انحدار بريطاني بدأ قبل 60 عاماً

تصغير
تكبير
مرّت أيّام على الاستفتاء الذي شهدته المملكة المتحدة والذي كانت نتيجته تأييد الخروج من الاتحاد الاوروبي بأكثرية ضئيلة. منذ اعلان نتيجة الاستفتاء الذي اجري في 23 يونيو الماضي، ولا تزال بريطانيا تحت الصدمة.

لم تجد مجلة «ايكونوميست»، وهي مجلّة اكثر من جدّية سوى عبارة «فوضى في المملكة المتحدة» تتوّج بها غلافها الذي ظهر فيه العلم البريطاني بشكل لباس داخلي (للطبقة السفلى من الجسم) يرفرف في الهواء الطلق.


تبيّن فجأة انّ لا سياسيين كباراً في البلد وانّ هناك غياباً للزعامات الحزبية التي كانت تستطيع ان تشرح للمواطن العادي ما على المحك فعلاً في هذا الاستفتاء. ماذا يعني الخروج من الاتحاد الاوروبي بالأرقام وما تأثير ذلك على الاقتصاد؟ ما البديل من أوروبا؟ اين تكمن مصلحة المملكة المتحدة؟ هل هناك ما يعوّض الخروج من السوق الواحدة التي تضمّ 28 بلداً والتي كانت المملكة المتحدة جزءاً منها؟

أقدمت المملكة المتحدة على خطوة في المجهول. سارت أكثرية المواطنين (اقل من نسبة اثنين وخمسين في المئة من المشاركين في الاستفتاء) خلف شعارات لا علاقة لها بالواقع من نوع ان الخروج من الاتحاد الاوروبي «سيسمح باستعادة السيادة الوطنية»، نظرا الى ان هناك قوانين أوروبية لم تكن تتوافق مع مصلحة بريطانيا وقد فرضت فرضا على المملكة. كذلك، رُفع شعار ان الخروج من الاتحاد الاوروبي سيسمح بكبح الهجرة الى بريطانيا، خصوصا من دول أوروبية فقيرة تتمتع بعضوية الاتحاد الاوروبي.

لم يوجد من يشرح للمواطنين حقيقة الوضع ومعنى الأرقام بعيداً عن المبالغات. كان رئيس الوزراء ديفيد كاميرون شبه غائب عن الحملة التي سبقت الاستفتاء. ظهر بكلّ وضوح ان المواطن البريطاني ذهب ضحيّة عملية غش لا سابق لها، خصوصاً بعدما استخدم نايجل فراج زعيم «حزب الاستقلال للمملكة المتحدة»، الذي يمثل اليمين المتطرف، خطاباً عنصرياً للتحريض على الخروج من الاتحاد الاوروبي.

ليس ما يشير الى ان استفتاء جديداً يمكن ان ينظّم في المملكة المتحدة، على الرغم من توقيع أربعة ملايين بريطاني عريضة تطالب بمثل هذا الاستفتاء. على المملكة المتحدة التعاطي مع نتيجة الاستفتاء من دون تردد. طالبتها أوروبا بالإسراع في إجراءات الطلاق وذلك استنادا الى المادة خمسين من معاهدة ليشبونة التي تحدد كيفية الخروج من الاتحاد. نقطة الخلاف الأساسية بين أوروبا وبريطانيا في الوقت الحاضر في غاية البساطة. تريد لندن التفاوض في شأن صيغة جديدة للتعاون مع أوروبا وضمان البقاء السوق الاوروبية الواحدة، في حين ان الاوروبيين يصرون على رفض المباشرة في مثل هذه المفاوضات قبل حصول الطلاق بين الجانبين.

لم تكن هناك حسابات بريطانية لمرحلة ما بعد الاستفتاء، بما في ذلك وضع البريطانيين المقيمين في الدول الاوروبية، خصوصاً في اسبانيا وفرنسا. خدعت المواطن البريطاني سياسات صغيرة عكستها الخلافات داخل حزب المحافظين وعدم قدرة زعيم حزب العمّال جريمي كوربن على التحكم بالحزب. أعطت النتيجة فكرة عن الدرك الذي بلغته السياسات الداخلية في بريطانيا من جهة وسطحية السياسيين من جهة أخرى. لعلّ افضل دليل على ذلك تصرّفات عمدة لندن السابق بوريس جونسون الذي لم يعد لديه ما يقوله في اليوم الذي تلا اعلان نتيجة الاستفتاء، علما انّه كان من اشد المتحمسين لخروج المملكة المتحدة من أوروبا.

في الواقع، ليست نتيجة الاستفتاء التي أدت الى تراجع الإسترليني وهبوط أسعار الأسهم وفقدان المستثمر الأجنبي الثقة ببريطانيا سوى تتويج لسلسلة من التراجعات استطاعت مارغريت تاتشر وضع حد لها في مرحلة معيّنة امتدت بين العامين 1979 و1990. أسست تاتشر للازدهار الاقتصادي البريطاني. كانت شخصية سياسية استثنائية عرفت كيف تعيد المملكة المتحدة الى خريطة العالم بعد سلسلة من النكسات بدأت عمليا في العام 1956، عندما خاضت بريطانيا بمشاركة فرنسا وإسرائيل حرب السويس.

حتّى حرب السويس، كانت بريطانيا ما زالت تعتقد ان شيئا لم يتغيّر في العالم وانّها ما تزال قطبا من اقطابه. احتل البريطانيون والفرنسيون قناة السويس واحتلت إسرائيل سيناء من دون استشارة الولايات المتحدة التي كان رئيسها وقتذاك دوايت ايزنهاور.

لم يرق لايزنهاور ان تحصل مثل هذه الحملة العسكرية من خلف ظهر بلاده التي لم يكن لاوروبا ان تتحرر من النازيين لولا دخولها الحرب العالمية الثانية. كان كافياً اتصال هاتفي من وزير الخارجية الاميركي جون فوستر دالاس برئيس الوزراء البريطاني انتوني ايدن كي تنسحب بريطانيا عسكريا من قناة السويس ومعها فرنسا وكي تخلي إسرائيل سيناء.

في ذلك الاتصال الهاتفي المشهور، وضع دالاس بريطانيا، التي لم تكن انسحبت بعد من منطقة الخليج، في حجمها الحقيقي. افهم وزير الخارجية الاميركي رئيس الوزراء البريطاني ان من يحكم المعسكر الغربي هو الولايات المتحدة وانه ليس وارداً اقدام بريطانيا على ايّ مغامرة عسكرية من دون العودة الى واشنطن. الأكيد انّه لم تكن من حاجة الى اتصال من وزير الخارجية الاميركي بالمسؤولين الفرنسيين او الإسرائيليين لافهامهم ما هو المطلوب منهم. كان على الجميع تنفيذ التعليمات الصادرة عن واشنطن من دون أي سؤال من ايّ نوع. كان ذلك في ايّام العز الأميركية، ايّام ايزنهاور، وليس في أيام الإدارة التي على رأسها باراك أوباما.

فهمت بريطانيا ان كلّ ما عليها ان تفعله بعد خسارتها حرب السويس هو ان تتحوّل الى حليف لاميركا. هذا ما استوعبته إسرائيل أيضا. امّا فرنسا، فانّها اتجهت الى بناء أوروبا. ليس صدفة ان اللبنة الاولى للسوق الاوروبية المشتركة وضعت مباشرة بعد انتهاء حرب السويس وذلك عندما وقعت كلّ من فرنسا وألمانيا وإيطاليا ودول «البينيلوكس» الثلاث، أي بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ، معاهدة روما التي أسست في مارس 1957 لقيام السوق الاوروبية التي مهّدت بدورها لقيام الاتحاد الاوروبي لاحقا.

عرفت تاتشر كيف تعمل من اجل استعادة مكانة بريطانيا مستندة الى الحلف القائم مع الولايات المتحدة من جهة والعلاقة الجديدة باوروبا التي بدأت تنمو في 1975 من جهة اخرى. جعلت من بريطانيا جسرا بين اميركا وأوروبا. لم يمنعها ذلك من المحافظة على خصوصية للمملكة المتحدة التي لم تنضم الى «معاهدة شنغن»، كما حافظت على عملتها بدل اعتماد «اليورو».

كشفت نتيجة الاستفتاء، بريطانيا. كشفت الأحزاب البريطانية. كشفت خصوصاً انّ الانحدار لم يتوقف منذ 1956. كلّ ما هناك ان تاتشر عرفت كيف توقفه موقتا وان تخلق دوراً للبلد مبنياً على اقتصاد من نوع جديد يقوم على الفكر الليبيرالي وعلى تطوير قطاع الخدمات. سمح ذلك للندن بان تصبح احد اكبر المراكز المالية في العالم والمملكة المتحدة مركز استقطاب لكلّ أنواع الصناعات في ظل اقتصاد مرتبط بالعولمة.

هل الجهل الذي حمل أكثرية على التصويت مع الخروج من أوروبا؟ الجواب نعم، لا لشيء سوى لان الذين صوتوا مع الخروج لم يجدوا من يشرح لهم النتائج الخطيرة لمثل هذا التطوّر. الأخطر من ذلك، ان المملكة المتحدة تدخل مرحلة ما بعد الاستفتاء من دون رجال دولة... الّا اذا تبين ان تريزا ماي المرشحة لخلافة كاميرون على رأس حزب الحافظين وفي موقع رئيس الوزراء قادرة على ان تكون تاتشر أخرى. من الصعب الرهان على تلك المرأة على الرغم من ان لديها مؤهلات كثيرة. ولكن هل من امل آخر لبريطانيا غير رئيس للوزراء يمتلك شخصية رجل دولة ويعرف في الوقت ذاته ماذا يريد؟
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي