«في محترفي الحاضن تتشكل الأحلام وتولد بهدوء»

حوار / حسن جوني لـ «الراي»: أشتبك مع ذاكرتي الممتلئة بالناس

u062du0633u0646 u062cu0648u0646u064a u0641u064a u0645u0631u0633u0645u0647
حسن جوني في مرسمه
تصغير
تكبير
يُقيم الفنان التشكيلي اللبناني حسن جوني في عزلة شبه تامة بالقرب من منارة بيروت القديمة.

ففي مبنى بيروتي طاعن في القدم ويطلّ على أفق شاسع الزرقة، يمارس جوني طقوس فنّه بهدوء وصمت تُكسِبهما موسيقى الأوبرا الخافتة صوراً من حنان وحنين إلى عوالم وأزمنة غابرة.

«الراي» زارت جوني في «صوْمعته» التي ينقطع فيها لريشته وألوانه، وكان لها معه بين أعماله الموزعة في الأرجاء الحوار الآتي:

• أنت جار المنارة القديمة منذ ما يفوق الـ 35 عاماً، ماذا أعطتك هذه الإقامة وفي المقابل ما الذي منحتَه أنت للمكان؟ ـ كلما أتى أحدهم على ذكر المنارة يقول إن حسن جوني بالقرب منها، وبالتالي أصبحتْ المنارة عنواناً لهذا المحترف الموجود في رأس بيروت، هذا الحيّ الأجمل في العاصمة، لأنه الأكثر تقدُّماً باتجاه البحر. هذا المكان يتمتع بهدوء عميق، وفي الوقت نفسه هدوء قادر على تحريضي على ابتكار ما لم يكن بالإمكان ابتكاره في مكان آخر. إذاً بالإمكان تسمية هذا المحترف بالمحترف الحاضن، فهنا تتشكل الأحلام وتولد بهدوء ثم تظهر وكأنها آتية من نسيانٍ ما.

• ما هي طقوس الفن في هذه العزلة؟ ـ أحضر إلى هنا عند الثامنة صباحاً، وأغادر عند السادسة والنصف أو السابعة مساء. وعزلتي هنا هي على مرحلتين؛ الأولى هي الانقطاع كلياً عن التلاقي مع الناس إلا وفق مواعيد ضيقة وخاصة جداً ونادرة. أما الطقس العملاني فيبدأ بالوصول إلى المحترف وبدء الاغتسال روحياً من شوائب كانت علقت على حواسي خلال مروري في المسافة بين بيتي خارج بيروت ومحترفي. وهذا الاغتسال ينطلق بإعداد فنجان النسكافيه الذي تغنيني أحياناً رائحته عن تناوله شرباً.

• لأنها تؤثر بالحواس؟ ـ تساعد الحواس على التمدد باتجاه الحنين. وأنا أبدأ نهاري بسماع سور قرآنية أولاها سورتا الرحمن ومريم. وهاتان السورتان أسمعهما يومياً بأربعة أصوات مختلفة. وبعد الفراغ من سماع هذه التلاوات أتجه مباشرة نحو الأوبرا، التي تقدّم لي شيئاً من العودة إلى ينابيعي الأولى خلال دراستي في إسبانيا، حيث كنت شغوفاً بسماع الأوبرا كما درّبوني على سماعها. وأحياناً أسمع عند الرسم شيئاً من الموسيقى العربية كأم كلثوم، محمد عبد الوهاب، سيد درويش والسيدة فيروز.

• ما وراء هذه العزلة المنقطعة تماماً عن الناس، هل هو مأهول بشيء آخر؟ ـ مأهول بحبي للناس. أنا رسام أُنشئ حوارات متعددة وصامتة مع الآخرين دون أن يعلموا بذلك. أقوم بنوع من المونولوج الداخلي مع الآخر، وأجعل هذا الآخر يحكي لي وفق ما يتطلبه حواري كي لا أقع في الزلات أثناء ردوده. وهذا الحوار ليس كلامياً؛ بل حوار تصويري، تشكيلي، تَخيُّلي. لأنني أعيش مع الناس دون أن يروني. فأنا أكلّمهم وأعرفهم من دون أن يعرفوني. هم يسمعون عني.

• الرؤى الخارجية شبه محدودة إذا استثنينا أفق البحر الذي يطلّ من النافذة الغربية للمحترف، هل هذا يعني أنك تترك المساحة الأكبر للرؤى الداخلية كالأمنيات والطموحات والمواقف؟ ـ المساحة البحرية الشاسعة التي أطلّ عليها من نافذتي، هي التي تسمح لي بالقيام بعملية تصفية لما أحمله في مخيلتي وداخلي، في أفكاري وذاكرتي وانفعالاتي. وهذه المساحة الزرقاء الشاسعة تشكل سبباً مهماً جداً لأعيد نظري وتقديري والبحث داخل انفعالاتي عن الصورة الأجمل والشكل الأروع والإحساس الأكثر تعبيرية من غيره. بمعنى آخر الضدّ يُظهِر حُسنه الضد. وبمقدار ما هناك مساحة من البحر صامتة، بمقدار ما هذا الصمت الموجود في الوجهة البحرية يحرّضني على أن أشتبك مع ذاكرتي الممتلئة بالناس.

• لو لم يكن محترفك في هذا المكان؛ جار المنارة والمطلّ على البحر، ما الذي كان ليختلف في أعمالك؟ ـ لا شك أن للأماكن سحرها، والأماكن ليست مجرد نص جغرافي يعيشه الإنسان؛ هي نص نفسي وتَواجُد روحي في الحقيقة. كان لي أكثر من محترف في بيروت قبل أن أصل إلى هذا المكان حيث أنا اليوم. لكن هنا أنا أكثر عزلة، بينما في المحترفات الأولى كنت أكثر تواصلاً مع الآخر لأنني كنت معه. هنا بالكاد أكون مع نفسي، حيث أعاني هنا من عزلات لا من عزلة واحدة؛ عزلة الجسد، عزلة الروح، عزلة العقل، عزلة الوجدان. هنا يأخذ عقلي فرصة الابتعاد عن الآخرين ليراهم بمنظور آخر.

• مرّ عامان على معرضك الأخير، ماذا تحضّر؟ ـ المحترف أصبح عبارة عن محترف وصالة عرض دائمة لأعمالي، وهكذا أجد أنه عندما يتحوّل محترف الفنان صالة عرض دائمة، يصبح أغنى من أن يكون له معرض مؤقت أي محدود ضمن مدة زمنية قصيرة.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي