الدجل في حياة المشاهير
المعز لدين الله الفاطمي... حاكم تحركه النجوم والكواكب والأبراج / 22
الفاطميون والاهتمام بالعمل
غلاف كتاب جوهر الصقلي
جامع الحاكم بأمر الله
| القاهرة - من دعاء فتوح |
دائما نخشى الغيب... فهو البوابة السحرية لمعرفة أقدارنا نحن البشر التائهين، نعرف أننا سنرحل، ولكن لا نعرف كيف؟ ومتى؟، ولا نملك من حطام دنيانا بخلاف اللحظة الحالية شيئا.
لذلك يلجأ بعضنا لمعرفة أقدارهم وطوالعهم عن طريق المتنبئين والفلكيين، أو عن طريق الدجالين والمشعوذين.
وثبت في أذهاننا أن هؤلاء المهتمين بهذا «العالم الخرافي»... هم أشخاص يفتقدون للثقافة الكافية والمعرفة... أوهم ممن يعيشون في القرى والمناطق العشوائية... حيث ارتبط الدجل والشعوذة بضعاف النفوس الذين لا يستطيعون مواجهة مصائرهم، وأقدارهم.
لذلك كان من أكثر الأمور غرابة... هو اكتشاف مدى تعلق أصحاب السلطة من السياسيين المرموقين على مر العصور، وكذلك مشاهير الفن والرياضة والأدب، وغيرها، بتلك العلوم.
حتى إن الكثير من الأمراء والملوك... كان لديهم «مُنَجم» أو أكثر مرتبط بقصورهم مثل لورنزو منجم دوق فلورنسة، وتيموبراهة منجم إمبراطور النمسا، وإليزابيث تيسية المستشارة الروحية للرئيس الفرنسي الأسبق ميتران.
إضافة إلى أن هناك الكثير من المنجمين «المشاهير طبعا» الذين ارتبطت أسماؤهم بالملوك.
كما اهتم ملوك وأمراء العرب بتلك العلوم، ومن أشهر هؤلاء الأمراء أبو جعفر المنصور العباسي... حيث كان لا يصدر أمرا إلا باستشارة نوبخت والفزاري.
الدجل... في حياة المشاهير... في جميع المجالات... ومن خلال التقليب في كثير من الأوراق والحكايات والأساطير القديمة والحديثة... تعددت أسبابه... وتنوعت أدواته.
فهناك من أراد أن يحصل على كسب اقتصادي... أو منفعة سياسية... أو المبارزة على منصب وجاه... حتى إن الأمر ولايزال مستخدما في أجهزة استخباراتية، وفي انتخابات رئاسية في دول كبرى... وفي حكايات وارتباطات المشاهير بالدجل... مفاجآت كثيرة... في السطور التالية... كثير من بينها.
إذا كان التنجيم وقراءة الطالع وكشف الغيب و ستر الأرواح... عالما استهوى الكثير من مشاهير الحكم والسياسة من الملوك والأمراء على مر العصور المختلفة وجميع الممالك المختلفة... حتى انهم رفعوا من شأن هؤلاء الدجالين والعرافين حتى أصبحوا هم الحكام الفعليون لتلك الممالك كما أوضحت الحلقات السابقة.
والعرب قبل الإسلام لهم علاقة بسيطة بعالم التنجيم والعرافة، ولم تكن هناك علوم خاصة بدراسة الفلك وحركة الكواكب... بل اقتصرت معرفتهم حول التنجيم بمفهوم التنبؤ بالمستقبل والتطلع إلى معرفة الغيب والمجهول.
وعلى الرغم من المرجع الديني الإسلامي حول علوم التنجيم وقراءة الطالع لمعرفة الغيب، إلا أنه عندما أتى الإسلام نهض هذا العلم نهضة كبيرة... حيث كان للمسلمين الفضل في اكتشاف الكثير من النجوم والكواكب والتي مازالت حتى اليوم تحمل أسماءً عربية.
كما أن الكثير من المصطلحات العربية في علم الفلك مازالت مستعملة حتى اليوم وهي تزيد على 150 مصطلحا و اسما.
ومن أهم العصور العربية الإسلامية التي اهتمت بعلوم التنجيم «العصر الفاطمي»... حيث لعب التنجيم الدور الأهم في حياة الخلفاء الفاطميين، بل أصبح صاحب الكلمة الأخيرة في اتخاذ قراراتهم، لدرجة أن بعض الخلفاء الفاطميين كانوا منجمين يقرأون الطوالع مثل «المعز لدين الله الفاطمي»، وولده «العزيز بالله».
كما أن المنجمين خلال العصر الفاطمي كانوا فئة من موظفي الدولة وكان الخلفاء يستشيرونهم في كثير من أحوالهم الإدارية والسياسية... فإذا خطر لهم عمل وخافوا عاقبته استشاروا المنجمين فينظرون في حال الفلك والكواكب، ثم يشيرون إلى موافقة ذلك العمل أو عدمه.
منجم وقارئ للطالع
كان الخليفة «المعز لدين الله» الفاطمي... شغوفاً برصد النجوم واستقراء ما وراءها من الأحداث فيقول عنه أبو الفدا: «كان مغرماً بالنجوم ويعمل بأقوال المنجمين».
ويروى أن المعز وقف أثناء مباحثة في استقراء النجوم و الطوالع على قطع في طالعه، يقتضي اختفاؤه عن وجه الأرض حولاً كاملاً، فنزل فعلاً على إشارة النجوم، فاستخلف ولده «العزيز» على العرش، ثم اختفى تحت الأرض في سرداب صنعه لذلك، واستمر في اختفائه سنة كاملة.
وكان المغاربة وهم أولياء الدولة الفاطمية إذا رأوا غماماً سائراً، ترجل الفارس منهم إلى الأرض، وأومأ بالسلام يشير إلى أن «المعز» فيه ثم خرج «المعز» بعد اختفائه، وقد أحاط به سياج من الرهبة والخشوع .
ومن المواقف الأخرى التي توضح دور التنجيم في حياة «المعز» أنه عندما عزم على دخول مصر مرض قائده «جوهر الصقلي» مرضاً شديداً ويئس الأطباء من شفائه ولكن «المعز - وهو الخبير بالتنجيم - قرأ الطالع وتنبأ بشفائه ودخوله مصر فقال وهو يودعه أمام جميع شيوخ كتامة: «والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر، وليدخلنّ مصر بالأردية من غير حرب، ولينزلنّ خرائبا ابن طولون، ويبني مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا».
وقد كان « المعز» مهتما بالعلوم والثقافة لاسيما علوم الفلك والتنجيم . يدل على ذلك قول النعمان الفقيه المغربي: « إن المعز قد نظر في كل فن، وبرع في كل علم، وإن تكلم في كل فن منها أربى على المتكلمين، أما علم الباطن ووجوهه فهو بحره الذي لا تخاض لجّته ولا يدرك آخره، أما الطب والهندسة وعلم النجوم والفلك والفلسفة، فأهل النفاذ في كل فن من ذلك عيال في يديه، وكلهم في ذلك عيال عليه».
وكان أيضا شغوفا بكتب النجوم... خاصة، حتى كان يجد في ذلك لذة وفخراً يصغر أمامها جاه الخلافة... أنظر وهو يقول : «إني لأجد من اللذة والراحة والمسرة في النظر في النجوم ما لو وجده أهل الدنيا لأطرحوها لها، ولولا ما أوجب الله سبحانه علىّ من أمور الدنيا لأهلها، وإقامة ظاهرها ومصالحهم فيها لرفضتها بالتلذذ بالنجوم والنظر فيها».
الفاطميون... ومصر
و«المعز لدين الله»... كانت أعز أمنية يصبو إليها في حياته هي أن يفتح «مصر»، وفي سبيل تحقيق هذه الأمنية شرع في جمع الأموال، وقضى سنتين في حفر الآبار وإقامة الاستراحات على طول الطريق إلى الإسكندرية .
وهكذا استعد المعز لدين الله الفاطمي لدخول مصر... هذا الحدث الأهم على مدار حياته، والأسباب التي دفعت المعز لغزو «مصر» كما أوضح المستشرق الهولندي «دي خويه» أنها كلها أسباب تتعلق بالتنجيم ويبين ذلك أن الذي دفع «المعز» إلى التفكير في غزو «مصر» هو التقاء كوكب المشتري بزحل في برج الحمل سنة 356 للهجرة (976م ).
وليدعّم رأيه هذا أشار «دي خويه» إلى كتب «عبيد الله» - الذي أصبح فيما بعد الخليفة عبيد الله المهدي أول خلفاء الدولة الفاطمية - عن التنجيم والعلوم الخفية التي سرقت منه بالقرب من طاحونة أثناء فراره إلى أفريقيا التي استردها الخليفة القائم أثناء حملته الفاشلة على مصر.
ويذكر المقريزي... أن هذه الكتب كانت تحتوي على النبوءة التي شاعت وقتئذ وهي أن حكم العرب لبلاد المغرب سينتهي بانتهاء القرن الثالث الهجري . وقيل إن هذه النبوءة كانت مبنية على التقاء كوكب زحل بالمشتري في برج الحمل سنة ست وخمسين وثلاثمئة للهجرة ( 908 م ) وهي السنة التي شهدت فعلاً سقوط «الأغالبة» وظهور دولة الفاطميين وبدء حكمهم في القيروان.
ومن المعروف أن الفاطميين كانوا يتوقعون بداية عهد جديد هو عهد الدين الحق الذي يقترن بتغيرات فلكية تحدث سنة ست عشرة وثلاثمئة للهجرة ( 928 م ). لذلك يرجح «دي خويه» أنه من المحتمل أن قيام الدولة الفاطمية قد جعل المعز - وهو الضليع بعلم التنجيم يختار سنة ست وخمسين وثلاثمئة للهجرة لإعداد حملته على مصر لأسباب تتصل وتتعلق بالتنجيم أيضاً - إذ إنه في هذا العام يلتقي زحل بالمشتري في برج الحمل.
التنجيم وبناء القاهرة
في مساء اليوم الذي وصل فيه «جوهر الصقلي» إلى الفسطاط حيث عسكر شمالها موقع «جنان كافور» اختار موقع القصر الذي قرر أن ينزل فيه « المعز»، وبنى «جوهر» سوراً خارجيا حول القاهرة - العاصمة الجديدة - على شكل مربع طول ضلعه 1200م.
وأصدر «جوهر» أوامره إلى المنجمين فجمعهم وطلب منهم أن يختاروا طالعاً سعيداً لتأسيس المدينة حتى لا تتعرض دولة الفاطميين لمتغلب يسلبها منهم فحفروا الخنادق لبناء أسس الأسوار وجعلوا بدائر السور قوائم من الخشب وقد رُبط بين كل قائمين حبل وعلقت على هذه الحبال أجراس وكان المتفق عليه أنه عندما تحين اللحظة المناسبة يرسل المنجمون إشارة لبدء العمل.
وأبلغ المنجمون العمال أن يقفوا على تمام الاستعداد لإلقاء الحجارة و«المونة» التي كانت في أيديهم في الخنادق المحفورة بمجرد ظهور الإشارة لهم بذلك، ولكن قبل أن تحين اللحظة المنتظرة وقع غراب على الحبال الممتدة فدقت الأجراس فظن العمال... أن المنجمين قد أعطوا الإشارة فبدأوا العمل حيث ألقوا ما بأيديهم من طين وحجارة في الأساس وقد صادف هذه اللحظة أن كان كوكب المريخ في الأوج.
ونظراً إلى أن هذا الكوكب يسمى «قاهر الفلك» اعتبر ذلك فألاً غير حسن.
ويظهر من هذه الرواية المضطربة بعض الشيء أن المدينة الجديدة أُطلق عليها أولاً اسم «المنصورية»... حيث لم تعرف باسم القاهرة إلاّ بعد 4 سنوات وذلك حين حضر «المعز» إلى «َمصر» ورأى من قراءاته الخاصة للطالع أن هذه التسمية فأل حسن إذ رأى أن اسم القاهرة مشتق من القهر والظفر فأطلق عليها اسم «القاهرة» .
الخليفة «العزيز بالله»
وبالطبع ورث «العزيز بالله» من والده حبه وشغفه بالنجوم وأخبارها وأحوالها، ومما يروى في ذلك أن «العزيز بالله» صعد المنبر ذات يوم فرأى ورقة كتب فيها : «بالظلم والجور قد رضينا وليس بالكفر والحماقة».
إن كنت أُعطيت علم الغيب فقل لنا كاتب البطاقة «ولم يضف المصدر على ذلك شيئا وعلق بقوله : «هذا ما قيل في دعوى الخلفاء الفاطميين في المقدرة على استكشاف الغيب». ما يدل على أن الخليفة «العزيز بالله» كان يدعي علم الغيب وكشف الحجب عنه ما أثار صاحب هذا الكتاب ودفعه إلى أن يمتحنه بمثل هذه الأبيات ليعرف مدى صدقه.
ويروي «المقريزي» عن شغف الخلفاء الفاطميين، بأمور التنجيم و الطلاسم السحرية أنه اطلع على كتاب عتيق عنوانه «وصية الإمام العزيز بالله لولده الحاكم بأمر الله» يتناول فيه مؤلفه ذكر الطلاسم المختلفة التي رُصدت على أبواب القصر الفاطمي، وما أودع فيه من القوة الروحانية لقهر الأعداء وسحق المنافقين.
وينقل لنا «المقريزي» أيضاً قصة طلسم وجد أيام الظاهر «بيبرس» في بناء بعض أبواب القصر الفاطمي القديم، وهو عبارة عن كتابات باللغة القبطية القديمة، لمّا ترجمت وُجد أنها طلسم صنع «للظاهر» بن الحاكم وبه رُقى وعزائم ودعاء إلى الله بحراسة مصر وثغورها وصرف كيد الأعداء عنها .
الحاكم بأمر الله
يعتبر عهد «الحاكم بأمر الله» ذروة الغموض في تاريخ مصر الإسلامية، وكانت شخصيته من أعجب ما عرف التاريخ ؛ شخصية يحيط بها الغموض من كل ناحية وتثير من حولها الدهشة في كل تصرفاتها العامة والخاصة ولازمها هذا الغموض في الدنيا و الآخرة حيث غادر العالم في ظروف كالأساطير.
وأرجع البعض ذلك بسبب خريطة طالع ولادته حيث ولد ليلة الخميس... 15 من شهر أغسطس. والطالع من السرطان 27 درجة، والشمس في برج الأسد على 25 درجة، والقمر بالجوزاء على 21 درجة 25 وزحل بالعقرب على 24 درجة والمشتري بالميزان على ثماني درجات، والمريخ بالميزان على 13 درجة، والزهرة بالميزان على 19 درجة، وعطارد بالأسد على 10 درجات، والرأس بالدلو على 5 درجات.
وكان ذهن «الحاكم» الهائم كأسلافه أشد ما يكون شغفاً بقراءة النجوم واكتشاف الغيب، وقد أنشأ بفلاة المقطم منزلاً خاصا يخلو به، ومرصداً يرصد منه النجوم، وقد كان يكثر الخروج ليلاً إلى ربى المقطم، ويقرأ النجوم ويهيم في قراءتها، وليس أدل على ذلك من أنه - حسبما تقول الرواية - خرج إلى الجبل ليلة اختفائه يدفعه الوقوف على أمر في طالعه نبأته به الكواكب. وللرواية في ذلك طائفة من الأساطير.
منها أنه كان يخدم زحل وطالعه المريخ، ويسفك الدماء تقرباً إليه، وأن الشيطان كان يتشبه له في صورة هذا الكوكب، ويخاطبه في أمور كثيرة، وأنه من أجل ذلك لبس الصوف الأسود وأطلق شعره حتى تدلى على كتفيه، وجنح للزهد والتقشف.
وفي هذه الأساطير ما يفصح عما كان يغمر هذه الشخصية من ألوان الغموض المثير، والظاهر أن «الحاكم» كان يعمل على زيادة هذا الغموض المحيط بشخصيته، ومن ذلك أنه رتب عصبة بارعة من الجواسيس الذين يرفعون له أخبار الناس، وما يقع في أنحاء مصر وبين الأسر من خفىّ الحوادث والأسرار، فكان وقوفه على هذه الأنباء الخفية ما يثير الدهشة ويحمل البسطاء على الاعتقاد في خارق مقدرته.
وكان «الحاكم» يشجع الفلكيين والمنجمين ويغدق عليهم عطاءه، ولكن الظاهر أن التطلع إلى مدارك الغيب وصل في سنة 404هـ إلى حد من الإغداق الذي ينذر بالفوضى، وخشي «الحاكم» من عواقب هذا الشغف بالتنجيم وسيطرة المنجمين على عقول الكافة... فأصدر سجلا بتحريم صناعة التنجيم والكلام فيها وأن ينفى المنجمون من المملكة، وقد استغاث المنجمون بقاضي القضاة فعقد لهم التوبة من هذه الصناعة المريبة، وأُعفوا من قرار النفي.
ثم كان اختفاء الحاكم في تلك الظروف الغامضة، وانعدام كل أثر يدل على مصيره، كان عاملاً جديداً في إذكاء شغف الخلفاء، والتطلع إلى ما وراء الغيب، وإذكاء الدعوات التي اتخذت من هذا الاختفاء مستقى جديداً لمزاعمهم وأساطيرهم.
قراءة المصير
«من يعرف الحيوان يعرف الإنسان، ومن يفهم الإنسان يفهم الله ... ومن السهل أن نعرف الحيوان ومن الصعب أن نفهم الإنسان، ومن الأصعب أن ندرك الله»... أليست كل العلوم إلا محاولات من أجل أن نعرف شيئا عن أشياء كثيرة في الأرض أو تحت الأرض، في نفوسنا أو خارج نفوسنا.
هذا الرأي للكاتب المصري أنيس منصور قد يكون تفسيرا ما للمحاولات العديدة التي يقوم بها البشر لمعرفة أقدارهم بقراءة مصيرهم في عالم الغيب ليكتشفوا أنفسهم قبل اكتشاف ما حولهم.
هذا اللغز الذي يعلم الإنسان أنه على نفسه بصيرة، ولكن البصيرة أمر مستتر يحتاج لصفاء حقيقي، ومصالحة مع النفس لنكتشف لماذا كتب علينا ما هو مكتوب، أليس للإنسان ما سعى لنتأكد أننا قادرون على مواجهة مصائرنا، ألم يخبرنا المولى عز وجل أنه لا يحمل نفسا إلا وسعها ؟ لذلك يمكننا معرفة ما هو مكتوب دون اللجوء إلى أي عرافين أو منجمين فكل منا هو أبصر خلق الله بنفسه... وبطالعه... وما علينا سوى اتباع أقدارنا ومصائرنا دون خوف.
دائما نخشى الغيب... فهو البوابة السحرية لمعرفة أقدارنا نحن البشر التائهين، نعرف أننا سنرحل، ولكن لا نعرف كيف؟ ومتى؟، ولا نملك من حطام دنيانا بخلاف اللحظة الحالية شيئا.
لذلك يلجأ بعضنا لمعرفة أقدارهم وطوالعهم عن طريق المتنبئين والفلكيين، أو عن طريق الدجالين والمشعوذين.
وثبت في أذهاننا أن هؤلاء المهتمين بهذا «العالم الخرافي»... هم أشخاص يفتقدون للثقافة الكافية والمعرفة... أوهم ممن يعيشون في القرى والمناطق العشوائية... حيث ارتبط الدجل والشعوذة بضعاف النفوس الذين لا يستطيعون مواجهة مصائرهم، وأقدارهم.
لذلك كان من أكثر الأمور غرابة... هو اكتشاف مدى تعلق أصحاب السلطة من السياسيين المرموقين على مر العصور، وكذلك مشاهير الفن والرياضة والأدب، وغيرها، بتلك العلوم.
حتى إن الكثير من الأمراء والملوك... كان لديهم «مُنَجم» أو أكثر مرتبط بقصورهم مثل لورنزو منجم دوق فلورنسة، وتيموبراهة منجم إمبراطور النمسا، وإليزابيث تيسية المستشارة الروحية للرئيس الفرنسي الأسبق ميتران.
إضافة إلى أن هناك الكثير من المنجمين «المشاهير طبعا» الذين ارتبطت أسماؤهم بالملوك.
كما اهتم ملوك وأمراء العرب بتلك العلوم، ومن أشهر هؤلاء الأمراء أبو جعفر المنصور العباسي... حيث كان لا يصدر أمرا إلا باستشارة نوبخت والفزاري.
الدجل... في حياة المشاهير... في جميع المجالات... ومن خلال التقليب في كثير من الأوراق والحكايات والأساطير القديمة والحديثة... تعددت أسبابه... وتنوعت أدواته.
فهناك من أراد أن يحصل على كسب اقتصادي... أو منفعة سياسية... أو المبارزة على منصب وجاه... حتى إن الأمر ولايزال مستخدما في أجهزة استخباراتية، وفي انتخابات رئاسية في دول كبرى... وفي حكايات وارتباطات المشاهير بالدجل... مفاجآت كثيرة... في السطور التالية... كثير من بينها.
إذا كان التنجيم وقراءة الطالع وكشف الغيب و ستر الأرواح... عالما استهوى الكثير من مشاهير الحكم والسياسة من الملوك والأمراء على مر العصور المختلفة وجميع الممالك المختلفة... حتى انهم رفعوا من شأن هؤلاء الدجالين والعرافين حتى أصبحوا هم الحكام الفعليون لتلك الممالك كما أوضحت الحلقات السابقة.
والعرب قبل الإسلام لهم علاقة بسيطة بعالم التنجيم والعرافة، ولم تكن هناك علوم خاصة بدراسة الفلك وحركة الكواكب... بل اقتصرت معرفتهم حول التنجيم بمفهوم التنبؤ بالمستقبل والتطلع إلى معرفة الغيب والمجهول.
وعلى الرغم من المرجع الديني الإسلامي حول علوم التنجيم وقراءة الطالع لمعرفة الغيب، إلا أنه عندما أتى الإسلام نهض هذا العلم نهضة كبيرة... حيث كان للمسلمين الفضل في اكتشاف الكثير من النجوم والكواكب والتي مازالت حتى اليوم تحمل أسماءً عربية.
كما أن الكثير من المصطلحات العربية في علم الفلك مازالت مستعملة حتى اليوم وهي تزيد على 150 مصطلحا و اسما.
ومن أهم العصور العربية الإسلامية التي اهتمت بعلوم التنجيم «العصر الفاطمي»... حيث لعب التنجيم الدور الأهم في حياة الخلفاء الفاطميين، بل أصبح صاحب الكلمة الأخيرة في اتخاذ قراراتهم، لدرجة أن بعض الخلفاء الفاطميين كانوا منجمين يقرأون الطوالع مثل «المعز لدين الله الفاطمي»، وولده «العزيز بالله».
كما أن المنجمين خلال العصر الفاطمي كانوا فئة من موظفي الدولة وكان الخلفاء يستشيرونهم في كثير من أحوالهم الإدارية والسياسية... فإذا خطر لهم عمل وخافوا عاقبته استشاروا المنجمين فينظرون في حال الفلك والكواكب، ثم يشيرون إلى موافقة ذلك العمل أو عدمه.
منجم وقارئ للطالع
كان الخليفة «المعز لدين الله» الفاطمي... شغوفاً برصد النجوم واستقراء ما وراءها من الأحداث فيقول عنه أبو الفدا: «كان مغرماً بالنجوم ويعمل بأقوال المنجمين».
ويروى أن المعز وقف أثناء مباحثة في استقراء النجوم و الطوالع على قطع في طالعه، يقتضي اختفاؤه عن وجه الأرض حولاً كاملاً، فنزل فعلاً على إشارة النجوم، فاستخلف ولده «العزيز» على العرش، ثم اختفى تحت الأرض في سرداب صنعه لذلك، واستمر في اختفائه سنة كاملة.
وكان المغاربة وهم أولياء الدولة الفاطمية إذا رأوا غماماً سائراً، ترجل الفارس منهم إلى الأرض، وأومأ بالسلام يشير إلى أن «المعز» فيه ثم خرج «المعز» بعد اختفائه، وقد أحاط به سياج من الرهبة والخشوع .
ومن المواقف الأخرى التي توضح دور التنجيم في حياة «المعز» أنه عندما عزم على دخول مصر مرض قائده «جوهر الصقلي» مرضاً شديداً ويئس الأطباء من شفائه ولكن «المعز - وهو الخبير بالتنجيم - قرأ الطالع وتنبأ بشفائه ودخوله مصر فقال وهو يودعه أمام جميع شيوخ كتامة: «والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر، وليدخلنّ مصر بالأردية من غير حرب، ولينزلنّ خرائبا ابن طولون، ويبني مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا».
وقد كان « المعز» مهتما بالعلوم والثقافة لاسيما علوم الفلك والتنجيم . يدل على ذلك قول النعمان الفقيه المغربي: « إن المعز قد نظر في كل فن، وبرع في كل علم، وإن تكلم في كل فن منها أربى على المتكلمين، أما علم الباطن ووجوهه فهو بحره الذي لا تخاض لجّته ولا يدرك آخره، أما الطب والهندسة وعلم النجوم والفلك والفلسفة، فأهل النفاذ في كل فن من ذلك عيال في يديه، وكلهم في ذلك عيال عليه».
وكان أيضا شغوفا بكتب النجوم... خاصة، حتى كان يجد في ذلك لذة وفخراً يصغر أمامها جاه الخلافة... أنظر وهو يقول : «إني لأجد من اللذة والراحة والمسرة في النظر في النجوم ما لو وجده أهل الدنيا لأطرحوها لها، ولولا ما أوجب الله سبحانه علىّ من أمور الدنيا لأهلها، وإقامة ظاهرها ومصالحهم فيها لرفضتها بالتلذذ بالنجوم والنظر فيها».
الفاطميون... ومصر
و«المعز لدين الله»... كانت أعز أمنية يصبو إليها في حياته هي أن يفتح «مصر»، وفي سبيل تحقيق هذه الأمنية شرع في جمع الأموال، وقضى سنتين في حفر الآبار وإقامة الاستراحات على طول الطريق إلى الإسكندرية .
وهكذا استعد المعز لدين الله الفاطمي لدخول مصر... هذا الحدث الأهم على مدار حياته، والأسباب التي دفعت المعز لغزو «مصر» كما أوضح المستشرق الهولندي «دي خويه» أنها كلها أسباب تتعلق بالتنجيم ويبين ذلك أن الذي دفع «المعز» إلى التفكير في غزو «مصر» هو التقاء كوكب المشتري بزحل في برج الحمل سنة 356 للهجرة (976م ).
وليدعّم رأيه هذا أشار «دي خويه» إلى كتب «عبيد الله» - الذي أصبح فيما بعد الخليفة عبيد الله المهدي أول خلفاء الدولة الفاطمية - عن التنجيم والعلوم الخفية التي سرقت منه بالقرب من طاحونة أثناء فراره إلى أفريقيا التي استردها الخليفة القائم أثناء حملته الفاشلة على مصر.
ويذكر المقريزي... أن هذه الكتب كانت تحتوي على النبوءة التي شاعت وقتئذ وهي أن حكم العرب لبلاد المغرب سينتهي بانتهاء القرن الثالث الهجري . وقيل إن هذه النبوءة كانت مبنية على التقاء كوكب زحل بالمشتري في برج الحمل سنة ست وخمسين وثلاثمئة للهجرة ( 908 م ) وهي السنة التي شهدت فعلاً سقوط «الأغالبة» وظهور دولة الفاطميين وبدء حكمهم في القيروان.
ومن المعروف أن الفاطميين كانوا يتوقعون بداية عهد جديد هو عهد الدين الحق الذي يقترن بتغيرات فلكية تحدث سنة ست عشرة وثلاثمئة للهجرة ( 928 م ). لذلك يرجح «دي خويه» أنه من المحتمل أن قيام الدولة الفاطمية قد جعل المعز - وهو الضليع بعلم التنجيم يختار سنة ست وخمسين وثلاثمئة للهجرة لإعداد حملته على مصر لأسباب تتصل وتتعلق بالتنجيم أيضاً - إذ إنه في هذا العام يلتقي زحل بالمشتري في برج الحمل.
التنجيم وبناء القاهرة
في مساء اليوم الذي وصل فيه «جوهر الصقلي» إلى الفسطاط حيث عسكر شمالها موقع «جنان كافور» اختار موقع القصر الذي قرر أن ينزل فيه « المعز»، وبنى «جوهر» سوراً خارجيا حول القاهرة - العاصمة الجديدة - على شكل مربع طول ضلعه 1200م.
وأصدر «جوهر» أوامره إلى المنجمين فجمعهم وطلب منهم أن يختاروا طالعاً سعيداً لتأسيس المدينة حتى لا تتعرض دولة الفاطميين لمتغلب يسلبها منهم فحفروا الخنادق لبناء أسس الأسوار وجعلوا بدائر السور قوائم من الخشب وقد رُبط بين كل قائمين حبل وعلقت على هذه الحبال أجراس وكان المتفق عليه أنه عندما تحين اللحظة المناسبة يرسل المنجمون إشارة لبدء العمل.
وأبلغ المنجمون العمال أن يقفوا على تمام الاستعداد لإلقاء الحجارة و«المونة» التي كانت في أيديهم في الخنادق المحفورة بمجرد ظهور الإشارة لهم بذلك، ولكن قبل أن تحين اللحظة المنتظرة وقع غراب على الحبال الممتدة فدقت الأجراس فظن العمال... أن المنجمين قد أعطوا الإشارة فبدأوا العمل حيث ألقوا ما بأيديهم من طين وحجارة في الأساس وقد صادف هذه اللحظة أن كان كوكب المريخ في الأوج.
ونظراً إلى أن هذا الكوكب يسمى «قاهر الفلك» اعتبر ذلك فألاً غير حسن.
ويظهر من هذه الرواية المضطربة بعض الشيء أن المدينة الجديدة أُطلق عليها أولاً اسم «المنصورية»... حيث لم تعرف باسم القاهرة إلاّ بعد 4 سنوات وذلك حين حضر «المعز» إلى «َمصر» ورأى من قراءاته الخاصة للطالع أن هذه التسمية فأل حسن إذ رأى أن اسم القاهرة مشتق من القهر والظفر فأطلق عليها اسم «القاهرة» .
الخليفة «العزيز بالله»
وبالطبع ورث «العزيز بالله» من والده حبه وشغفه بالنجوم وأخبارها وأحوالها، ومما يروى في ذلك أن «العزيز بالله» صعد المنبر ذات يوم فرأى ورقة كتب فيها : «بالظلم والجور قد رضينا وليس بالكفر والحماقة».
إن كنت أُعطيت علم الغيب فقل لنا كاتب البطاقة «ولم يضف المصدر على ذلك شيئا وعلق بقوله : «هذا ما قيل في دعوى الخلفاء الفاطميين في المقدرة على استكشاف الغيب». ما يدل على أن الخليفة «العزيز بالله» كان يدعي علم الغيب وكشف الحجب عنه ما أثار صاحب هذا الكتاب ودفعه إلى أن يمتحنه بمثل هذه الأبيات ليعرف مدى صدقه.
ويروي «المقريزي» عن شغف الخلفاء الفاطميين، بأمور التنجيم و الطلاسم السحرية أنه اطلع على كتاب عتيق عنوانه «وصية الإمام العزيز بالله لولده الحاكم بأمر الله» يتناول فيه مؤلفه ذكر الطلاسم المختلفة التي رُصدت على أبواب القصر الفاطمي، وما أودع فيه من القوة الروحانية لقهر الأعداء وسحق المنافقين.
وينقل لنا «المقريزي» أيضاً قصة طلسم وجد أيام الظاهر «بيبرس» في بناء بعض أبواب القصر الفاطمي القديم، وهو عبارة عن كتابات باللغة القبطية القديمة، لمّا ترجمت وُجد أنها طلسم صنع «للظاهر» بن الحاكم وبه رُقى وعزائم ودعاء إلى الله بحراسة مصر وثغورها وصرف كيد الأعداء عنها .
الحاكم بأمر الله
يعتبر عهد «الحاكم بأمر الله» ذروة الغموض في تاريخ مصر الإسلامية، وكانت شخصيته من أعجب ما عرف التاريخ ؛ شخصية يحيط بها الغموض من كل ناحية وتثير من حولها الدهشة في كل تصرفاتها العامة والخاصة ولازمها هذا الغموض في الدنيا و الآخرة حيث غادر العالم في ظروف كالأساطير.
وأرجع البعض ذلك بسبب خريطة طالع ولادته حيث ولد ليلة الخميس... 15 من شهر أغسطس. والطالع من السرطان 27 درجة، والشمس في برج الأسد على 25 درجة، والقمر بالجوزاء على 21 درجة 25 وزحل بالعقرب على 24 درجة والمشتري بالميزان على ثماني درجات، والمريخ بالميزان على 13 درجة، والزهرة بالميزان على 19 درجة، وعطارد بالأسد على 10 درجات، والرأس بالدلو على 5 درجات.
وكان ذهن «الحاكم» الهائم كأسلافه أشد ما يكون شغفاً بقراءة النجوم واكتشاف الغيب، وقد أنشأ بفلاة المقطم منزلاً خاصا يخلو به، ومرصداً يرصد منه النجوم، وقد كان يكثر الخروج ليلاً إلى ربى المقطم، ويقرأ النجوم ويهيم في قراءتها، وليس أدل على ذلك من أنه - حسبما تقول الرواية - خرج إلى الجبل ليلة اختفائه يدفعه الوقوف على أمر في طالعه نبأته به الكواكب. وللرواية في ذلك طائفة من الأساطير.
منها أنه كان يخدم زحل وطالعه المريخ، ويسفك الدماء تقرباً إليه، وأن الشيطان كان يتشبه له في صورة هذا الكوكب، ويخاطبه في أمور كثيرة، وأنه من أجل ذلك لبس الصوف الأسود وأطلق شعره حتى تدلى على كتفيه، وجنح للزهد والتقشف.
وفي هذه الأساطير ما يفصح عما كان يغمر هذه الشخصية من ألوان الغموض المثير، والظاهر أن «الحاكم» كان يعمل على زيادة هذا الغموض المحيط بشخصيته، ومن ذلك أنه رتب عصبة بارعة من الجواسيس الذين يرفعون له أخبار الناس، وما يقع في أنحاء مصر وبين الأسر من خفىّ الحوادث والأسرار، فكان وقوفه على هذه الأنباء الخفية ما يثير الدهشة ويحمل البسطاء على الاعتقاد في خارق مقدرته.
وكان «الحاكم» يشجع الفلكيين والمنجمين ويغدق عليهم عطاءه، ولكن الظاهر أن التطلع إلى مدارك الغيب وصل في سنة 404هـ إلى حد من الإغداق الذي ينذر بالفوضى، وخشي «الحاكم» من عواقب هذا الشغف بالتنجيم وسيطرة المنجمين على عقول الكافة... فأصدر سجلا بتحريم صناعة التنجيم والكلام فيها وأن ينفى المنجمون من المملكة، وقد استغاث المنجمون بقاضي القضاة فعقد لهم التوبة من هذه الصناعة المريبة، وأُعفوا من قرار النفي.
ثم كان اختفاء الحاكم في تلك الظروف الغامضة، وانعدام كل أثر يدل على مصيره، كان عاملاً جديداً في إذكاء شغف الخلفاء، والتطلع إلى ما وراء الغيب، وإذكاء الدعوات التي اتخذت من هذا الاختفاء مستقى جديداً لمزاعمهم وأساطيرهم.
قراءة المصير
«من يعرف الحيوان يعرف الإنسان، ومن يفهم الإنسان يفهم الله ... ومن السهل أن نعرف الحيوان ومن الصعب أن نفهم الإنسان، ومن الأصعب أن ندرك الله»... أليست كل العلوم إلا محاولات من أجل أن نعرف شيئا عن أشياء كثيرة في الأرض أو تحت الأرض، في نفوسنا أو خارج نفوسنا.
هذا الرأي للكاتب المصري أنيس منصور قد يكون تفسيرا ما للمحاولات العديدة التي يقوم بها البشر لمعرفة أقدارهم بقراءة مصيرهم في عالم الغيب ليكتشفوا أنفسهم قبل اكتشاف ما حولهم.
هذا اللغز الذي يعلم الإنسان أنه على نفسه بصيرة، ولكن البصيرة أمر مستتر يحتاج لصفاء حقيقي، ومصالحة مع النفس لنكتشف لماذا كتب علينا ما هو مكتوب، أليس للإنسان ما سعى لنتأكد أننا قادرون على مواجهة مصائرنا، ألم يخبرنا المولى عز وجل أنه لا يحمل نفسا إلا وسعها ؟ لذلك يمكننا معرفة ما هو مكتوب دون اللجوء إلى أي عرافين أو منجمين فكل منا هو أبصر خلق الله بنفسه... وبطالعه... وما علينا سوى اتباع أقدارنا ومصائرنا دون خوف.