حديث
غربة الوطن
أعياد الكويت
| هناء العنزي |
كلماتي هذه سُطرت في ليل نام فيه أهل وطني... نوما هانئاً، لا يحملون هموم غد ولا كيف سيكون... في ظل حكومة أدامها الله... حريصة على أهل هذا البلد الكريم، فوطني وطن خير وبركة وفضل، علي وعلى غيري، ماحَرك ينابيع الحسرة، والسُهاد، الألم واليأس من الوطن، والذي بات يكبر معي يوماً بيوم... وكل ليلة، ما أبقاني دون نوم في هذه الليلة... هو نظرات انطبعت في ذهني... رأيتها في عيني والدي، نظرات هم لا ينتهي، نظرات ألم... وعتاب للوطن، نظرات شاخت، تسللت اليها الشيخوخة في عز الشباب، كلها في عيني والدي... والذي اصبح في هذه الفترة وكأنه يعيش على فوهة بركان... أُجلسنا عليها كلنا... نحن «البدون»... غير محددي الجنسية، تتقاذفنا جمرات متطايرة، وتلسعنا، نيران مشتعلة من تحتنا، لا يحسها الا من وطئها، ولا يشعر بها الا من تكوى بنارها.
منذ فترةٍ ليست ببعيدة، كنت ادرس في احد معاهد الكمبيوتر... علي أحصُل على شهادة... تعينني على الحياة او تسندني حيث لا مستقبل لمن هو مثلنا... او ربما محاولة لسد نهمي للعلم... وشغفي باكمال دراستي والتي سدها في وجهي... واحكم اغلاقها قرارُ قِدم شهادة الثانوية... ولست هنا لأبسط حالي او اشرح وضعي فأبي اطال الله في عمره... حاول باستماته سد النقص الذي احدثه وضع اُجبرنا على معايشته... وما دفعني للكتابة هو مارأيته من والدي... واختلافه في الاونة الاخيرة، وتبدل احواله بسبب الضغوط التي نعانيها جميعا لكوننا «بدون»، فقد كنت ارقد في تلك الليلة على نار صغيرة تلظى بي، ومازاد شعلتها، تذكري لذلك الموقف الذي جعلني اقفز من مكاني... وأٌمسك بورقة، وقلم، حتى أُخرج ما بي من شعور، فنحن في بلدنا... ولكننا أُجبرنا على دخول مربع الغربة فيه بينما نعيش في أحب البقاع الى قلوبنا... ذلك الموقف، في معهد الكمبيوتر... كنا نجلس ونتحدث مع احدى مدرسات الكمبيوتر هناك... ونحن فرحات نتكلم عن كيفية احتفالنا بالعيد الوطني... وكنت اوصف لهن كيف كنا نرقص ونلعب ونتطاير فرحا انا واخوتي... وكيف كانت أعيننا تفيض سعادة، واستبشارا بتلك الايام، وكنت اقسم لهن، واحلف بالله... انه في كل عام وبالتحديد في هذه الايام يغمرني شعور غريب هو مزيج من الحب الغامر، والفرحة التي لا توصف... أشعر بأني كأم فرٍحة، بعرس لأحد ابنائها، وكيف أنني في كل مرة، ابكي في هذه الايام او تغرق عيناي بالدموع... لا أعلم شعوري كيف هو، يبدو انها دموع فرح، وهيبة وطن تقبع في نفسي، وانتماء لبلد حبه كعرشٍ ملكي في اوصالي، وأحاسيس اخرى كثيرة كنت اتشاطرها معهن، حتى تكلمت احدى المستمعات... قائلة لي... وتبدو مازحة متقصدة... «انتي شتبين رازه ويهج معانا، هذا وانتو بدون مسوين بعمرك جذي...عيل لوكنتو كويتيين شبتسوون»!
كنت أسمع دائما بجراح الكلام... وطعون الالفاظ، لم أع معنى ذلك حتى سمعت كلماتها، كانت كطعنة سكين... في روحي، روحي المطعونة سلفا من تنكر وطني لي، وتشويهه لانتمائي، وولائي والتشكيك في اني من هذا المكان... من ترابه، وهوائه، كنهه، وتكوينه، انا هو... انا ذلك كله.
كانت كلماتها كمن يرش ملحا على جرح مفتوح... مفتوح للتجريح فيه، مفتوح للألم في كل مرة اخرج الى جامعتي وانا أشعر بالغربة هناك... في كل مرة نُسأل عن هويتنا... في كل مرة يخرج بها أبي الى عمله فتحكمه... بل وتتحكم به ورقة لا يملكها، فتسلبه أي علاوة او أي حافز، في كل مرة يخرج فيها احد اخوتي ليبحث عن عمل، اوحتى ليعمل في عمل ويكدح هناك، دون أي ضمانة، او تقدير او حفظٍ لحقوقه... والسبب ورقة لا يملكها...لا يهم...!
ماكان جوابي لها...؟!
شعرت كأنني تلقيت صفعة... اعتدت انا وكل من هو في مثل وضعي على تلقيها... لكن في كل مرة الالم يزداد... والاثر يكبر... أجبتها...! لست بحاجة الى ورقة كي أفرح لوطني، ولست بحاجة إلى ورقة حتى أشاركه عيده، ولست أراكي فرحة او حتى مجاملة لوطنك مع أنك تحملين تلك الورقة أخرجيها من حقيبتك، وضعيها نصب عينيكِ علًها توقظ فيك أو تشعرك بقيمة هذا الوطن، علًها تحرك فيك ماتحرك بي، هو وطني شئتي أم أبيت... بورقة أو «من دونها»... لن أنتظر تلك الورقة حتى أرد لهذه الارض ماأخذته منها.
كُنا نلح على والدي في السابق كى يخرج من هنا فأرض الله واسعة، علً الحال تتبدل، او نحصل على فرصة أفضل... ندرس ونعمل... كان الرفض الذي يبدو عليه... كجدار من زبر الحديد لا يتزحزح ولا يثقب، كان يقول هذا مكاني، هنا عشت وهنا تربيت وهنا سأبقى وهنا سأدفن... هل تعجبك حالنا لا حق ولا اعتراف... فيرد: والله لو أنني أعلم أننا سنصبر على فراق هذه الارض لخرجت، لكننا كالسمك، ان خرج من الماء مات، تظنون أنكم موتى هنا والسبب ورقة الموت هو الخروج من مكانكم من دياركم الغربة بين اهلي ووطني، أفضل من الغربة في مكان ليس لي فيه شيء، سكت، وسكتنا... حتى بُني فينا نحن أيضا ذلك الجدار الحديدي.
كل مانعانيه هنا لن يعتصر ولن يدفن، ولن يبدل ولاءنا، وحبنا، وانتماءنا والتزامنا لهذا البلد، لكن والدي الآن يفكر في الخروج من الماء، اقصد من الوطن، جن جنوننا، خفنا... ارتعبنا، يفكر في الخروج من عمله في إحدى الوزارات الحكومية... ما الذي بدل تلك المبادئ... ما الذي دهى ذلك الجدار... آخر مانثبت به وجودنا...هوعمله. عندما أفكر في كلامه وقناعاته في احتضان هذا الوطن دون أن يفلته، وان حاول الوطن أن يُفلتنا، استغرب... وتعتريني الدهشة، هل دخل في دوامة اليأس من الوطن... أم هو الوطن من أدخله في اليأس منه، هل هرمت وشابت... وسقطت اوراق قناعته بأن هذا مكانه ولن يبدله بالعالم كله، هل شعر بثقل السنين التي انتظرها على أمل يعترف به الوطن، وهل ضاق به ذلك العبأ الذي اثقل اولاده، ومشاعر الحزن والالم التي تلبست ملامح بناته، والفرحة المقتولة في نظرات أحفاده، هل للصبر حد... هل للأمل وجود بحق... أم هو وهم وسراب، مانشعر به الآن هو بالضبط كشعور من ينتظر حكم الاعدام؟!، لن أسترسل وليس هنا موضع بسط لتلك المأساة، والتي لاتخفى على أحد، فمداد الارض كلها لن يكفي لوصف حال هذه الفئة... وتلك كانت لمحة بسيطة تلبست وجه احد منهم، والقصص كثيرة بعدد ما أصبح اعداد تلك البشر الغير محددي الهوية، ومن سيحدد هوياتنا، ومن سيقف أما الديان ليتحاسب على كل فرد منا، حملت هذه الارض كل لحظة من حيواتنا... واحتضنت افراحنا وأحزاننا فما المقياس...!
نحن كالأم تماما يقسو عليها ولدها فلا تملك الا أن تحبه وأن تغفر له، وأن تشعر فيه... وتفنى من أجله، هي أمنا... ونحن امها
كويتية «بدون»
***
بعد سماع كلماتها، ورؤية جروحها... قررت أن أكتب مارأيت لأرد لها حق ولو بكلمة علنية... أو برد طيب، يُذكرها بأن الدنيا مازالت بخير، وكما قالت هو إحساس أردنا أن تشاركونا به... أتمنى أن أكون قد وفقت في إيصال حقيقة شعورها... وفضفضتها بشكل صحيح ومعبر!
* الجامعة الأميركية
كلماتي هذه سُطرت في ليل نام فيه أهل وطني... نوما هانئاً، لا يحملون هموم غد ولا كيف سيكون... في ظل حكومة أدامها الله... حريصة على أهل هذا البلد الكريم، فوطني وطن خير وبركة وفضل، علي وعلى غيري، ماحَرك ينابيع الحسرة، والسُهاد، الألم واليأس من الوطن، والذي بات يكبر معي يوماً بيوم... وكل ليلة، ما أبقاني دون نوم في هذه الليلة... هو نظرات انطبعت في ذهني... رأيتها في عيني والدي، نظرات هم لا ينتهي، نظرات ألم... وعتاب للوطن، نظرات شاخت، تسللت اليها الشيخوخة في عز الشباب، كلها في عيني والدي... والذي اصبح في هذه الفترة وكأنه يعيش على فوهة بركان... أُجلسنا عليها كلنا... نحن «البدون»... غير محددي الجنسية، تتقاذفنا جمرات متطايرة، وتلسعنا، نيران مشتعلة من تحتنا، لا يحسها الا من وطئها، ولا يشعر بها الا من تكوى بنارها.
منذ فترةٍ ليست ببعيدة، كنت ادرس في احد معاهد الكمبيوتر... علي أحصُل على شهادة... تعينني على الحياة او تسندني حيث لا مستقبل لمن هو مثلنا... او ربما محاولة لسد نهمي للعلم... وشغفي باكمال دراستي والتي سدها في وجهي... واحكم اغلاقها قرارُ قِدم شهادة الثانوية... ولست هنا لأبسط حالي او اشرح وضعي فأبي اطال الله في عمره... حاول باستماته سد النقص الذي احدثه وضع اُجبرنا على معايشته... وما دفعني للكتابة هو مارأيته من والدي... واختلافه في الاونة الاخيرة، وتبدل احواله بسبب الضغوط التي نعانيها جميعا لكوننا «بدون»، فقد كنت ارقد في تلك الليلة على نار صغيرة تلظى بي، ومازاد شعلتها، تذكري لذلك الموقف الذي جعلني اقفز من مكاني... وأٌمسك بورقة، وقلم، حتى أُخرج ما بي من شعور، فنحن في بلدنا... ولكننا أُجبرنا على دخول مربع الغربة فيه بينما نعيش في أحب البقاع الى قلوبنا... ذلك الموقف، في معهد الكمبيوتر... كنا نجلس ونتحدث مع احدى مدرسات الكمبيوتر هناك... ونحن فرحات نتكلم عن كيفية احتفالنا بالعيد الوطني... وكنت اوصف لهن كيف كنا نرقص ونلعب ونتطاير فرحا انا واخوتي... وكيف كانت أعيننا تفيض سعادة، واستبشارا بتلك الايام، وكنت اقسم لهن، واحلف بالله... انه في كل عام وبالتحديد في هذه الايام يغمرني شعور غريب هو مزيج من الحب الغامر، والفرحة التي لا توصف... أشعر بأني كأم فرٍحة، بعرس لأحد ابنائها، وكيف أنني في كل مرة، ابكي في هذه الايام او تغرق عيناي بالدموع... لا أعلم شعوري كيف هو، يبدو انها دموع فرح، وهيبة وطن تقبع في نفسي، وانتماء لبلد حبه كعرشٍ ملكي في اوصالي، وأحاسيس اخرى كثيرة كنت اتشاطرها معهن، حتى تكلمت احدى المستمعات... قائلة لي... وتبدو مازحة متقصدة... «انتي شتبين رازه ويهج معانا، هذا وانتو بدون مسوين بعمرك جذي...عيل لوكنتو كويتيين شبتسوون»!
كنت أسمع دائما بجراح الكلام... وطعون الالفاظ، لم أع معنى ذلك حتى سمعت كلماتها، كانت كطعنة سكين... في روحي، روحي المطعونة سلفا من تنكر وطني لي، وتشويهه لانتمائي، وولائي والتشكيك في اني من هذا المكان... من ترابه، وهوائه، كنهه، وتكوينه، انا هو... انا ذلك كله.
كانت كلماتها كمن يرش ملحا على جرح مفتوح... مفتوح للتجريح فيه، مفتوح للألم في كل مرة اخرج الى جامعتي وانا أشعر بالغربة هناك... في كل مرة نُسأل عن هويتنا... في كل مرة يخرج بها أبي الى عمله فتحكمه... بل وتتحكم به ورقة لا يملكها، فتسلبه أي علاوة او أي حافز، في كل مرة يخرج فيها احد اخوتي ليبحث عن عمل، اوحتى ليعمل في عمل ويكدح هناك، دون أي ضمانة، او تقدير او حفظٍ لحقوقه... والسبب ورقة لا يملكها...لا يهم...!
ماكان جوابي لها...؟!
شعرت كأنني تلقيت صفعة... اعتدت انا وكل من هو في مثل وضعي على تلقيها... لكن في كل مرة الالم يزداد... والاثر يكبر... أجبتها...! لست بحاجة الى ورقة كي أفرح لوطني، ولست بحاجة إلى ورقة حتى أشاركه عيده، ولست أراكي فرحة او حتى مجاملة لوطنك مع أنك تحملين تلك الورقة أخرجيها من حقيبتك، وضعيها نصب عينيكِ علًها توقظ فيك أو تشعرك بقيمة هذا الوطن، علًها تحرك فيك ماتحرك بي، هو وطني شئتي أم أبيت... بورقة أو «من دونها»... لن أنتظر تلك الورقة حتى أرد لهذه الارض ماأخذته منها.
كُنا نلح على والدي في السابق كى يخرج من هنا فأرض الله واسعة، علً الحال تتبدل، او نحصل على فرصة أفضل... ندرس ونعمل... كان الرفض الذي يبدو عليه... كجدار من زبر الحديد لا يتزحزح ولا يثقب، كان يقول هذا مكاني، هنا عشت وهنا تربيت وهنا سأبقى وهنا سأدفن... هل تعجبك حالنا لا حق ولا اعتراف... فيرد: والله لو أنني أعلم أننا سنصبر على فراق هذه الارض لخرجت، لكننا كالسمك، ان خرج من الماء مات، تظنون أنكم موتى هنا والسبب ورقة الموت هو الخروج من مكانكم من دياركم الغربة بين اهلي ووطني، أفضل من الغربة في مكان ليس لي فيه شيء، سكت، وسكتنا... حتى بُني فينا نحن أيضا ذلك الجدار الحديدي.
كل مانعانيه هنا لن يعتصر ولن يدفن، ولن يبدل ولاءنا، وحبنا، وانتماءنا والتزامنا لهذا البلد، لكن والدي الآن يفكر في الخروج من الماء، اقصد من الوطن، جن جنوننا، خفنا... ارتعبنا، يفكر في الخروج من عمله في إحدى الوزارات الحكومية... ما الذي بدل تلك المبادئ... ما الذي دهى ذلك الجدار... آخر مانثبت به وجودنا...هوعمله. عندما أفكر في كلامه وقناعاته في احتضان هذا الوطن دون أن يفلته، وان حاول الوطن أن يُفلتنا، استغرب... وتعتريني الدهشة، هل دخل في دوامة اليأس من الوطن... أم هو الوطن من أدخله في اليأس منه، هل هرمت وشابت... وسقطت اوراق قناعته بأن هذا مكانه ولن يبدله بالعالم كله، هل شعر بثقل السنين التي انتظرها على أمل يعترف به الوطن، وهل ضاق به ذلك العبأ الذي اثقل اولاده، ومشاعر الحزن والالم التي تلبست ملامح بناته، والفرحة المقتولة في نظرات أحفاده، هل للصبر حد... هل للأمل وجود بحق... أم هو وهم وسراب، مانشعر به الآن هو بالضبط كشعور من ينتظر حكم الاعدام؟!، لن أسترسل وليس هنا موضع بسط لتلك المأساة، والتي لاتخفى على أحد، فمداد الارض كلها لن يكفي لوصف حال هذه الفئة... وتلك كانت لمحة بسيطة تلبست وجه احد منهم، والقصص كثيرة بعدد ما أصبح اعداد تلك البشر الغير محددي الهوية، ومن سيحدد هوياتنا، ومن سيقف أما الديان ليتحاسب على كل فرد منا، حملت هذه الارض كل لحظة من حيواتنا... واحتضنت افراحنا وأحزاننا فما المقياس...!
نحن كالأم تماما يقسو عليها ولدها فلا تملك الا أن تحبه وأن تغفر له، وأن تشعر فيه... وتفنى من أجله، هي أمنا... ونحن امها
كويتية «بدون»
***
بعد سماع كلماتها، ورؤية جروحها... قررت أن أكتب مارأيت لأرد لها حق ولو بكلمة علنية... أو برد طيب، يُذكرها بأن الدنيا مازالت بخير، وكما قالت هو إحساس أردنا أن تشاركونا به... أتمنى أن أكون قد وفقت في إيصال حقيقة شعورها... وفضفضتها بشكل صحيح ومعبر!
* الجامعة الأميركية