغيب عنه الصغيرة فكيف بالكبيرة! إن الكتابة على الجدران بعبارات ثورية ضد العدو الصهيوني رمز للرفض المطلق؛ فالأرض أرضي والجدار جداري ولا مكان لك أيها اليهودي ههنا، وهذا ما عـبّر عنه المخرج الجزائري حينما صور لنا الغناء عن الحب والحياة اليومية والتفاؤل الذي تسعد به لبنان في كل صباح، وإذا كانت المقاومة صلبة وصلدة في وجه الغزاة الغاصبين، فإن روح السلام والحوار مع الآخر مفتوحة في قلب كل مسلم هذا ما نقله المخرج في لقاء الرئيس المصري أنور السادات مع كيسنجر وزير خارجية أميركا في عهد الرئيس الأميركي جوني كارتر، ولعل المخرج أراد أن يربط المصير اللبناني بالمصير الجزائري أيضا نستشف ذلك عندما استخدمت الصحافية اللبنانية مصطلح «المرابطة»، كما أراد أن يقول للبنانيين إن الجزائر ليست بمنأى عنكم بدليل هذه المتابعة الصحافية الجزائرية لأحداث لبنان- لاسيما- الجنوب اللبناني المحتل آنذاك.
وحين يصور لك المخرج أدوات العمل الصحافي من مثل الورقة والقلم وجهاز التسجيل بالأشرطة والأسطوانات وطابعة يدوية صغيرة، فهو بذلك يرمز إلى إتقان العمل الصحافي الذي يتسم به الصحافي الجزائري، كما أن هدوء الصحافي الجزائري والنظر الدائم والتمعن والإنصات وعدم التدخل إلا وقت الحاجة وعدم الكشف عن هويته ووظيفته، كل ذلك جعله محل اهتمام بطلة الفيلم «نهلة»، التي ترمز إلى الوطنية اللبنانية، لعل هذا الفيلم يتكلم عن التجربة الصحافية الجزائرية في بدياتها وفي نضجها.
لقد اعتمد المخرج الجزائري فاروق بلوفة، في هذا الفيلم الرمز في كل شيء وإن صح التعبير فإن الفيلم رمزي بكل ما يعنيه هذا المصطلح الأدبي من معنى، فها هو يصور لبنان بلد التعليم والتجارة والأسواق ممتلئة بكل متطلبات العيش، ولا ينقصها غير الأمن والأمان، وإن كان اللبنانيون لا يعيرون اهتماما لمسألة الأمن والأمان؛ فهم يخرجون ويتجولون ويمارسون حياتهم اليومية المعتادة بحلوها ومرها وهدوئها وصخبها، والصحافي الجزائري لا يقل عنهم حبا للحياة، فهو أيضا يتجول في لبنان بحرية مطلقة راميا الخوف وراء ظهره غير عابئ بما قد يكتنفه من أخطار الغارات الهمجية الإسرائيلية المفاجئة.
لقد تألق المخرج الجزائري فاروق بلوفة، في تصوير هذا الفيلم لدرجة أنه لم يفته شيئا، فقد صور المراقص والطرب والغناء حتى معاكسة المارة للبنات، وسيارات المرسيدس التي تكثر في لبنان ترمز إلى درجة عالية من الترف والعيش الرغد والدعة، كما صور كيف اهتز العالم العربي لوفاة ملكة الغناء العربي أم كلثوم، ولم يغفل فيروز فقد مثلت دورها ( نهلة )، ذلك الصوت العربي الجبلي الثائر، ثم ينتقل بنا إلى مطابع لبنان المتقدمة وهي ترمز إلى الحضارة والثقافة العالية للبنانيين.
خلاصة القول إن الحرب لم تحرم الشعب اللبناني من الابتسام.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]