حديث الذكريات / «النجم العربي» يتوقَّف عند المحطات المفصلية في مسيرته الفنية نحو النجومية الساطعة (1 - 4)

وليد توفيق لـ «الراي»: أسرتي من 10 أفراد... ورغم الفقر كنا سعداء!

تصغير
تكبير
لا أعتبر نفسي «وصلت»... لأن الوصول في تقديري معناه أنني انتهيت!

كنتُ طفلاً نجماً في «الباص» والصف ولدى الجيران... فكلَّما قام عُرس أو مناسبة دُعيتُ للغناء

كنا ننام في غرفة واحدة ووالدي رقيباً في الدرك... لكن همّه الوحيد كان أن يعلِّمنا

طُردتُ من المدرسة كثيراً بسبب هوسي بالغناء... فقد كنتُ أغني حتى بالهندي!

خرجتُ من المدرسة في الثانية عشرة من عمري واشتغلت في الكهرباء لأنفق على الموسيقى!

استأجرتُ لنفسي غرفةً فوق سطح بيتنا ووضعت فيها العود وجهاز «ريكوردر» واتخذت منها مملكتي الموسيقية الخاصة!

كنتُ أقول لأخي «غداً ستجد صوري في الشوارع»... فيجيبني: «خلص ما بقى تحلم»!

عندما غنيتُ «عيون بهية» في «ستوديو الفن» تبادل الحكَّام النظرات وقالوا لي: «بكرة بتجي للتسجيل»!
كان مهووساً بالفن منذ نعومة أظافره ولم يكترث للدراسة كبقية الأطفال، فكانت المدرسة بالنسبة إليه فسحةً للغناء أمام الناس فقط، مبتعداً بنفسه عن أعبائها الدراسية، لينتهي المطاف بتركه الدراسة عن اقتناع، متجهاً إلى العمل في الكهرباء لتأمين المال اللازم لتحقيق حلمه الفني.

«الراي»، في هذا الحوار مع وليد توفيق، تُعيد السير معه في الطريق الذي رسمه لنفسه، بدءاً من نجوميته الطفولية، ومروراً بالعام 1974 الذي كان مفصلياً في حياته، حينما عبَر بـ «عيون بهية» في برنامج «ستوديو الفن» آنذاك وخرج من بوابته نجماً متوَّجاً بالذهب، ليظل أحد المتربعين على عرش الغناء العربي حتى الآن.


وليد توفيق، ابن مدينة طرابلس، ابن بيت، ابن أصل، هذه العبارات والكثير غيرها تعكس مدى شهامة ونبل هذا الفنان.

لم يخب أمله، فقد مشى في درب النجومية وجال العالم طرباً بـ «صوتٍ» مسموع وعينين مرفوعتين وخُطىً ثابتة... فتبوَّأ مكانة فنية مميزة ووقَّع اسمه بأحرف ماسية اكتسبت المزيد من التوهُّج بعد زواجه من ملكة جمال الكون جورجينا رزق.

42 عاماً مضت على انطلاقته الفنية وما زال قلبه الفني ينبض بقوةٍ متجددة، تاركاً خلفه نجاحاتٍ متتالية كفلت له مكانة فنية تحمل اسمه، وتحقق له ما كان يتمناه في طفولته... وأكثر!

من الصعب أن تُختصَر 42 عاماً في كلمة أو جُملة أو حتى كتاب، لكن وليد توفيق باختصار هو كان وما زال وسيبقى أحد فرسان الطرب العربي.

دخلنا مكتبه وكان بيده هاتفه المحمول، بينما يشاهد مقطع فيديو ينتمي إلى أيام الزمن الجميل. وكان طبيعياً أن يتحدث توفيق عن تفاصيل هذا الفيديو، كاشفاً عن بعض الذكريات المتعلقة بذاك الزمن... ليختم كلامه بعبارة: «كأنها البارحة»!

«البارحة» هذه... صارت مفتتحاً للحوار الذي أجرته معه «الراي»، ومدخلاً إلى العالم الخاص لتوفيق، للتنقل بين ذكرياته، والتنقيب في معرفة تفاصيل حياته التي تُسلط هذه السطور الأضواء عليها:

? 42 عاماً مضت على بداية مشوارك الفني الذي تخلّله الكثير من النجاحات من جهة، لكنه في المقابل لم يكن خالياً من الإخفاقات، فماذا تقول بعدما وصلتَ إلى مرحلة الأمان الفني؟

- في البداية، كلمة «وصلتُ» غير موجودة، ولا أعترف بها، لأنك إذا وصلتَ فهذا يعني أنك انتهيتَ، وهذه قاعدة أتبعها في حياتي الفنية، ولهذا أتصرف وكأنني ما زلتُ في بداية مشواري الفني حيث أشعر حتى اليوم بالخوف نفسه، وينتابني القلق نفسه أيضاً، وأحرص على ترتيب وتنظيم أعمالي. وعلى فكرة ما يحصل في حياتي ليس كله «مُرتَّباً»، وسبحان الله ليس بالمصادفة أن أصبحتُ وليد توفيق.

? ماذا تقصد؟

- كل أفراد عائلتي يملكون أصواتاً جميلة، والدتي «الله يخليها» من أجمل الأصوات، وكانت تقرأ القرآن الكريم والمدائح النبوية، وجدّي من عائلة «الحلو» وقد أطلقوا عليه هذا اللقب أي «الحلو» لحلاوة صوته. البيئة التي عشتُ فيها كانت محافِظة وكان من الصعب أن يسمحوا لأحد بالعمل في الفن، ومجرّد ذكر الوسط الفني حينها كان عيباً.

? كيف تأكدتَ من موهبتك وحاربت لإظهارها والعمل بها؟

- النجاح يفرض نفسه دائماً، وقبل تحقيقه فإن آراء مَن حولك توضح لك الصورة. والداك ومن شدّة خوفهما عليك يريدانك أن تصبح طبيباً أو محامياً أو أستاذاً في الجامعة، وهذا حقّ كل أب وأم، لكنني منذ صغري مهووس بالفن. ففي طفولتي كنتُ تلميذاً في مدرسة النموذج في طرابلس، ولم يكن هناك «أوتوكار» ولا سيارة لتعيدنا إلى المنزل، فنحن عائلة تتألف من عشرة أشخاص، ووالدي كان يعمل في سلك الدرك برتبة رقيب، أي كان راتبه «على قدّه»، لكن في المقابل كان همّه الوحيد أن يعلّمنا، وهو نقلنا من حي شعبي إلى حي راقٍ في شارع عزمي بطرابلس، حتى أنه أراد أن نسافر إلى خارج لبنان لأنه كان يملك دائماً نظرة إلى المستقبل. من جهة أخرى، كان كل فناني الشمال في السابق «ما معهم ياكلوا»، وكانت هناك أصوات جميلة، ولكن «ما معن يعيشوا»، ولهذا السبب كانوا يغنون في الأعراس والحفلات. كان هناك أستاذ عود في شارع الزاهرية في طرابلس وكان ضريراً لكنه موهوب بشكل فظيع، وكنت أقصده كل يوم في طريق عودتي من المدرسة. هذا الرجل اسمه أمين عازار خوري، وتعلمتُ العود على يديه.

? كيف تكوّنت شخصية الفنان داخلك؟

- طُردتُ عشرات المرات من المدرسة في طفولتي حين كان عمري يتراوح بين 7 و 10 سنوات، ذلك أنني كنتُ أقوم بالغناء على الطاولة وأغني «بالهندي» أيضاً وأقلّد الشخصيات المشهورة كشامي كابور أو عبدالحليم، فضلاً عن تقليدي للممثلين آنذاك، فكنت أرى نفسي منذ ذلك العمر نجماً في محيطي. أقول كلامي هذا لأوصلك إلى نقطة أساسية، وهي أن مَن يأتي إلى هذه الدنيا ولديه حالة يجب أن يكون فناناً ويمسك النجومية بيديه.

? أدركتَ حالتك... فماذا بعد؟

- في ضوء هذا الكلام تكوّنتْ لديّ الفكرة. وحتى في الباص خلال الرحلات كنتُ أضع الطبلة على رجلي وأغني، والكل كانوا يتجمعون حولي، وكنتُ دائماً نجم الباص ونجم الرحلات، وأصبحتُ بعد ذلك نجم الصف ونجم الجيران، حيث يأتون بي في كل عرس أو مناسبة للغناء. ما أقصده أنني كنت نجماً في مكاني، وحتى جورج إبراهيم الخوري رحمه الله قال: «في شي ربنا بيعطيه للإنسان وهو (كارت) اسمه الحضور».

? ما الصورة التي كنتَ تضعها أمام عينيك في تلك الفترة؟

- صوت أمي لم يكن يفارقني وهي تتلو الموشحات الدينية في أذني. في تلك الفترة كنت أقصد أماكن حيث الأعراس والعزف والغناء وتعلمتُ عزف العود من دون علم والدي، وهنا وجدتُ أنني يجب أن أترك المدرسة.

? ما السبب؟

- لأن والدي لم يكن ليستطيع أن يعلّمني الموسيقى، وهنا أشير إلى قدرته المادية المحدودة. وكنتُ أريد الموسيقى، لكن هناك 10 أشخاص في البيت «وين بدي روح؟، لذا شقّيتُ طريقي بنفسي».

? هل كانت طفولتك صعبة؟

- ليست صعبة، فقد وجدتُ الحنان والعاطفة، وكان أبي رجلاً «بياخذ العقل»، لكن كنا عشرة أشخاص في المنزل. لا أقصد هنا المصاريف المادية، لكن «ما عندهم وقت لإلك»، كنا ننام في غرفة واحدة فوق بعضنا البعض، لكننا أيضاً كنا سعداء في حياتنا، ولم يحرمني والدي أي شيء.

- طفولتك كانت فقيرة إذاً؟

- ليس فقراً، بل كانت عائلتي «وسطية». أخذنا شقة وكل 4 أشخاص كانوا ينامون في غرفة، وكان هناك حوش بكامله باسم عائلتي، وهي توتنجي، في منطقة باب الرمل.

? كيف تصرفتَ في ذلك الوقت؟

- تركتُ المدرسة وكنت أبلغ 12 عاماً فقط، وبدأتُ بشقّ طريقي حيث باشرتُ دراسة العود وإحياء الأفراح، كانت والدتي تقيم كل يوم إثنين من كل أسبوع استقبالاً في المنزل، حيث تجتمع النسوة فيقلن لها: «يا إم فواز، مبارح كان في ولد عم يغني ويحمرّ وجهه ويدّق على العود واسمه وليد توفيق». كنت قد عملت في ذلك الحين على تغيير اسمي واعتمدتُ اسم وليد توفيق بدل اسمي الحقيقي وهو وليد توفيق توتنجي.

? ما سبب اعتمادك اسماً بديلاً، هل كان هروباً من عائلتك؟

- لا أبداً. فكرتُ في اعتماد اسم فني، ولهذا السبب فقط اعتمدتُ اسم وليد توفيق.

? هل كنتَ تَلقى الاستهزاء بك في الأعراس نسبةً إلى عمرك الصغير؟

- لا، أبداً، فكان لديّ حضور «مش طبيعي». النجم يولد نجماً من بطن أمّه، أي أن هناك حالة خاصة به. انظر إلى الوسوف وارجع إلى طفولته واذهب إلى ملحم بركات وعبدالحليم وكل شخص حصد نجاحاً «مش طبيعي».

? كيف أصبحتْ طبيعة حياتك في تلك الفترة؟

- تركتُ المدرسة وبالتزامن مع تعلُّمي على آلة العود، بدأتُ في المقابل العمل في الكهرباء لتأمين المال، فدرْس العود كان مقابل ثلاث ليرات لبنانية، كما أنني اشتريت آلة عود بثلاثين ليرة، واعتمدتُ غرفة مستقلّة بي بعيدة عن عائلتي على السطح، وهي كانت مملكتي الخاصة، وكانت تحتوي على آلة Recorder للتسجيل ومايكروفون وآلة العود.

? ما كان رد فعل والدك على تصرفاتك هذه؟

- شعر أبي بالموضوع، لكنه لم يمانع ما دام الأمر هواية بحسب قوله، لكن أن أذهب إلى الحفلات والأعراس للغناء فأكيد «ما عنده ياها». كان هذا واقعياً إلى أن جاء دور فرقة الفنون الشعبية في طرابلس، وهي لعبدالله حمصي الشهير بدور «أسعد»، وكانت تضمّ كل أعضاء فرقة «أبو سليم الطبل». كان هذا النادي يتسع لمئة شخص، وقد سمح لي والدي بالتردد عليه. وهنا بدأتُ مشوار العزف والغناء في النادي حيث كنت أحيي حفلة فنية كل ليل سبت من كل أسبوع، إلى أن جاء برنامج للهواة اسمه «ستوديو الفن»، وهذا الكلام كان في العام 1974. نجوميتي في ذلك الوقت كانت ضمن نطاق مجتمعي وأصدقائي، وقد ذهبنا أربعة أشخاص للتقدم إلى البرنامج، ورافقني كل من عدنان علاّم وعبدالله محمد ومحمد عرابي، وكانوا يغنون أفضل مني.

? وماذا حدث؟

- كان السؤال الذي راودني في البداية هو: «شو بدي غنّي»؟ فقد وجدتُ أن الجميع يعتمدون أغنيات لوديع الصافي وعبدالحليم حافظ و... في ذلك الوقت أقيمت حفلة فنية في طرابلس وأحيتها فرقة «رضا»، وكانت تضم المطرب الكبير محمد العزبي الذي قدّم أغنية «عيون بهية». كنتُ لا أملك المال لحضور الحفل حينها، ولذا جلست خلف السياج الشائك وكنت قد أحضرتُ معي آلة تسجيل، وعملتُ على تسجيل الحفلة وهنا ذهبتُ لأحفظ أغنية «عيون بهية».

? لم تكن عندك القدرة المالية حتى لتحصل على نسخة نظيفة من الأغنية؟

- «ما عندي... ما كان عندي شي».

? وهل كنتَ حزيناً حينها على افتقارك للمال؟

- كنتُ أعمل حينها وأتقاضى المال من عملي في الكهرباء، وأسستُ طريقي كرجل عصامي يساعد والده أيضاً، وكنتُ أبلغ 13 عاماً فقط. مع تَقدُّم الأيام وحين بلغت 15 عاماً كان لديّ نحو خمس عمارات ملتزم بها كهربائياً، وذلك لشدة ذكائي في العمل، وهكذا استطعت شراء سيارة وكانت من نوع «فيات»، وكنت أعمد حينها إلى الغناء دائماً في الورشة.

? هل كنتَ حزيناً على واقعك أو متفائل بمستقبل جميل؟

- سعيد و«طاير» من الفرحة، لأن الهدف الذي أريد الوصول إليه كان في بالي وكان خلاصي. كنت أقول لأخي غسان وأنا في طريقي إلى العمل: «بكرا ح تشوف صوري بكل الشوارع وح تشوف صوري بأفلام السينما». فكان يرد: «خلص، ما بقى تحلم». كان الله عزّ وجلّ يريني في تلك الفترة كل شيء إلى أن أتى برنامج «ستوديو الفن». وكل ما جاء من الله عزّ وجلّ كان هو سبب نجاحي، وفي المقابل كل ما سعيتُ أنا إليه نجح، لكن بشكل عادي.

? أخبِرنا عن تجربة «ستوديو الفن»؟

- ذهبنا إلى البرنامج، وكانت هناك أصوات جميلة جداً، ونحن نتكلّم هنا عن عبدالكريم الشعار، ماجدة الرومي، عبده ياغي ومنى مرعشلي، فهذه الأصوات جميلة وهم أشخاص متعلّمون. وأذكر هنا أنني لم أتلقَ دروساً في أصول الغناء، بل كنت «زلمي لله أغني وصوتي جميل وحفظت عدداً من الأغاني وبس، وماشي وراء حلمي». دخلنا لمواجهة اللجنة وعندما صرختُ «بهية يا عيون بهية» نظر أعضاء اللجنة بعضهم إلى بعض وقالوا لي: «بكرا بتجي للتسجيل». وفعلاً سجّلتُ الحلقة وغنيت «يا عيون بهية» مع فرقة رفيق حبيقة ثم عدتُ أدراجي إلى طرابلس والحلقة كانت تُبث مساء يوم السبت، وكان البلد كله «بيتسكر بوقتها لأجل ستوديو الفن». وهنا لم أخبر عائلتي عن مشاركتي في البرنامج. كانت والدتي تحب الغناء، ولذا كانت تحبّ هذا البرنامج وتنتظر عرضه، وأنا كنت أجلس إلى جانبها في ليلة بثّه. وهنا سعيتُ إلى تشتيت انتباهها عبر طلبات متعدّدة كالقهوة مثلاً ثم طعام و... إلا أنه وبالصدفة ظهرتْ سونيا بيروتي على الشاشة وقالت: «معنا صوت من الشمال وتحديداً من طرابلس، وهو يعمل في الكهرباء، واسمه وليد توفيق وسيقدّم أغنية (عيون بهية)». أصبحت نظرات أمي تنتقل سريعاً بين وجهي من جهة وشاشة التلفزيون من جهة أخرى، وراحت تبكي ثم حضنتني وقالت لي: «انتبه من كذا وكذا وكذا...»، فأجبتُها على الفور: «إن شاء الله ح بيّض وجهك». وبعدها أصبحت أقصد بيروت باستمرار بهدف التصوير، وضجّت الدنيا بي في ذلك الوقت... بعد «عيون بهية».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي