مشهد / على كرسي الحكم

u062f. u0632u064au0627u062f u0627u0644u0648u0647u0631
د. زياد الوهر
تصغير
تكبير
هل جربت أخي القارئ ذات يوم أن تجلس على كرسي الحكم والرئاسة؟ هل تعرف طعم هذا الشعور؟ هل تعتقد بأنك إن فعلت سيمنحك الكرسي القوة والجبروت والسلطة المطلقة؟ لا بأس إن كانت إجابتك بالنفي، فليس هذا أمرا معتادا في بلادنا العربية، ولكني والحمدلله قد خضت هذه التجربة فعلاً، وأستطيع أن أنقل لك ما حدث معي بالضبط بكافة التفاصيل المتاحة.

ففي زيارة خاصة للجمهورية التونسية، تلك الدولة التي تعانق البحر الأبيض المتوسط فيتورد خده من شدة جمالها، فنسيمها عليل يشفي الجروح وبيوتها البيضاء يخالطها القليل من اللون الأزرق الزمردي تبعث رسالة لكل من يرتاد تلك البلاد بأن أهلها من عشاق الحياة وصناع الجمال.

في تلك الزيارة الميمونة والتي كانت زيارة خاصة جدا تخللها بعض أوقات الفراغ التي أحسنت استغلالها بالذهاب إلى عدة مواقع سياحية في كلٍ من مدينة تونس العاصمة وسوسة والمنستير.

تعتبر مدينة المنستير مدينة سياحية من الطراز الأول وتحاكي بجمالها مدينة نيس الفرنسية التي تقع على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، فعلى طول الشاطيء تمتد الشاليهات البحرية الجميلة ويتهادي البحر أمامها بأمواجه الهادرة ولونه الفيروزي الفريد من نوعه.

ولمن لا يعلم فإن هذه المدينة هي مسقط رأس الرئيس الراحل الحبيب بو رقيبة مؤسس الدولة في العام 1957 ورائد ثورتها وصانع نهضتها الحديثة، وتستطيع أن تلمس محبة أهلها لهذا الزعيم من تماثيله المنتشرة في الميادين والساحات الرئيسية في المنستير، بالإضافة إلى قصره الذي تم تحويله لمتحف يرتاده السياح من كل أرجاء تونس وخارجها.

اصطحبني الأهل والأصدقاء في رحلة إلى قصره المجاور للبحر وقد كان هذا القصر منزله الذي يقطنه هو وعائلته، ففيه غرف نومه ونوم بناته، وفي مدخله وضعت سيارته الرئاسية المرسيدس السوداء محافظة على حلتها وكأنها صنعت بالأمس.

وأثناء الجولة وصلت إلى إحدى الغرف التي كان يستعملها الحبيب بو رقيبة في إدارة دفة الحكم في البلاد عندما كان يتوجه إلى مسقط رأسه، وكانت هذه الغرفة عبارة عن مكتبه الشخصي الذي يتوسط الغرفة وبجواره كرسي الرئيس.

كان الكرسي لا يختلف كثيرا عن الكراسي التي نستعملها نحن يوميا إلا بشيئين، الأول هو أن هذا الكرسي قديم نسبيا، وثانيا أنه كرسي الحاكم وقائد الثورة التونسية الذي أطيح به بانقلاب أبيض من زين العابدين بن علي والذي أطيح به هو الآخر لاحقاً، فكان أول ضحية من ضحايا الربيع العربي سيء الذكر.

قررت في داخلي أن أجلس على الكرسي وتلفّتُ ذات اليمين وذات الشمال خشية أن يشاهدني أحد الحراس، وتقاذفتني مشاعري وتسارع نبضي ونفر العرق من جبيني خوفا من الجلوس على الكرسي فيحدث ما لا يحمد عقباه، فهذه تجربة لا يعرفها العبد لله كاتب المقال فهو من عامة الشعب العربي ولم يكن من خاصته مطلقا.

بصراحة ترددت كثيرا حتى دفعني فضولي العربي الأصيل في أن أمتطي هذا الجواد وأترك له الخيار في أن يقودني أينما يشاء... وما أن جلست حتى انتابني شعور العظمة والقوة، وتبدى الناس أمامي أقزاما بين عبيد وأتباع، كيف لا وأنا الآمر الناهي والحاكم المطلق، أنا الذي اختارني الله لهذه المهمة التي لا يصلح لها إلا الرجال من أولي العصبة. إحساس فريد لا يعرفه إلا القلة ممن سلطهم الله على رقاب أهل الأرض في شرقها وغربها فمنهم من يحسن القيادة فينعم شعبه بالرخاء ومنهم من يستعبدهم فيعيث في الأرض فسادا ويكون نقمة على البلاد والعباد.

كل هذه المشاعر تجسدت في عقلي وقلبي في ثوان معدودات.. وتذكرت لحظتها مقولة السفاح الحجاج بن يوسف الثقفي حين قال ذات يوم لأهل الكوفة:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني

كيف لا أشعر بذلك وتجربة الحكام ماثلة أمامي وأمامكم فما أن يجلس أحدهم على الكرسي حتى ينقلب حاله ويتحول إلى شخص لا يعرفه شعبه ويتملكه إحساس الفوقية على من كانوا ذات يوم سندا له في ثورته وحربه ضد الأعداء.

ولطالما قرأت في كتب النفس أن الإنسان سيد نفسه وهو الحاكم بأمره فهو يملك القدرة على السيطرة على تصرفاته وسلوكياته أمام الآخرين وفي جميع حالاته من الغضب والسرور. ولكن بعد أن طالت غيبوبتي وامتدت لثوان معدودات تمكن عقلي أخيرا من السيطرة على مشاعري وانقلب الحال لحال آخر، فلم أجد أن الكرسي يملك تلك القوة التي تدفع الرجال للتضحية بأرواحهم ومستقبلهم لأجله ومنذ بدأت خلافة الإنسان على الأرض وحتى يومنا الحاضر وإلى آخر الزمان.

هي إذا ترهات يتمنطق بها من يعتلون سدة الحكم من أجل سلطتهم المطلقة على المال والأرض والبشر، ومن يقول غير ذلك فعليه أن يسألني أنا المجرب صاحب الأسبقية في الجلوس على مقاعد الزعماء وأحدهم الحبيب بو رقيبة الذي كان له صولات وجولات في تونس وخارجها، كيف لا وهو صاحب القوانين المثيرة للجدل مثل قوانين تحرير المرأة ومنع تعدد الزوجات وحتى الدستور التونسي فهو من وضعه ولا زالت الجمهورية التونسية تعمل بمعظم بنوده حتى الآن.

نعم جلست على الكرسي وشعرت ولو جزئيا بما شعر به بو رقيبة، ولكن للأسف كان كرسياً بلا حول ولا قوة فقد مات مروضه ومالكه الحقيقي.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي