«الراي» تقلّب فصول ملف الجنسية المتشابك مع قضية الاغتراب

لبنان أطلق «حملة كونيّة» لاستعادة انتشاره

تصغير
تكبير
باسيل: كلنا جنود للجنسيّة... كلنا جنود للهوية... كلنا جنود للبنان عدد المهاجرين

عامي 1913- 1914 راوح بين 22.80 و24.64 في المئة من سكان جبل لبنان

بعد صدور مرسوم التجنيس العام 1994 باتت استعادة الجنسية أحد المطالب الرئيسة للأحزاب المسيحية

مَن كانوا يرفضون قانون استعادة الجنسية اعتبروا أن المسيحيين يهدفون منه تحقيق توازن ديموغرافي ليس إلا

جنبلاط طعن به لأنه تضمّن استثناء اعتبر أنه يمسّ الدروز ممّن اختاروا البقاء في سورية أو فلسطين وحصلوا على جنسيتيْهما
لا يمكن الذهاب الى وسط بيروت من دون المرور بتمثال المغترب اللبناني الذي يرتفع عند تقاطع شارع المرفأ ومنطقة الصيفي في العاصمة.

والتمثال الذي أزيح الستار عنه العام 2003، ليس وجهاً عابراً في الحياة اليومية، خصوصاً ان تماثيل مماثلة له مرفوعة في عدد من دول الاغتراب، بل هو يمثل قضية الاغتراب اللبناني الذي يشكل، بعيداً عن القصائد الشعرية التي نُظمت في التعبير عن شوق المغتربين لتراب وطنهم، أحد أهمّ القضايا الأساسية التي طبعت الحياة السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية اللبنانية.

لكن في خريف 2015 اتخذ موضوع المنتشرين اللبنانيين في الخارج منحى مختلفاً بعدما استأثر ملف استعادة الجنسية للمتحدّرين من أصل لبناني بالاهتمام الداخلي وتحول واحداً من الملفات الأساسية التي ساهمت في تزكية الصراعات السياسية في لبنان.

ورغم ان الخلافات الداخلية ليست جديدة على المسؤولين اللبنانيين، حول اي من القضايا المطروحة، الا ان قضية المغتربين، او بحسب التسمية التي صارت معتمدة «المنتشرين» ، كان يفترض ان تكون هَماً مشتركاً وموحِّداً لجهود القوى السياسية، لان هذه القوى لا توافر جهداً ولا خطاباً إلا وتشدد فيه على دور الاغتراب اللبناني في مساعدة لبنان اقتصادياً وفي دعمه في المحافل الدولية لا سيما خلال حربه الطويلة.

وفي أعقاب مسار معقّد، أُقرّ قانون استعادة الجنسية للمتحدّرين من اصل لبناني في نوفمبر الماضي بعدما شكّل مطلباً مسيحياً مزمناً، الى ان أطلق وزير الخارجية جبران باسيل في 5 مايو الجاري (خلال افتتاح مؤتمر الطاقة الاغترابية) رسمياً العمل بتطبيق هذا القانون، معلناً «انها معركتنا للسنوات العشر المقبلة (باعتبار ان القانون حدّد مهلة عشر سنوات اعتباراً من تاريخ سريانه في 2015/11/26 لأصحاب العلاقة كي يتقدّموا بطلباتهم لاستعادة الجنسيّة اللبنانيّة تحت طائلة سقوط حقّهم بالتقدّم بهذه الطلبات)».

وأكد باسيل أمام نحو ألف شخصية اغترابية من 80 دولة «انها ورشة وطنية عالمية نسخر كل السلك القنصلي والديبلوماسي وكل طاقاتنا في الوزارة وفي الدولة للسعي وراء اللبنانيين ليستعيدوا جنسيتهم، ونعيّن في كل مدينة فيها لبنانيين القناصل الفخريين القادرين والمستحقين، ونجنّد من اجلها «جنود الجنسية Libanity soldiers»، داعياً الى «الالتحاق - بسلك الجنسية اللبنانية - الذي نعلن انشاءه ممن يرغب منكم ويقدر على تجنيس اللبنانيين، فيكون في جيشنا ويترقى مع اوسمة كلما جنّس Libanity Cavalier & Libanity Commandor»، ومعلناً «نطلب منكم التسجل اليوم في مركز الـ MoFA في المؤتمر دعماً لهذه الحملة في المحافظة على لبنان. فكلنا جنود للجنسيّة، كلنا جنود للهوية، كلنا جنود للبنان».

ومع عودة قضية استعادة الجنسية الى الواجهة، تقلّب «الراي» مراحل هذا الملف الذي يتداخل في شكل عضوي مع قضية الاغتراب الذي يشكّل فصلاً أساسياً في تاريخ لبنان الحديث والقديم على السواء، لانه كان المتنفّس المالي والاقتصادي للعائلات اللبنانية، وتَحوّل قيمة حقيقية في البلدان التي هاجر اليها اللبنانيون وتبوأوا فيها مناصب عالية في المجالات كافة.

والواقع ان عبارة «لبنان بجناحيْه المقيم والمغترب»، التي تحوّلت لازمةً دائمة في الخطب السياسية، لم تكن يوماً سوى تأكيد على ارتباط لبنان باللبنانيين او المتحدّرين من أصل لبناني، والمنتشرين في مختلف دول العالم.

واذا كانت الهجرة اللبنانية قديمة، إلا انها تركزت منذ قرن تقريباً، لا سيما إبان الاحتلال العثماني للبنان. علماً ان لبنان الذي يحتفل بمئوية المجاعة التي أودت بحياة الآلاف من اللبنانيين جوعاً خلال حرب العام 1914، يستعيد ايضاً ذكريات المهاجرين الذين ارتفع عددهم في شكل مركّز في تلك المرحلة.

والعودة الى تلك المرحلة ضرورية، لان ما حصل فيها هو في صلب أيّ تأريخ لمرحلة الهجرة وتأثيراتها على لبنان، قبل الاستقلال وبعده، وصولاً الى الفترة التي شهدت إقرار قانون استعادة الجنسية، والطعن الذي قدّمته كتلة النائب وليد جنبلاط النيابية به الى المجلس الدستوري (الذي عاد وردّ الطعن).

أوّل موجات الهجرة الأساسية كانت من جبل لبنان، علماً انه في تلك المرحلة لم يكن لبنان دولة قائمة بذاتها، بل كان جبل لبنان متصرفية واقعة تحت الحكم التركي، وبسبب ظلم هذا النظام والجوع الذي ضرب المئات من العائلات، بدأ النزوح الى خارج لبنان يأخذ مداه، حتى وصل بحسب إحصاءات شبه رسمية الى نصف عدد سكان جبل لبنان. في حين ذكر الدكتور عبدالله الملاح في كتاب «الهجرة من متصرفية جبل لبنان 1861-1918» ان عدد المهاجرين بين 1913- 1914 بلغ بين 22.80 في المئة الى 24.64 في المئة من سكان جبل لبنان.

وقد تركزت الهجرة في جبل لبنان بشكل يختلف بحجمه وتأثيراته عن الهجرة التي توالت في صورة خفيفة في الأقضية المحلقة بلبنان في تلك المرحلة. وهذا يعني ان بداية الهجرة اللبنانية الأولى كانت ذات طابع مسيحي لان جبل لبنان في تلك المرحلة كان في غالبيته مؤلفاً من المسيحيين والموارنة تحديداً الذين عانوا من الاحتلال العثماني والمجاعة التي أودت بحياة الآلاف منهم.

ويقول مؤلف كتاب «الانتشار الماروني واقع ومرتجى 1840-2010» الصادر عن جامعة اللويزة جوزف لبكي ان «الهجرة المارونية هي الأهمّ والأكبر في لبنان منذ النصف الاول من القرن التاسع عشر وحتى اليوم».

تَنوّعت أسباب الهجرة لاحقاً، مع زوال الاحتلال العثماني، والانتداب الفرنسي والاستقلال ، فتحوّلت الهجرة علمية واقتصادية للبحث عن فرص عمل، او الالتحاق بالعائلات التي سبق ان هاجرت. وتدريجاً بدأت معالم المجموعات اللبنانية تتركز في بلدان اميركا الجنوبية في شكل شبه كامل، واوستراليا وأميركا الشمالية وأوروبا.

واذا كانت الهجرة القديمة تركزت في دول القارتين الأميركية والاوروبية، فان الهجرة الحديثة التي شهدها لبنان قبل حرب 1975 وبعدها تركزت ايضاً في افريقيا واوروبا اضافة الى المغتربات التي باتت تقليدية في المفهوم اللبناني. اما الهجرة الى الدول العربية فلم تكن هجرة بالمعنى العلمي بقدر ما هي اغتراب اقتصادي وعلمي فحسب. وكما تنوّعت بلاد الاغتراب، تنوّعت ايضاً هوية المهاجرين، فعمّت الهجرة جميع الطوائف المسيحية والإسلامية.

لا توجد إحصاءات دقيقة عن أرقام اللبنانيين المنتشرين في الخارج. وإذا كانت بعض الأرقام تتحدث عن ملايين اللبنانيين في الاغتراب، كمثل الكلام عن عشرة ملايين في البرازيل وثلاثة ملايين في أميركا الشمالية،، فإن لا إحصاء دقيقاً يمكن اللجوء اليه كمستند، بل ان كل الجمعيات والهيئات والمؤسسات التي تعنى بشؤون الاغتراب تطالب دائماً بأن تتولى الأجهزة الرسمية اللبنانية القيام بمثل هذا الإحصاء.

وبالرغم من ان استعادة المتحدّرين من اصل لبناني الجنسية اللبنانية كانت من المطالب الأساسية التي تطرحها القوى السياسية والمنظمات الاغترابية، لكنها لم تشكل عامل ضغط قوياً خصوصاً قبل الحرب اللبنانية. علماً انه كان يحق لرئيس الجمهورية منْح الجنسية بمرسوم لمن قدّم خدمات لبلده الأمّ، ولمَن كان يطالب باستعادة الجنسية.

ولم تتحوّل المطالبة باستعادة الجنسية لدى الأحزاب المسيحية، أحد المطالب الرئيسية، إلا بعد مرسوم التجنيس الذي صدر العام 1994 في عهد الرئيس (الراحل) الياس الهراوي وحمل توقيعه وتوقيع رئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري، والذي أعطى الجنسية اللبنانية لعشرات الآلاف بينهم من غير المستحقين، وأحدث خللاً ديموغرافياً وطائفياً فائقاً بعدما تبيّن ان اكثر من 90 في المئة من الذين نالوا الجنسية ينتمون الى الطوائف الاسلامية ولا سيما الى الطائفة السنية.

وتقّدمت الرابطة المارونية بطعن بالمرسوم لكن الطعن بقي معلّقا ولم يُبت به، علماً انه جرى البحث بعدما أثيرت ضجة سياسية كبيرة حول المرسوم في إصدار ملحق به لتعديل الميزان الطائفي وتجنيس المتقدمين بالطلبات من المسيحيين فحسب، لكن الملحق لم يصدر ايضاً.

بعد 1994 أعدّ النائب نعمة الله ابي نصر مشروعاً لاستعادة المتحدرين من اصل لبناني جنسيتهم، وبدأ الصراع على المشروع منذ ذلك الوقت. الرافضون للمشروع برّروا رفضهم بأنه يخدم المسيحيين فحسب وان المسيحيين يهدفون الى تحقيق توازن ديموغرافي ليس إلا. والمسيحيون لطالما اعتبروا ان المشروع يحقق فائدة لجميع المتحدّرين من اصل لبناني، على مستويين. الأوّل استعادة مَن يثبت تَحدُّره من لبنان حقه باسترداد الجنسية، والثانية هي ان اللبنانيين خلال الحرب الطويلة وقبلها ونظراً لصعوبة الأعمال الادارية والديبلوماسية بين لبنان ودول الاغتراب فانه لم يتسنّ لهم المطالبة بجنسيةٍ يستحقونها لتَحدُّرهم من عائلات لبنانية.

استمرّ النقاش حول المشروع، سنوات طويلة، ونام في الادراج بفعل الأحداث الأمنية والسياسية التي عصفت بلبنان. وقبل نحو سبعة اعوام، أعيد طرح المشروع، لا سيما بعدما انشأت البطريركية المارونية المؤسسة المارونية للانتشار التي تعنى بأحوال المغتربين في العالم. وقد عملت المؤسسة على توسيع حلقت النقاش حول المشروع، وإدخال تعديلات عليه، وبدأ المشروع يشقّ طريقه الى اللجان النيابية المختصة، قبل ان يتحوّل قضية مركزية لدى الأحزاب المسيحية التي حدّدته في نوفمبر 2015 كشرط لعقد جلسة تشريعية التأمت وأقرّت قانون استعادة الجنسية للمتحدّرين من اصل لبناني بعد ما يشبه «المقايضة» بين إمراره مقابل إرجاء بت قانون الانتخابات النيابية الذي شكّل حينها، وما زال، مطلباً ملحاً ثانياً للأحزاب المسيحية (وتحديداً القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر)، ومع تعهُّد زعيم تيار المستقبل الرئيس سعد الحريري بعدم المشاركة في اي جلسة تشريعية اخرى لا تُخصص لطرح قانون الانتخاب.

واستحوذ المشروع قبل ولادته القيصرية في نوفمبر على نقاشات طويلة، لا سيما بين تيار المستقبل والاحزاب المسيحية التي دافعتْ عنه وطالبت بإقراره كما هو. علماً ان احد ابرز نواب المستقبل سمير الجسر كان أبدى سلسلة اعتراضات عليه، قبل ان يوافق على المشروع، وكذلك الأمر النائب وليد جنبلاط الذي كان اعلن رفضه له، فيما هدّد الوزير وائل ابو فاعور بان المشروع لن يمرّ. لكن التسوية السياسية التي أُبرمت من أجل عقد الجلسة التشريعية ادت الى تذليل الاعتراضات وتالياً الى إقرار المشروع الذي ينص على اعطاء الجنسية لكل مَن يطلب الجنسية «إذا كان مدرجاً، هو أو أحد أصوله الذكور لأبيه أو أقاربه الذكور لأبيه حتى الدرجة الرابعة، على سجلات الاحصاء التي أجريت بعد إعلان دولة لبنان الكبير، أي سجلات 1921 و1924 مقيمين ومهاجرين، وسجل 1932 مهاجرين، الموجودة لدى دوائر الأحوال الشخصية في وزارة الداخلية والبلديات، شرط ألا يكون المدرج اسمه قد اختار صراحة أو ضمناً تابعية إحدى الدول التي انفصلت عن السلطنة العثمانية، وفقاً لأحكام المادة 3 من القرار 2825 تاريخ 30-8-1924».

وقد اعتبرت الاحزاب المسيحية ان قانون استعادة الجنسية يساهم في تعميق الصلات بين اللبنانيين المقيمين والمنتشرين الذي يقدمون مساعدات مالية ويمدّون لبنان بالعصَب المالي ويساهمون في صموده واستقراره بفعل التحويلات المالية. وبالنسبة الى هذه الأحزاب لم يكن جائزاً ان يتحول المغتربون مركز استقطاب للأطراف اللبنانية جميعاً، إما لجمع الأموال او للحاجة اليهم عند إجراء الانتخابات واستقدام مَن يحمل الجنسية منهم الى لبنان للاقتراع فيه كل أربعة أعوام.

ولم تنته مسيرة قانون استعادة الجنسية عند إقراره، فجنبلاط تقدّم وكتلة اللقاء الديموقراطي بطعن لدى المجلس الدستوري، بسبب اعتبار جنبلاط «ان المشروع يستثني كل مَن اختار صراحة أو ضمناً تابعية إحدى الدول التي انفصلت عن السلطنة العثمانية»، أي سورية والاردن وتركيا وفلسطين (واسرائيل ضمناً)، معتبراً ان هذا الاستثناء يمسّ الدروز تحديداً الذين اختاروا البقاء في سورية او فلسطين وحصلوا على جنسيات هذه الدول، علماً ان نائب رئيس البرلمان النائب فريد مكاري، اعتبر ان المشروع يستثني ايضاً الروم الارثوذكس الذين كذلك أصبحوا مواطنين في سورية او غيرها من الدول المعنية، اضطراراً. مع الاشارة الى ان الخلفيات الحقيقية للاعتراضات، حسب منتقديها، تكمن في ان نسبة كبيرة من المواطنين الدروز والارثوذكس النازحين من سورية الى لبنان في الأعوام الأخيرة، هم المعنيون بالاستفادة من الجنسية اللبنانية في حال عُدّلت هذه الفقرة بناء على اعتراض جنبلاط.

وبعيد تقديم جنبلاط طلب إبطال قانون استعادة الجنسية، الذي عاد المجلس الدستوري وردّه في يناير 2016 بعدما رأى ان ليس ثمة مسوغاً لوقف العمل به، انبرى قيادي في «التيار الوطني الحر»، هو ناجي حايك، الى مطالبة الكنيسة المارونية بإنزال الحرم الكنسي في حق ثلاثة نواب موارنة في كتلة جنبلاط هم النواب فؤاد السعد وهنري حلو وايلي عون لانهم وقّعوا الطعن النيابي. علماً انه لا تتوافر في عمل هؤلاء الاسباب التي تجعل الكنيسة المارونية تنزل الحرم الكنسي بهم، لكن هذا لا يعني ان مَن تقدم بالطعن لم يكن يهدف حينها الى التشهير بهؤلاء وتوجيه رسالة سياسية اليهم لانهم خالفوا الاجماع المسيحي الذي ادى الى إقرار قانون استعادة الجنسية.

والى الطعن الجنبلاطي، برز حينها ايضاً اعتراض على عدم إعطاء المرأة اللبنانية الجنسية لأولادها، الا ان هذا المشروع عالقٌ عند كون المعترضين عليه من القوى السياسية كافة، بعدما دلّت إحصاءات رسمية ان المستفيدين

من اكتساب الجنسية سيقاربون 400 الف، منهم نحو 85 الفا من آباء فلسطينيين وهذا يتعارض مع الدستور اللبناني الذي يرفض التوطين الفلسطيني في لبنان.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي