صناع النجوم

اللبنانية آسيا داغر... صانعة النجوم وأم السينما المصرية / 30

تصغير
تكبير
| القاهرة - من سمر سعد |
غدت صناعة النجوم واحتضان المواهب، وشمولها بالرعاية والتربية... سواء في الفن أو غيره من المجالات الأخرى... فنا وفكرا وعلما واحترافا... في زمننا الحالي، بالرغم من أنها أمر قديم، ولكن دخل عليها حتما التطوير... في إطار أن كل شيء تبدل وتطور.
وإذا كانت المساعدات والمساندات... والدفعة الأولى - في أيام زمن الفن الجميل - كانت «حاضرة»... كثير أيضا من نجوم الجيل الحالي في الفن تحديدا، يقف وراءهم جهات إنتاجية كبيرة، أو مديرو أعمال على درجة عالية من الكفاءة والدراية والخبرة، التي تمكنهم من توجيه الفنان بصورة أقرب للمثالية، وتختصر كثيرا من الخطوات.
قد يكون صانع النجم «منتجا أو مخرجا أو مدير أعمال»، أو أحد أفراد أسرته، لكنه يكون في جميع الأحوال أشبه ببطارية الطاقة بالنسبة للفنان، وهو الذي ينسق خطواته، ويشاركه الرأي في اختيار أعماله، ويحدد له أوقات ظهوره إعلاميا.
وهذا ما يحدث تحديدا الآن، غير أن الأمر يبدو مختلفا منذ عقود عدة، حيث كانت الأمور تترك للصدفة أو القدر، فكم من فنان حقيقي، لم يكن يدرك أن بداخله موهبة كامنة، تريد من يستفزها ويضعها على الطريق الصحيح، وربما كان حدد مصيره في مهن ومجالات أبعد ما تكون عن الفن، ولكن خبرة منتج أو مخرج أو فنان كبير، هي التي تنتشله مما هو فيه، وتقدمه للفن، وينطلق، ويصبح بين عشية وضحاها من كبار النجوم.
حدث هذا مع «تحية كاريوكا ونجلاء فتحي ورشدي أباظة ونور الشريف ومحمود عبدالعزيز» وغيرهم، ممن سنتناولهم في هذه الحلقات التي سنتعرف من خلالها على البدايات الأولى لـ 15 فنانا من نجوم الصف الأول، وكيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وأصحاب الأيادي البيضاء عليهم، الذين كانوا لا يبخلون بالتوجيه والنصيحة لوجه الفن، وليس لوجه شيء آخر، وأيضا ننتهي بـ «صانعة النجوم»... هذه التي وهبت حياتها... لتصنع نجوما، وتضعهم في الصفوف الأولى... والحكايات كثيرة.
في الحلقات الـ 14 الماضية... استعرضنا بشيء من التفصيل البدايات الأولى لـ 14 فنانا وفنانة، وتعرفنا على مكتشفيهم وأصحاب الأيادي البيضاء عليهم في خطواتهم الأولى... ولكن في هذه الحلقة... نتحدث عن المنتجة اللبنانية آسيا داغر... التي صنعت نجوما في السينما المصرية، وقدمت أهم أفلامها على الإطلاق مثل «الناصر صلاح الدين» و«رد قلبي».
تعتبر آسيا داغر... من سيدات العصر الذهبي... فهي المرأة المغامرة وذات الإرادة الحديدية، حيث عملت في التمثيل والإنتاج ...وارتبط اسمها بالمخرج أحمد جلال وابنة أختها ماري كويني ...وبدأت مشوارها الإنتاجي بـ «1000» جنيه.
وآخر إنتاج لها وصل إلى «19» ألف جنيه، وقدمت للسينما المصرية عشرات الأفلام وتعاونت مع 18 مخرجا فقدمت هنري بركات وحسن الإمام وإبراهيم عمارة وحلمي رفلة وكمال الشيخ - وغيرهم من المخرجين الذين أصبحوا من أهم رواد صناعة السينما المصرية.
رائدة الرواد
لقبت بـ (أم السينما المصرية)، فهي رائدة من رائدات هذه السينما، وسيدة الإنتاج السينمائي الرفيع... أمضت حياتها وهي تعمل في السينما كممثلة ومنتجة... عمرها من عمر السينما المصرية، وهي جزء من تاريخها وحاضرها، حيث أهدت لها ما يقارب الـ70 فيلماً.
الفنانة «آسيا»... هل يتذكرها الجيل القديم من الجمهور السينمائي... وهل يعرف الجيل الجديد منه، هذه الفنانة الكبيرة؟ كانت صاحبة أجمل عيون زرقاء عرفتها الشاشة الفضية.
ولدت «آسيا» في قرية «تنورين» اللبنانية في عام 1912، وبدأت حياتها كممثلة في لبنان عندما قدمت فيلمها القصير «تحت ظلال الأرز».
وأول من شجعها ووقف بجانبها كانت والدتها التي كانت عاشقة للتمثيل والفن عامة ...ولكن لم تلق الانتشار المطلوب ولذلك قررت السفر إلى القـاهـرة، لتظهر آسيا كـممـثلة فـي أول فيـلم مـصـري صـامت، وهـو فيــلم (ليلى - 1927) الذي أنتجته «عزيزة أمير»...وهي إحدى الرائدات في عالم السينما فقدمت أول فيلم مصري وأثرت كثيرا على آسيا واعتبرتها مثلا أعلى لها في كل شيء فعلمتها النطق الصحيح للهجة المصرية بالرغم من أن الفيلم كان صامتا وعلمتها كيف تعتمد على نفسها وحب المغامرة.
عميدة المنتجين
أسست «آسيا» شركة «لوتس فيلم» لإنتاج وتوزيع الأفلام واستمرت في الإنتاج، فيما توقفت شركـات إبراهيم وبدر لاما وعزيزة أمير وبهيجة حافظ... لذا استحقت لقب عميدة المنتجين، وأصبحت شركتها أقدم وأطول شركات الإنتاج السينمائي المصري عمراً.
أول ما قدمته فيلم «غادة الصحراء - 1929» وكان أول بطولة لها، إضافة إلى أنه باكورة إنتاجها... فقد استعانت بالفنان التركي «وداد عرفي» لإخراجه، ثم مع «إبراهيم لاما» لإخراج فيلم «وخز الضمير - 1931»... بعدها تعرفت على السينمائي والروائي والصحافي «أحمد جلال»، فأخرج لها كل ما أنتجته من أفلام في الفترة ما بين العامين 1933 و 1942، والتي قاربت الـ 15 فيلما، أهمها: عيون ساحرة - 1934وشجرة الدر - 1935 وفتاة متمردة - 1940
الناقد «سعد الدين توفيق» ثمّن في كتابه (قصة السينما في مصر) جهود المخرج «أحمد جلال» وشركة لوتس فيلم للارتقاء بالسينما المصرية، فقال: (....من التجـارب الجـريئـة المهـمة التي ظهرت في بدايـة مرحـلة الـسـينما الناطـقة فيلم «عيون ساحرة» الذي ألفه وأخرجه أحمد جلال).
وكان أول فيلم مصري من نوع الخيال العلمي... وهذه جرأة غير عادية أن يُقد.م «أحمد جلال» على إخراج فيلم من هذا النوع في وقت مبكر كهذا... وبعد عامين قام «جـلال» بمحاولة جريئة أخرى، وهي إخـراج أول فيـلم تـاريخي مصـري وهـو (شجرة الدر) الذي أنتجته شركة لوتس فيلم أيضاً.
إلى القاهرة
وفي هذه الأثناء تزوج «أحمد جلال» من ابنة أخت «آسيا» الفنانة «ماري كويني»، التي جاءت إلى القاهرة العام 1922، ولم تكن قد تجاوزت الـ «16». وفي حين كانت خالتها آسيا عازمة على خوض مجال السينما وهو ما دفعها إلى التوجه إلى القاهرة، لم تكن كويني تعرف أي مصير ينتظرها. ولكن بدا واضحاً بعد أعوام قليلة أن مصيرها مرتبط بمصير خالتها وتالياً بالسينما. فظهورها السينمائي الأول تزامن مع خوض آسيا داغر تجربتها الإنتاجية الأولى بفيلم «غادة الصحراء» الذي عُر.ض عام 1929. وضع هذا الفيلم شكل التعاون بين الاثنتين لنحو أكثر من عقد من الزمن، حيث لعبت آسيا المنتجة والممثلة ووقفت كويني خلفها ممثلة مساعدة، ولاحقاً في أفلام عدة... مونتيرة.
وبعد نجاح «غادة الصحراء»... شاركتا في التجربة الإنتاجية المشتركة مع الأخوين بدر وإبراهيم لاما في «وخز الضمير» (1931) ... حيث التقتا أحمد جلال، كاتب السيناريو ومساعد المخرج في الفيلم. وما لبث الثلاثة داغر وكويني وجلال... أن شكلوا ثلاثيا، أساسه آسيا من خلال شركتها الإنتاجية «لوتس فيلم» التي أنتجت حتى العام 1941 نحو «11» فيلماً، أشرفت آسيا على إنتاجها ولعبت بطولتها، وشغلت كويني الدور الثاني بينما تولّى جلال الإخراج. وتناولت تلك الأفلام موضوعات محورها المرأة بشكل مباشر ومن تلك العناوين: «عندما تحب امرأة» (1933) الذي شكل التعاون الأول بين الثلاثي، «عيون ساحرة» (1934)، «بنت الباشا المدير» (1938).
وبالطبع «شجرة الدر» (1935) الذي يُعد أول فيلم تاريخي في السينما المصرية. في العام 1940، وحقق الفيلم إقبالاً جماهيرياً كبيراً وارباحاً ضخمة وانتهى إلى زواج نجمته كويني ومخرجه أحمد جلال...بعد ذلك، غابت كويني عن فيلمين، أنتجتهما خالتها ولعبت بطولتهما وأخرجهما زوجها هما «امرأة خطرة» و«العريس الخامس» (1941). كانت كويني أنجبت في العام نفسه ابنها الوحيد نادر من (المخرج نادر جلال) وأعلنت مع جلال فض الشراكة مع آسيا منذ العام 1942 والتفرغ لشركتهما الخاصة «جلال فيلم»... التي أصبحت لاحقا «أستديو جلال» عام 1944.
الاختيارات المثيرة
وبالرغم من جمال ماري كويني الأخاذ وملامحها التي كانت تؤهلها لأن تصبح نجمة على غرار ما كان سائدا... بقيت ماري كويني إمرأة اكثر إثارة باختياراتها الخاصة، البعيدة عن حسابات النجومية. لعلها لم تمل بالفعل إلى التمثيل، أو ربما وجدت أنها لن تستطيع أن تهبه نفسها بالكامل لارتباطها بتربية طفل وحيدة وبالحفاظ على إرثها الفني، الاستديو الذي شيدته مع رفيق دربها.
ولهذا كان لابد لـ «آسيا» أن تبحث عن مخرج آخر، فاتجهت إلى مساعد مخرج شاب في الثامنة والعشرين من عمره ليقوم بإخراج فيلم (التشريد - 1942) وكان هذا المخرج هو «هنري بركات».
و«آسيا» كفنانة، لا تعتمد في عملها على الأسماء المعروفة من المخرجين والممثلين، ولهذا فإن السينما المصرية تدين لها بالكثير... فقد قدمت لهذه السينما مخرجين جددا أصبحوا من الكبار في عالم الإخراج فيما بعد، أمثال: «هنري بركات، حسن الإمام، إبراهيم عمارة، أحمد كامل مرسي، يوسف معلوف، عز الدين ذوالفقار، حسن الصيفي، حلمي رفلة وكمال الشيخ».
كما قدمت من النجوم «فاتن حمامة» وهي في بداية حياتها الفنية، تخطو نحو السادسة عشرة من العمر في فيلم (الهانم - 1947)، واكتشفت «صباح» سينمائيا، وقدمتها في فيلم (القلب له واحد - 1945)، وصلاح نظمي في فيلم «هذا جناه أبي - 1945».
وقد تحدث شيخ المخرجين «أحمد كامل مرسي» عن الفنانة «آسيا» فقــال في مذكراته: (... من عملي معـها ومن تتــبع إنتـاجـهـا، فإن لـها آراء مهمة في هـذا المجـال، فقد كانت تهتم بالقصة والسيناريو... حيث كانت هذه هي القاعدة الأساسية لنجاح العمل السينمائي، وكان ذلك - بالطبع - رأيا سليما... كما أنها لم تكن تعتمد كثيراً على أسماء النجوم، باعتبار أن النجم هو الذي يجلب النجاح السريع، إنما كانت تعتمد على القصة والسيناريو واختيارها للمخرج والممثلين، وتضع الشخص المناسب في المكان المناسب، بل كانت تعمل بنفسها فتحمل المقاعد وتحضر أكواب الماء وتشرف على الملابس، وعلى كل صغيرة وكبيرة.
رد قلبي
ومن أقرب الأفلام إلى قلب آسيا هو فيلم (رد قلبي) التي أنتجته، وقالت عنه في مذكراتها: «وقتها وقف كل الناس ضدي، وبالذات السينمائيين، واعتبروها مغامرة فاشلة، فقد كانت ظاهرة الفيلم السياسي جديدة علينا، أوضاع الثورة وملامحها لم تكن قد استقرت بعد، لكنني كنت أؤمن في أعماقي بأن الثورة ستنجح وتستمر، وأن السينما لابد أن تعبر عن هذا الحدث» فالسينما جزء لا يتجزأ من الواقع ...وبالفعل كانت على حق، وحقق الفيلم أعلى الايرادات وحتى الآن يعرض الفيلم وخاصة في عيد ثورة 23 يوليو من كل عام ولقب بفيلم «إنجي وعلي».
والفيلم بطولة: مريم فخر الدين وشكري سرحان، حسين رياض، صلاح ذو الفقار، أحمد مظهر، أحمد علام، هند رستم والإخراج لعز الدين ذو الفقار - تصوير: وحيد فريد و حوار: عز الدين ذو الفقار ويوسف السباعي.
الأفلام التاريخية
ومنذ بداية عملها في الإنتاج السينمائي، أعطت «آسيا» اهتماما خاصا للأفلام التاريخية الملحمية، فقد أنتجت فيلم (شجرة الدر) في بداية مشوارها الفني، ثم فيلم (أمير الانتقام) الذي أخرجه «هنري بركات» عام 1950... إلا أنها توَّجت إنتاجاتها الملحمية الضخمة بفيلم (الناصر صلاح الدين ـ 1963) الذي تكلف إنتاجه «200» ألف جنيه، وكان ذلك ـ وقتها ـ أعلى ميزانية توضع لإنتاج فيلم مصري... ووُصفت تجربة «آسيا» الإنتاجية في هذا الفيلم بأنها التجربة السينمائية المريرة التي مرت بها خلال مسيرتها الفنية الطويلة.
فقد استمر الإعداد للفيلم لمدة «5» سنوات، وكان من المفترض أن يخرجه «عز الدين ذوالفقار» ولكنه مرض أثناء كتابة السيناريو، وذلك بعد أن تعاقدت مع الممثلين... فلم يكن من «آسيا» إلا أن تؤجل البدء في العمل، حتى نصحها «ذوالفقار» بعد أن اشتد عليه المرض بالاستعانة بالمخرج «يوسف شاهين»، وكان هذا أول تعامل لها معه.
وقد ضحت «آسيا» بالكثير من أموالها وكل ثرواتها من أجل إنتاج (الناصر صلاح الدين)، حيث استدانت من هيئة السينما في مصر ورهنت حتى بنايتها الوحيدة، وتعرضت للحجز على أثاث بيتها وأثاث شركتها وسيارتها أيضاً... لقد ضحت بكل شيء من أجل أن يظهر الفيلم بهذا الشكل الجيد والمستوى العالمي المشرف الذي ظهر به... وبالرغم من كل هذا الجهد الجبار الذي بذل لهذا الفيلم، إلا أنه لم يحقق ذلك المردود المادي الذي كان متوقعاً له، بل إنه ألحق خسارة كبيرة بمنتجته.
وتحدثت «آسيا» عن أسباب هذه الخسارة، فقالت: بعد الانتهاء من الفيلم طلبت مني «الهيئة المحترمة»... أي هيئة السينما، الاحتفاظ بنسخ الفيلم عندها للقيام بتوزيعه وتسويقه، وبالطبع لم يُسوَّق الفيلم جيداً ولم يوزع وفقاً لخطَّة مدروسة، والنتيجة أنهم لم يعطوني حتى الإيرادات.
«آسيا» هنا، تتهم هيئة السينما بأنها المسؤولة، أولاً وأخيراً، عن هذه الخسارة التي لحقت بالفيلم، بل إن الخسارة مازالت مجسدة في كمية الإكسسوارات الضخمة، من الملابس والأسلحة والتيجان، التي كانت «آسيا» تحتفظ بها في مكتبها وتكتظ بها الحجرات حتى وفاتها... حيث إنها رفضت رفضاً قاطعاً إعارتها أو تأجيرها لاستخدامها في أفلام أخرى، بالرغم من تعدد العروض التي قدمت لها، وذلك على أمل أن تضعها في متحف خاص لتخليد ذكرى فيلم «الناصر صلاح الدين».
ويهمنا أن نختتم حديثنا هذا بتصريح لمخرج الفيلم الفنان الراحل «يوسف شاهين»، عن هذه الفنانة الرائدة «آسيا»، حيث قال: (....كانت ظاهرة فريدة من نوعها، وفنانة ملتزمة وواعية بكل معنى الكلمة، تميزت أعمالها بالجرأة والالتزام... وأذكر أنها كانت تشجع المواهب الوطنية، فقد رفضت عند إنتاج فيلمها المشهور (الناصر صلاح الدين) الاستعانة بالخبرة الأجنبية في الإنتاج، وبالمقابل شجعت المواهب الشابة، فأسندت إلى إخراج الفيلم... ولم تُلق بالاً لأي محاولات لإثنائها عن تشجيع من تراه واعداً من الشباب.
وكان فيلم «الناصر صلاح الدين» دخل مسابقة كان السينمائية وكاد يحصل على جائزة ... ولكن الفيلم يعتبر من أهم الأفلام التاريخية التي قدمت في الوطن العربي ككل ... وبعد أن قدمت آسيا هذا الفيلم رحلت عن عالمنا في 1/2/1986.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي