مثقفون بلا حدود

أوجاع الذاكرة... مجموعة قصص قصيرة (2 من 2)

تصغير
تكبير
أراد الماجري أن يثور على القالب القصصي المعتاد ويسهم بإنشاء كتابة قصصية حديثة؛ فإلى أي مدى نجح الماجري في ذلك؟ نحن مع كل ما هو جديد يثري اللغة العربية حين توقفت بها عجلة الزمن من فترة ليست بالقصيرة؛ لذا: نرى تمردا واضحا للماجري في هذه المجموعة على كل الأعراف والتقاليد القصصية، لقد كسر حاجز المقومات وسحق الأسس وقذف بالتقليد القصصي السردي المعتاد من أعالي الجبال المرتفعة، محمد الماجري لم يقم وزنا لنمطية السرد القصصي؛ بل لجأ إلى شدّ القارئ إلى منتصف الطريق ثم ترك له حرية السير وحده لمواصلة الطريق .محمد الماجري لم يعر اهتماما لعنصريْ الزمان والمكان وذلك واضح؛ فمحمد الماجري حينما خرج من القرية الريفية لم تعد الأمكنة مهمة بالنسبة له، وهو يرى أن المكان المقدس هو القرية، والأكثر قداسة هو بيته بوجود والدته وأخوته، وما دون ذلك لا يعد مكانا يثير اهتمام الماجري، فبدأ يعبث بالأمكنة بطريقة لا فتة للنظر، قال في قصة «رجل غريب»: «مدينة مبعثرة المشاعر، موصدة الأبواب، مغلقة النوافذ، تسمع صرير الأسرة بعنفوان تعكس غلس الليل البهيم في سراديب من اللهاثات» ص 6.أما عنصر الزمان فلا يعني شيئا عند الماجري، فهو يتنقل في المدينة وفي سككها وأزقتها وتستهويه الأحياء الشعبية، وقد يبات في قهوة وقد يتصعلك في شوارع المدينة حتى الصباح؛ فهو من عشاق شارع بورقيبة ومقاهيه الرائدة، ولعل الماجري يوحي لك بالمشعث الذي لا تقيده ضوابط أو تحكمه معايير، وقد يختلق أمورا كثيرة وألاعيب مع الأصدقاء ليضيّع وقته في حال فراغه من العمل؛ لذا فالزمان بالنسبة للماجري هو وقت عمله فقط، من هنا جاءت مجموعته القصصية بأزمنة متداخلة سواء أكانت الأزمنة الفنية أم الأزمنة التاريخية، يقول في قصة «أمل»: «اليوم بعد أشهر من محبتنا قالت لي لم أكن أتصور أني سأحبك ليلتها ولكن الآن كم أعشقك. أنت التاريخ الذي سيكتبني» ص 33 . أما شخوص الماجري فهي كاركتر يرسمه من موروثه، لتصبح دمى يحركها بأنامله بطريقة ساحرة كيفما شاء، فتارة يجعل منها آلهة مقدسة، وتارة يخسف بها الأرض، وتارة يرفع من شأنها إلى درجة العلماء، وتارة يسيّرها كقطيع من الغنم على حسب هواه .يخيّل إليّ في كثير من الأحايين أن محمدا قد امتلك ناصية الكتابة الحيّة، فهو كثير القراءة، ولديه معلومات متراصة ومتزاحمة، بيد أن هاتين الخصلتين إذا لم يوظفا بالطريقة السليمة الصحيحة قد يهويان بصاحبهما. والماجري بما أنه قدم مجموعته الأولى ما يعني أنها الكتابة الأولى، تشفع له إذاما تأرجح بين الإتقان والخفقان، وهذا بديهي جدا لرجل عجّ فكره بكثير القراءات في حيّز ضيق من الوقت؛ فإلى أن تمحصها وتغربلها الأيام وتوظفها بقوالبها الصحيحة وتكون الاستفادة منها في مكانها؛ لا شك بأن ذلك يحتاج إلى وقت طويل حتى تنضج وتثمر .

والتأني والتريث في الكتابة مطلب صعب المنال؛ فكل منا يريد أن يكتب بسرعة ويكون مزهوا بما يكتب- ولا سيما- إذا وجد الإطراء والثناء والشكر والتبجيل منذ الوهلة الأولى، فحذار حذار من الوهلة الأولى للكتابة، أيضا العمل القصصي يريد الإخلاص والتفرد له، كما يقول المثل المصري (زي الفريك مايحبش شريك)، لذا؛ ينبغي على القاص أن ينام مع القصة، ويحلم بالقصة، ويصحو للقصة.

الماجري ونظرية التأثير والتأثر: ما من شك أن القاص التونسي الشاب محمد الماجري، وأغلب الكتاب التونسيين قد تأثروا بزعيم الكتابة الأدبية التونسية محمود المسعدي، بل لقد سمعت بعضا ممن استضافتهم إذاعة تونس الثقافية يقول: «إن المسعدي هو بوابة الكتابة الأدبية».

وكتابات المسعدي تحظى بمساحة كبيرة في كتاب البكلوريا التعليمي، وكل من يحصل على البكالوريا، متأثرا بالفطرة بهذا الرجل الفذّ، مما ينعكس فيما بعد على كتاباته الأولى إذا أصبح قاصا أو أديبا، ودعني أسميها (المدرسة المسعدية الأدبية)، ولعل الماجري هنا من أكثر المتأثرين في كتابات المسعدي منذ حصوله على البكلوريا، وهذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار بمجموعته القصصية «أوجاع الذاكرة»، ويتجه ظني أن بعض قصصه أخذت سمة البحث الأكاديمي أكثر منها قصة تدغدغ المشاعر وتحرك الوجدان وتلهب العاطفة، يتضح لنا هذا من أول قصة في المجموعة «رجل غريب». لقد نقل الماجري في هذه القصة التي لم يتجاوز زمنها الفني الذي يحسب على القاص خمس ورقات من القطع الصغيرة، نقل ثلاثة نصوص؛ الأول ويتكون من سبعة أسطر لابن خلدون ص 7، والثاني يتكون من خمسة أسطر أيضا لابن خلدون ص 9، والثالث لابن خلدون ص 9 .

وحينما يصطدم الشاب التونسي الريفي محمد الماجري بالنظرة الفوقية لبعض أدباء المدينة، ونرجسية البعض الآخر، ينتفض «كما انتفض العصفور بلله القطر» ليناطح هذه الفوقية محاولا كسر أنفتها والحط من كبريائها وسحق نرجسيتها، يقول في قصة «حقيقة»: «قرأت كل الكتب... أنا لا أدخن ولا ألعب الورق، أفضل التأمل في الوجود وأفضل الكتب» ص 13.

ثم يؤكد ذلك بهستيريا كتابية، فيعزف لنا سينفونية لأسماء علماء وشعراء، وقائمة بمصطلحات أصابت قصصه القصيرة بالتخمة من مثل (ابن خلدون، المنهج البنيوي، الشكلاني، السيميائي، التداولي، التأويلي، منطق بروب «الحكاية العجيبة»، سيف ذي يزن، العلوم العقلية وأصنافها، علم تعبير الرؤيا، التعبير الروائي، أسوالد ديكرو، تزفيتان تودوروف، ميخائيل ريفاتير، جيرار جينات، آن مورال، يوري تينيانون، هانس روبرت يوس، الارتماطيقي، العلوم العددية، المسار الروائي)، كل ذلك جاء في قصة واحد ة «رجل غريب»!

ولك أيها القارئ أن تكشف ذلك في باقي قصص المجموعة- لاسيما- قصة يوميات شاعر غريب.

في الختام: لقد اخترق محمد الماجري نواميس الكتابة القصصية واصطنع لنفسه كتابة- قد لا يفهمها البعض- وكأنه بذلك أراد أن يقول: أنا كاتب من نوع خاص؛ ولنوع خاص من القراء.

إذن نحن هنا بصدد مولد كاتب تونسي من نوع خاص، كتابته خليقة بالعناية والاهتمام من قبل النقاد ومحبي الأدب والفكر.

* كاتب وباحث لغوي كويتي

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي