مثقفون بلا حدود
«كبرت يا أمي» قصة تربوية (1 من 2)
«كبرت يا أمي» قصة تربوية للمعلمة التونسية فتحية شويخة عبيشو. جاءتني القصة وعليها إهداء الأخت القديرة والمربية الفاضلة والأم الحنون الأستاذة فتحية شويخة، وقد طرّزتها بهذه الكلمات: «إلى عناية الدكتور فهد سالم الراشد: سعيدة... خائفة، وأنا أضع بين يديكم الكريمتين هذه الكتابة التي هي عصارة جهد سنين أقضيّها في مرافقة الطفل لتينع ذاته ولتتفتح على مشارب النضج النبيل... كتابة في ذلك الزّمن الحائر الذي يعيشه أبناؤنا متأرجحين بين توقٍ لولوج عالم الكبار حين تبدأ شخصياتهم في التكون و(ضمائرهم) في الانبثاق، وشدٍ قوي إلى عالم الطفولة تحت تأثير( الأوديبية) و(الأنوية) و(الإحيائية)... كتابة أردتها تربية دونما خطابات مباشرة... رمتها تلميعا لصورة العائلة والوطن، وكل القيم السامية كما أنني تمنيتها تقاطعا يلتقي عندها الآباء بالأبناء... أفتراني قد وفقت؟ وأخيرا لكم مني أصدق الأماني بالنجاح، وبالصحة وبالرفاء»...
نعم يا أستاذة فتحية قرأنا القصة مرة ومرتين وثلاث مرات وأربع... وأستطيع أن أقول لك - من وجهة نظري- ومن دون أدنى مجاملة، لقد وفقت، وأتقنت؛ بل وأبدعت أيما إبداع. كيف لا؟ وقد جاءت هذه المحاورة على لسان شخوص قصتك في (ص 105): «لكل بداية نهاية ولكل لقاء فراق... تجمعنا أقدارنا لتفرقنا... قانون صارم من قوانين الحياة لا يمكن لنا تغييره. التقيت بـ (تيتي) فتصادقتما وتآنستما ثم تفارقتما. تلك هي الحياة، بدايات ونهايات».
- البداية جميلة والنهاية قاسية يا أبي إني أخافها... أكرهها...
- لا يا حبيبي فكر جيدا... ألم تصبح كبيرا؟
- بلى يا أبي.
- إذن ما رأيك في نهاية للمرض؟... نهاية للألم؟... نهاية للجوع؟... نهاية للحرب...؟... نهاية للغش والخداع؟... نهاية لتعاسة الأطفال الذين يشغلون ولا يدرسون، أو هم متشردون أو هم مختطفون؟... ما رأيك في كل هذه النهايات السعيدة؟ تصور حياتنا وقد انزاحت عنها كل هذه البشاعات إلى الأبد.
- ستكون جنة؟
القاصة فتحية تربوية، لذا جاءت قصتها نمطية في بنائها القصصي السردي، حافظت على المقومات الأساسية للقصة بدأت بالحدث المتكامل «بداية وذروة ونهاية»، ورسمت شخوصها، واعتنت بعنصريْ الزمان والمكان، وغلب على فنها وأسلوبها الطريقة التربوية التعليمية التقريرية أحيانا فجاءت الحبكة متماسكة وهادفة.
كانت البداية أسرة صغيرة تتكون من أب وأم وابن (وائل) هو من يُسلط عليه الضوء من بداية القصة إلى نهايتها؛ ولا أقول هو بطل القصة؛ إنما البطل سوف يتضح لنا حين نتناول بناء القصة، والطرف الرابع في هذه القصة هو الابن الثاني صغير السن (أحمد) والجدة والعصفور «تيتي».
القصة اجتماعية تربوية تعليمية كما ذكرنا آنفا، استلهمتها القاصة من خبرة سنين في حقل التعليم، وكانت ترصد حركات وسكنات الأطفال والتلاميذ والطلاب وتتابع مراحلهم العمرية، وتجسدها في شخصية (وائل) ابن الأسرة بالسنة السادسة... بآخر درجة من المدرسة الابتدائية وهي مرحلة عمرية يطلق عليها الطفولة المبكرة المنتهية، وبدأ بدخول الطفولة المتقدمة الأكثر وعيا وإدراكا لما يدور حولها وتحقيقا لعلامات رجولة مبكرة تظهر حينا وتغيب أحيانا، نستشف ذلك من خلال اعتماد الكاتبة فتحية في كثير من الأحايين على حديث النفس«المونولوج»، فها هو وائل يحدث نفسه «خرجتُ من المدرسة يخالجني شعور لذيذ بالتحرر جعلني أنسى ماعشته من حرج هذا المساء، لقد أصبحت سيد نفسي، فها أنا أتخلف للمرة الأولى منذ سنتي الأولى بالمدرسة عن الوقوف في طابور ينضم إليه عدد كبير من التلاميذ وتقوده الآنسة لمياء نحو بناية متواضعة قريبة من المدرسة، قد كتب عليها بخط أحمر (حضانة مدرسية): رعاية، مراجعة، سنة تحضيرية، أخرجت المفتاح من جيبي - أراد مفتاح المنزل - وقد كان جديدا لمّاعا، تأملته مزهوًّا...» ص 5.
وهمزت فتحية بطريقة ذكية إلى ظاهرة اجتماعية استشرت في البلد؛ بل في العالم كله، ألا وهي ظاهرة الغلاء، فحينما أراد وائل أن يشتري عصفورا جميلا أعجبه وهو في طريق عودته من المدرسة إلى البيت، سأل عن سعره فقال له البائع بتسعين دينارا؛ فبهت وائل من هذا الثمن الباهظ، وحينها نقل رغبته في اقتناء هذا الطائر إلى والديه، فرفضا شراءه «متعللين بغلو ثمنه... تبا للأثمان المرتفعة، إنها لتوقف الأماني وتقضي على الصور الجميلة التي ترتسم في الخيال!» ص 11.
إن قضية شراء العصفور إنما هي قضية القدرة على اتخاذ قرار خاص وشخصي يراه وائل من حقه كشخصية أصبحت على قدر كبير من الاستقلالية في تصرفاتها. وهذه أول عقدة تضعها الكاتبة في القصة وقد سميتها بالعقدة المعلقة، ولعل هناك عقدة خفية كانت تحوم حولها القاصة فتحية سميتها بالعقدة الذهنية، لمَّحَتْ الكاتبة عنها في بداية القصة ولم تتضح إلا في نهايتها؛ ففي بداية القصة تكلمتْ عن الحرية وجاء ذلك في حديث نفسي لوائل حينما قال «يا للروعة سأعود إلى منزلنا حرًّا» ص 7، وسوف تربط التربوية فتحية، هذه الحرية في آخر القصة ربطا متناغما سيمرُّ بنا بعد قليل في نهاية هذه القراءة.
واللافت للنظر في هذه القصة هو «البطل» أيضا، لقد توارت شخصية القاصة فتحية خلف شخصية «بطل قصتها»، ويتجه ظني أن البطل الحقيقي في هذه القصة هو (الفكر التنويري) لدى الكاتبة فتحية، لربما وجدت صعوبة أو قل عوائق كثيرة على أرض الواقع من محاربة الفساد الإداري أو تحقيق العدل الاجتماعي أو ترسيخ أخلاقيات رفيعة للمهنة، لذلك رسمت صورة بطل قصتها ما بين الطفولة المتأخرة والرجولة المبكرة، وهي فترة يصعب السيطرة عليها أو حتى محاسبتها، ولعل عبقري الرواية العربية ورائدها الروائي المصري نجيب محفوظ، برع في استخدام هذه الطريقة وألبس شخوص روايته فكره الذي يحمله تجنبا للمحاسبة والمساءلة، وهذا ما نلحظه في قصة الأستاذة فتحية، وقد مرَّ بنا كيف أبدت رأيها الاجتماعي عن غلاء المعيشة في كل شيء وها هي تعيد الكرة مرة أخرى لتعبر بفكرها عن طريق بطل القصة الشكلي (وائل)، ولتضع لنا قيمة اجتماعية تربوية وهي الاعتماد على النفس والإصرار من خلال الادخار، اسمع معي ماذا يقول وائل: «وفكرت في أن أرفه عن نفسي وأن أحقق مبتغاي بإمكاناتي فلقد أصبحت رجلا. لقد قررت أن أشتري ذلك العصفور. كيف؟ لقد اهتديت إلى الحل: الادخار، فلقد قال لنا المعلم: إن الادخار يا أبنائي أسلم الطرق لتأمين المستقبل وتحقيق الأماني...» ص 11 و12.
وتعود فتحية مرة أخرى بالنقد الاجتماعي على لسان بطل قصتها وائل: «فلا شكلاطه تغريني، ولا بيتزا تسيل لعابي ولا همبورقر تشدني إليها. إن كل هذه أغذية تجارية تضر أكثر مما تنفع وإن كانت لذيذة. فهي إفلاس وسمنة وتهديد للصحة بأخطر الأمراض كما يقول الكبار» ص 12
* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]
نعم يا أستاذة فتحية قرأنا القصة مرة ومرتين وثلاث مرات وأربع... وأستطيع أن أقول لك - من وجهة نظري- ومن دون أدنى مجاملة، لقد وفقت، وأتقنت؛ بل وأبدعت أيما إبداع. كيف لا؟ وقد جاءت هذه المحاورة على لسان شخوص قصتك في (ص 105): «لكل بداية نهاية ولكل لقاء فراق... تجمعنا أقدارنا لتفرقنا... قانون صارم من قوانين الحياة لا يمكن لنا تغييره. التقيت بـ (تيتي) فتصادقتما وتآنستما ثم تفارقتما. تلك هي الحياة، بدايات ونهايات».
- البداية جميلة والنهاية قاسية يا أبي إني أخافها... أكرهها...
- لا يا حبيبي فكر جيدا... ألم تصبح كبيرا؟
- بلى يا أبي.
- إذن ما رأيك في نهاية للمرض؟... نهاية للألم؟... نهاية للجوع؟... نهاية للحرب...؟... نهاية للغش والخداع؟... نهاية لتعاسة الأطفال الذين يشغلون ولا يدرسون، أو هم متشردون أو هم مختطفون؟... ما رأيك في كل هذه النهايات السعيدة؟ تصور حياتنا وقد انزاحت عنها كل هذه البشاعات إلى الأبد.
- ستكون جنة؟
القاصة فتحية تربوية، لذا جاءت قصتها نمطية في بنائها القصصي السردي، حافظت على المقومات الأساسية للقصة بدأت بالحدث المتكامل «بداية وذروة ونهاية»، ورسمت شخوصها، واعتنت بعنصريْ الزمان والمكان، وغلب على فنها وأسلوبها الطريقة التربوية التعليمية التقريرية أحيانا فجاءت الحبكة متماسكة وهادفة.
كانت البداية أسرة صغيرة تتكون من أب وأم وابن (وائل) هو من يُسلط عليه الضوء من بداية القصة إلى نهايتها؛ ولا أقول هو بطل القصة؛ إنما البطل سوف يتضح لنا حين نتناول بناء القصة، والطرف الرابع في هذه القصة هو الابن الثاني صغير السن (أحمد) والجدة والعصفور «تيتي».
القصة اجتماعية تربوية تعليمية كما ذكرنا آنفا، استلهمتها القاصة من خبرة سنين في حقل التعليم، وكانت ترصد حركات وسكنات الأطفال والتلاميذ والطلاب وتتابع مراحلهم العمرية، وتجسدها في شخصية (وائل) ابن الأسرة بالسنة السادسة... بآخر درجة من المدرسة الابتدائية وهي مرحلة عمرية يطلق عليها الطفولة المبكرة المنتهية، وبدأ بدخول الطفولة المتقدمة الأكثر وعيا وإدراكا لما يدور حولها وتحقيقا لعلامات رجولة مبكرة تظهر حينا وتغيب أحيانا، نستشف ذلك من خلال اعتماد الكاتبة فتحية في كثير من الأحايين على حديث النفس«المونولوج»، فها هو وائل يحدث نفسه «خرجتُ من المدرسة يخالجني شعور لذيذ بالتحرر جعلني أنسى ماعشته من حرج هذا المساء، لقد أصبحت سيد نفسي، فها أنا أتخلف للمرة الأولى منذ سنتي الأولى بالمدرسة عن الوقوف في طابور ينضم إليه عدد كبير من التلاميذ وتقوده الآنسة لمياء نحو بناية متواضعة قريبة من المدرسة، قد كتب عليها بخط أحمر (حضانة مدرسية): رعاية، مراجعة، سنة تحضيرية، أخرجت المفتاح من جيبي - أراد مفتاح المنزل - وقد كان جديدا لمّاعا، تأملته مزهوًّا...» ص 5.
وهمزت فتحية بطريقة ذكية إلى ظاهرة اجتماعية استشرت في البلد؛ بل في العالم كله، ألا وهي ظاهرة الغلاء، فحينما أراد وائل أن يشتري عصفورا جميلا أعجبه وهو في طريق عودته من المدرسة إلى البيت، سأل عن سعره فقال له البائع بتسعين دينارا؛ فبهت وائل من هذا الثمن الباهظ، وحينها نقل رغبته في اقتناء هذا الطائر إلى والديه، فرفضا شراءه «متعللين بغلو ثمنه... تبا للأثمان المرتفعة، إنها لتوقف الأماني وتقضي على الصور الجميلة التي ترتسم في الخيال!» ص 11.
إن قضية شراء العصفور إنما هي قضية القدرة على اتخاذ قرار خاص وشخصي يراه وائل من حقه كشخصية أصبحت على قدر كبير من الاستقلالية في تصرفاتها. وهذه أول عقدة تضعها الكاتبة في القصة وقد سميتها بالعقدة المعلقة، ولعل هناك عقدة خفية كانت تحوم حولها القاصة فتحية سميتها بالعقدة الذهنية، لمَّحَتْ الكاتبة عنها في بداية القصة ولم تتضح إلا في نهايتها؛ ففي بداية القصة تكلمتْ عن الحرية وجاء ذلك في حديث نفسي لوائل حينما قال «يا للروعة سأعود إلى منزلنا حرًّا» ص 7، وسوف تربط التربوية فتحية، هذه الحرية في آخر القصة ربطا متناغما سيمرُّ بنا بعد قليل في نهاية هذه القراءة.
واللافت للنظر في هذه القصة هو «البطل» أيضا، لقد توارت شخصية القاصة فتحية خلف شخصية «بطل قصتها»، ويتجه ظني أن البطل الحقيقي في هذه القصة هو (الفكر التنويري) لدى الكاتبة فتحية، لربما وجدت صعوبة أو قل عوائق كثيرة على أرض الواقع من محاربة الفساد الإداري أو تحقيق العدل الاجتماعي أو ترسيخ أخلاقيات رفيعة للمهنة، لذلك رسمت صورة بطل قصتها ما بين الطفولة المتأخرة والرجولة المبكرة، وهي فترة يصعب السيطرة عليها أو حتى محاسبتها، ولعل عبقري الرواية العربية ورائدها الروائي المصري نجيب محفوظ، برع في استخدام هذه الطريقة وألبس شخوص روايته فكره الذي يحمله تجنبا للمحاسبة والمساءلة، وهذا ما نلحظه في قصة الأستاذة فتحية، وقد مرَّ بنا كيف أبدت رأيها الاجتماعي عن غلاء المعيشة في كل شيء وها هي تعيد الكرة مرة أخرى لتعبر بفكرها عن طريق بطل القصة الشكلي (وائل)، ولتضع لنا قيمة اجتماعية تربوية وهي الاعتماد على النفس والإصرار من خلال الادخار، اسمع معي ماذا يقول وائل: «وفكرت في أن أرفه عن نفسي وأن أحقق مبتغاي بإمكاناتي فلقد أصبحت رجلا. لقد قررت أن أشتري ذلك العصفور. كيف؟ لقد اهتديت إلى الحل: الادخار، فلقد قال لنا المعلم: إن الادخار يا أبنائي أسلم الطرق لتأمين المستقبل وتحقيق الأماني...» ص 11 و12.
وتعود فتحية مرة أخرى بالنقد الاجتماعي على لسان بطل قصتها وائل: «فلا شكلاطه تغريني، ولا بيتزا تسيل لعابي ولا همبورقر تشدني إليها. إن كل هذه أغذية تجارية تضر أكثر مما تنفع وإن كانت لذيذة. فهي إفلاس وسمنة وتهديد للصحة بأخطر الأمراض كما يقول الكبار» ص 12
* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]