الشاعر محمد بن لعبون

تصغير
تكبير
ذكر خالد بن محمد الفرج صاحب «ديوان النبط مجموعة الشعر العامي في نجد» عند ترجمته حياة محمد بن حمد بن لعبون، ما نصه: «ولد شاعرنا في حَرْمَة ولا نعرف سنة ميلاده» وحدد سنة وفاته بعام 1247هـ. وذكر أن بن لعبون بلغ 46 سنة وبذلك تكون سنة ميلاده حسب هذه المعلومات هي سنة 1201هـ. وأشار عبداللطيف بن سعود البابطين صاحب (طرائف الكلام في شعر العوام)، إلى أن بن لعبون ولد في بلدة حَرْمَة من مقاطعة سدير ولم يأت على ذكر سنة ميلاده، إلا أنه ذكر وفاته في الكويت سنة 1247هـ. في حين ذكر عبدالرزاق محمد العدساني أنه ولد في حَرْمَة سنة 1204هـ. واكد أن كل الكتب والمؤلفات التي تخص الشاعر اتفقت على أن مولده مدينة حَرْمَة في منطقة نجد، وعن وفاته أنه مضى عليها ما يقارب 163 سنة. ولما كانت سنة ميلاده هي 1205هـ ووفاته في 1247هـ، فعليه يكون مضى على وفاته 171 سنة.

تجلي شاعريته

تجلت شاعرية بن لعبون قبل ولادته، فقد ذكر أن والده الشيخ حمد بن لعبون رأى حلماً رواه لزوجته وكانت حاملاً، وفسر ذلك الحلم بأن الله سيرزقهم ولداً وسيكون شاعراً، وجاء ذلك الولد وسمّي محمداً تيمناً باسم جده. ومرة ثانية تأكدت شاعرية الطفل محمد عندما رأى في المنام بحراً يشرب منه، وجاء لأبيه يحكي قصة ذلك الحلم، ففسره والده بأنه إما علم غزير أو شعر، وصدقت نبوءة الأب فكان البحر شعراً ينهل منه الابن. ربما لا نغالي إذا قلنا إن الشعر ولد مع بن لعبون، فقد قرضه تلقائياً ومنذ صغره، ولم يردنا من شعره وهو في نجد شيء يذكر وربما كان ذلك لأسباب منها:

عدم اكتراث الكبار ممن حوله بتدوين شعره

مكانة والده الشيخ حمد العلمية والوظيفية جعلته لا يذكر من أشعار ابنه إلا أبياتاً مدح بها علية القوم أما الأشعار الأخرى كالهجاء والغزل فربما ظن أنها مشينة ولا داعي لتشجيع الابن عليها ونشرها إدراك الولد الشاعر محمد لمكانة أبيه والبينة المحافظة من حوله، ما جعله يحجم عن نشر أشعاره والبوح بها ومما يرجح ما ذكرنا انه ليس من المعقول أن تتفتح شاعربة بن لعبون وبهذه الجزالة والمتانة وسبك المعاني فجأة ولمجرد وصوله إلى الزبير إن البيئة العلمية للزبير واحتكاكه بالعلماء والأدباء والشعراء الذين تعج بهم هذه البلدة، صقلت شخصيته وفتحت مواهبه وجعلته ينطلق وبكل قوة ويقارع فحول الشعراء ويطرق أبواب الشعر ومعانيه ويجدد ويبدع ويبتكر ويكون مدرسة جديدة قائمة بذاتها.

انطلاقته

إن من أوائل ما ذكر عن شعره وهو صغير ربما في الرابعة أو الخامسة من عمره عندما ارتجل أبياتاً من شعر كرد فعل لتمنع أمه أن تعطيا تمراً، فقد عاد الولد ظهراً من الدرس وكان جائعاً فطلب من امه تمراً، فتمنعت بحجة أن المفتاح ضاع، وربما كان ذلك تعذراً من الوالدة حتى يأتي والده وتجتمع العائلة كلها للغداء. لم يقتنع محمد بهذا العذر فصعد إلى السطح وركب الجدار وأخذ ينادي بأعلى صوته بحثا عن المفتاح أو إحراجاً لوالدته لتفتح له مخزن التمر، ويقول:

يا من عين المفتـاح

من فوق وركي طاح

بطني كما الـردّاح

يبغـي غـداً لــه

وربما كانت هذه أول أبيات قالها، وصادف وصول الأب ورأى ابنه على الجدار يصيح بهذه الأبيات، فتحقق للوالد صحة تفسيره بأن ابنه سيكون شاعراً نمت موهبة الشعر عنده ورعاها والده الذي ما كان يترك فرصة لصقل مواهب ابنه وتعليمه وزرع الثقة في نفسه إلا وينتهزها، فقد كان يأخذه إلى مجالس الرجال والأمراء من آل سعود وغيرهم ليسلم عليهم وليتعلم كيف يتصرف الكبار ويتحدثون. وخير دليل على ذلك ما ذكره الشيخ حمد أن ابنه محمد قال شعراً في الأمراء، ومنهم عمر بن عبدالعزبز آل سعود ومدحهم بقصائد كثيرة ولم يصلنا من شعر الصبي سوى أبيات قليلة منها هذا البيت:

صغيرهم يربى على الشيب بالطيب

لو كان طفل ينحمل فوق الاكتـاف

ويذكر أن بن لعبون عند خروجه من ثادق مهاجراً إلى الزبير وهو في السابعة عشرة من عمره أشارت إليه امرأة قائلة: «هذا أبو قذيلة اللي يقصد» (أي يقول الشعر) فأجابها مرتجلاً بقوله:

ابو قذيله ما وقف عنـد بابـك

ولا فصخ واحد مـن ثيابـك

أنتِ حصاة الدرب كل وطا بك

حتى الأجانب يدلـون بابـك

وما أن سمعت ذلك الهجاء منه، حتى بادرت لإرضائه بهدية تريد بها العافية.

أسفاره وتنقلاته

لم يستقر بالشاعر القرار في بلد معين، فما أن بلغ السابعة عشرة حتى ترك حرمة في تنقل وترحال، إما رغبة منه أو رغماً عنه. ففي هذه السن المبكرة هاجر إلى الزبير ومنها نفي أو بالأحرى خرج إلى الكويت، وهنالك قول بأن بن لعبون خرج من ثادق إلى البحرين وبعدها ذهب إلى الزبير وربما تفسر بعض قصائده بما يعزز هذا القول. وسواء قصد البحرين بعد خروجه من نجد أم قصد الزبير رأساً، فقد زار البحرين أكثر من مرة وقد ورد في شعره ذكر للقطيف، مما يشير إلى انه ذهب إليها والى الأحساء، كما ذكر أنه ذهب إلى الهند لزيارة ابن عمه ضاحي بن عون في مدينة بومباي. وكان الشيخ ضاحي رجل العرب في الهند علماً وغنى. ويذكر خالد بن محمد الفرج أن بن لعبون لم يطب له المقام في الهند لكونه غريب الوجه واليد واللسان، فغادرها معرجاً على البحرين وفيها أمضى وقتاً يسيراً. هذا ولم يردنا ما يلقي الضوء على سيرته وتنقلاته في هذه البلدان، إلا النزر اليسير.

إن هذه الأسفار والتنقلات وما واكبها وتخللها من ظروف وأحداث، أكسبت الشاعر ميزة يكاد ينفرد بها عمن سواه من الشعراء، ولا نقصد بها ميزة السفر والترحال، بل ميزة ما اكتسبه منها من خبرة انعكست متانة في شعره وصقلاً لشخصيته واعتداداً بنفسه. لقد وفر السفر له الفرصة ليس للتعرف على بلدان مختلفة فحسب، وإنما للتعايش والتكيف مع بيئات تختلف إلى حد ما في لهجاتها وعاداتها وثقافاتها ومبادئها مع ما ألفه في مجتمع نجدي شبه مغلق، ولد فيه وترعرع.

انطلق بن لعبون من مجتمع نجدي في قلب جزيرة العرب إلى مجتمع نجدي آخر في الزبير الحر انفتاحاً وتأثراً بالساحل، وسافر إلى مجتمعات أكثر بعداً عن مجتمعات نجد والزبير، فقد سافر إلى الكويت وبلدان الساحل والبحرين والهند، ووجد في مجتمع الكويت وسطاً بين هذه وتلك، فاستقر بها ليقضي أواخر أيامه.

تزوج ولم يعقب؟

إن من الشائع لدى الناس أن بن لعبون لم يتزوج، إلا أن مما اذكره وأنا في مقتبل العمر أنني سمعت من أحد شيوخ العائلة، إن الشاعر تزوج ابنة خاله، غير أنني لم استوثق من هذه المعلومة وقتذاك، ولكنني وجدت في ما ذكره محمد احمد الثميري والراوية محمد بن عيد الضويحي ما يعزز خبر الزواج في معرض ذكره لمناسبة قصيدة توبته، وما ذكره أن بن لعبون تزوج ابنة خاله في الكويت وأنها أحبته وأحبها.

ومما يعزز صحة خبر الزواج ما ذكره والده المؤرخ النسابة الشيخ حمد بن محمد بن لعبون من معلومات مقتضبة عن ابنه الشاعر محمد بقوله، إن عمره وقت وفاته كان 42 سنة وليس له عقب. وكلمة الشيخ حمد وليس له عقب تعني انه لم يترك ذرية، ومنها يفهم أن الشاعر تزوج ولكن لم يرزق بذرية تعقبه وإلا لذكر والده أنه لم يتزوج، واكتفى بذلك ولم يأت على ذكر العقب.

حنينه إلى نجد

خرج الشاعر من نجد وظل قلبه معلقا بها وبأحبته فيها ونظم في ذلك شعراً بثه حنينه وشوقه لهم ولديارهم ودعائه لبلده ثادق وسكانها بالخير العميم والغيوم المرناة، ومن ذلك قوله:

فَيا نَادِبِي سِر فِي قرَاها وَمَسْنَدِي

إلى حَيْ بَينَ أطلاَلْ نَجْدٍ جثُومَهَا

إلىَ سِرْتها مِنْ دَار ميّ وَغَربتْ

ونَابَاكْ مِنْ طُفَّاحْ نَجْدٍ خشُومهَا

أوَّلْ موارِي دَارهُمْ لِكْ جلاَلَهْ

حَاشَا الإلهْ وَبَاقِي الدَّارْ زُومهَا

علمي بهم قطن على جوْ ثَادِقْ

سِقاهَا مِرنَّات الْغَوادِي ركُومهَا

مَرَابيع لَذَّاتِي وَغَايَاتْ مَطْلبِي

وَمَخْصُوصْ رَاحاتِي بهَا في عمُومهَا

ألاَ يا خَبِيرٍ بَالْمَصادِيرْ حثها

وَسِرْهَا أمَامَ الدَّارْ تلْقَى علُومها

إلىَ جِيتْ فَي وَادِي سدَيرٍ فخَلهَا

تِذبَّ الْعَفا مَا فَوقها إلاَ وسُومهَا

إلىَ لاَحْ بَرْقٍ مِنْ حَيا نَجد حَنَّتْ

مِنْ الْوَجدْ حَنَّةْ وَالِدين رحُومهَا
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي