عندما يدق «الحب» .... قلوب الكبار!

غرام الملوك ... فاروق مفتونا بـ «سامية جمال» / 16

تصغير
تكبير
| القاهرة- من محمود متولي |
الحب فوق القمة... مثل الحب تحت السفح... لا يتغير... ولا يتبدل ولا يتلون... هو لمسة من السحر تمس القلوب فتطهرها... وومضة من الأمل تضيئها... وتغفل بها عن خطايا وذنوب الدنيا فلا يرى العشاق سواء كانوا فوق القمة أو أسفل السطح... سوى الحب والحبيب.
لكن يبقى غرام المشاهير، ونزواتهم أيضا كأنه سر من أسرار الدولة العليا... يغلفه المشاهير بالكتمان... سواء كانوا نجوم سياسة أو مال أو رياضة أو أدب أو فن... وأحياناً ينفضونه كأنه رجس من أعمال الشيطان، لا يهمهم غير أن تظل الستائر الكثيفة تخفيه وتخبئه عن عيون الفضوليين، لكن بعضهم يخرج أحيانا عن صمته... ويستدعي المأذون... ويسمح للصحف بنشر الخبر وللصور.
وأعظم ما في غرام المشاهير أن تخرج لتلامس شغف عيون الناس... أنه يسترد لهم إنسانيتهم... وضعفهم... ويجعل من الملوك رعايا، ومن الرعايا ملوكا!، وأحيانا لا يهدد العرش والصولجان... غير دقة قلب ينبض بها قلب «الرجل الأول» في الدولة... أو المملكة.
«الراي»... سبحت في دهاليز وكواليس غراميات ونزوات المشاهير، ورصدت آهات وعذابات وآلام ودقات قلوب كبار نجوم القمة والمشاهير... سواء كانوا من الرؤساء أو الملوك أو الشعراء أو الفنانين أو المفكرين... لكشف أدق أسرار الحياة الخاصة بهم من خلال هذه الحلقات... في السطور التالية.
كانت ليلة موعودة في أوبرج الحلمية بالاس... صعدت إلى المسرح... بدأت وصلتها وسط تصفيق حاد، وعندما ترقص سامية جمال يتحول الليل إلى «سخونة» في عز البرد.
فجأة... لمحت الراقصة المعروفة ملك مصر «فاروق الأول» يدخل إلى القاعة.... ينبعث من عينيه بريق ساحر... تحول إلى وهج من نار ظل متربصا بالجسد الرشيق وهو يقول «التحية إلى حاكم البلاد على واحدة ونص».
أنهت رقصتها بنظرة طويلة نحو مائدة كبار القوم... ارتبكوا جميعا... تخيل كل منهم أنه المقصود... لكن الملك لم يخطئ فهم الرسالة... استدار نحو أحد مرافقيه... همس في أذنه... سارع رسول الملك لينفذ أوامره... طرق باب الراقصة الكبيرة خلف كواليس المسرح.
فتحت بسرعة... كانت تتوقع الرد الملكي ... سألت وسيط الملك عن المطلوب منها: رد عليها... «مولاي ... في انتظارك يا سيدتي» ... سألته في دلال ... «أين هو ؟ !» ... أجابها بسرعة ... «في سيارته يا هانم».
صمتت وهي تحاول إخفاء انفعالاتها... ثم قالت: سأرتدي ملابسي حالا ... اسبقني إليه وأخبره بمجيئي فورا.
السيارة الملكية
جلست في سيارة الملك تجاوره كأنها في حلم، و تمنت لو أن أهل قريتها... شاهدوها في هذا الموكب الملكي على ضفاف النيل ... السيارة الفارهة التي تنحني لها رؤوس الكبار وجموع الشعب... تتهادى بها وهي تجلس جنبا إلى جنب صاحب العرش ولم تكن السيارة مسرعة... ولم تكن متمهلة ... كأنها كانت ترقص مثلها... على واحدة ونص!
شعر الملك أن ضيفته شاردة... سألها... أجابته في براءة بأنها لا تصدق نفسها... وتتمنى لو ماتت في تلك اللحظة... وقاطعها الملك بأنها ستعيش طويلا في المجد.
انتبهت على كلماته.
- سألته في تلقائية: كلهن سقطن من فوق العرش يا جلالة الملك؟
• لم تكن فيهن واحدة مثلك.
- أنا لست أجملهن؟
• لكنك أعظمهن.
- هل أعجبك رقصي ؟
• كنت مثيرة!
-والآن؟
• أنت أكثر . إثارة.
- معقول؟
• أنا مغرم بما وراء جمالك فيك.
-لم أسمع هذا التعبير من قبل ... ماذا تقصد؟!
• أعترف أن عيونك ساحرة... وشعرك مثير... وقوامك خطير... وبشرتك جمرات نار... وخصرك قاتل... لكن كل هذا قد تنافسك فيه المتنافسات والحسناوات والشقراوات... ونجمات الليل.
- إذاً ما هو الجديد عندي؟!
• ما وراء الجمال!
- تاني يا جلالة الملك؟
• ستفهميني حالا... سمعت عن حكاية غرامك بالمطرب فريد الأطرش... كل الناس يتناقلونها... أنت تعشقينه عشقا تذوبين في حبه... وتعيشين من أجله... يقولون إنك امرأة تهوى الحب.... والحنان والإخلاص... وهذا العالم يثيرني... يبهرني... يجذبني بأسراره... لأن عالمي لا يعرف هذه الأشياء... الحب، الإخلاص، الحنان... عالمي مليء بالمغامرات والنزوات... ومعارك الأحزاب... وغدر الرفاق... عالمي محفوف بالمخاطر... لكن الناس لا يشاهدون منه سوى الأضواء المبهرة... كرسي العرش اللامع... أنا مثلا أحب السياسة وأكره السياسيين... يعجبني الأذكياء وأنفر من المتآمرين... أنا ملك سيئ الحظ.
حديث فاروق
كانت الراقصة الكبيرة تصغى باهتمام لحديث الملك... كأن الطير فوق رأسها... لم تتوقع لحظة واحدة أن يحدثها عن همومه وأحزانه وحياته، دارت في أعماقها علامات استفهام عريضة... ماذا يريد منها ... ماذا يقصد بحواره معها؟... أحس الملك بشرودها مرة أخرى... سألها: هل ضايقتك عندما أطلت في حديثي عن نفسي؟
- ضايقني أن مولاي غير سعيد.
انطلقت السيارة إلى أحد القصور الملكية.
هبطت منها الراقصة المعروفة ... سارت إلى جوار الملك ... همس لها أن عطرها تغلب على رائحة الياسمين التي تعبق المكان من زهورها المنتشرة فيه ... شكرت له مجاملته ... صعدت معه إلى الطابق الثاني ... ابتلعت ريقها أمام روعة الديكورات ... وفخامة التحف ... ورقة الأثاث والسجاد ... والتماثيل المتناثرة هنا وهناك كأنها من سكان القصر.
زاغت عيناها وهي تنتقل من ركن إلى ركن ... جلست كالمسحورة ... تتذكر طفولتها وشبابها ... لقد ولدت في إحدى قرى بني سويف «شمال صعيد مصر» ... من أبوين مزارعين ... عاشت سنوات طفولتها في منزل متواضع ... يبدو كمنازل الديكور في استديوهات السينما ... يمكن أن ينهار بقبضة يد قوية من فريد شوقي أو رشدي أباظة.
ولمح الملك شرودها للمرة الثالثة ... قال لها في لهجة جادة ... هذه ثالث مرة تغيبين فيها عني ... ما حكايتك ؟ ... هذا شيء لا يسرني أبدا.
اعتذرت في أدب، ثم همست له وحبات الدموع تترقرق في عينيها: «سيدي الملك ... كنت سارحة في طفولتي ... أنا يا مولاي لم أكن يوما من طبقة الهوانم ... ولم أسمع هذا اللقب إلا بعد شهرتي كراقصة ... يجاملونني به لا أكثر ... كنت أكره السكارى وهم ينادونني به ... ولا أصدقه فوق لسان الباشوات مرتادي الكباريهات وزبائن الليل وحفلات الرقص والصخب ... والآن ... لا أصدق اختيارك لي.
أود أن أعترف لك منذ اليوم الأول للقائنا بمن أنا ... لا أريد أن أسقط من نظرك ذات يوم ... إما أن ترضى بي على حقيقتي ... أو تتركني من الآن لحال سبيلي ... أنا يا مولاي فلاحة هربت من بلدتها بعد طلاق أبويها ... وزواج كل منهما بآخر ... لم أطق الحياة مع زوجة أبي ... ولم أتحمل نار زوج أمي ...ولم أضعف أمام عروض الزواج التي أحاطتني... من شباب القرية ... كانوا يعتبرونني جميلة جميلات المركز ... هربت منهم جميعا إلى القاهرة.
كنت أحلم بأن أعمل خادمة في منزل محترم ... هذه قمة أحلامي وقتها ... وأن أتزوج من عسكري بوليس يحميني ويؤويني ... لكني لم أجد العمل متاحا.
قال لها الملك: والآن؟
ردت سامية جمال ووجهها يبرق كمنار يعلو البحار الهائجة: «الآن ... نحن على خلاف ... يريد لعلاقتنا أن تستمر دون زواج ... وأنا أرفض مناوراته ... خيرته بين الزواج وخسارتي لكنه ما طلني ... لم يصلني رده صريحا ... نعم أنا راقصة ... لكنني أيضا امرأة ... يرهقها أن تحب رجلا لا يؤمن بالزواج والبيت والأولاد ... أنا راقصة نعم، ولكني فلاحة أعرف الأصول ... ويؤرقني كلام الناس ... وتهزني الاشاعات ... أنا أبتسم لمصوري الصحف فيراني الناس سعيدة.
أخرج الملك منديله ليجفف دموعها، قال لها فجأة : هل تقبلينني صديقا؟!
تهلل وجهها ... وسكتته فرحة طاغية ... أجابته في سعادة : الآن ... أنا أسعد امرأة في الوجود يا مولاي.!
حجرة الملكة
ابتعد فريد الأطرش عن حياة سامية جمال ... ونشرت الصحف أن راقصة مصر الأولى باتت تنام في حجرة الملكة داخل القصر الملكي، ولم ينكر الملك علاقته بسامية جمال ... ولم يتبرأ منها أو يتنكر لها وذات يوم سافر إلى فرنسا كعادته في الصيف ... كانت المرة الأولى التي يبتعد فيها عن سامية جمال ... مرت أيام ... أسابيع ... لكن الملك لم يطق البعاد ... كان قد استقر في مدينة «دوفيل» أكثر مدن فرنسا ضجيجا ... وأطولها ليلا ... وأفجرها سلوكا ... عشرات الملاهي الليلية تسهر في «دوفيل» حتى الصباح يتردد عليها عشاق الليل ... الدنيا تخلع أحزانها في ليل هذه المدينة تخلع ملابسها . . تغيب عن الوعي ... وتسترده لتغيب مرة أخرى ... وسط ليالي مدينة «دوفيل».
شعر فاروق بالغربة ... أوحشته سامية جمال ... كل فرنسا لن تكون عاصمة النور والجمال إلا إذا وصلت إليها راقصة مصر الكبيرة ... وتألقت فيها برقصاتها ... وأضافت إليها من جمالها وأنوثتها المتفجرة !
أرسل الملك إلى حاشيته يأمرهم بإحضار سامية جمال ... لكن وزير الداخلية المصري حينئذ فؤاد باشا سراج الدين... فجر المفاجأة ورفض سفرها ... ووقف حائلا دون منحها تأشيرة الخروج.
توسط كبار رجال القصر والحاشية ... وأصر الوزير على عناده ... اتصلت الحاشية بالملك... أبلغوه بموقف الوزير واتصل الملك بفؤاد سراج الدين ... هدده، وتوعده ... لكن وزير الداخلية رفض الانصياع لرغبات الملك ورد عليه بأنه يحمي سمعة القصر فيما لو سافرت راقصة إلى ملك البلاد لتحيي لياليه.
ولم تستسلم سامية جمال ... ولم ترهبها بشائر الأزمة الوزارية بين ملك البلاد ووزير داخليتها بسبب سفرها ... لجأت إلى القضاء الإداري ... أقامت دعوى ضد تعسف وزير الداخلية ورفضه سفرها وحرمانها من حقها الدستوري واعتدائه على حريتها الشخصية.
وتداول مجلس الدولة القضية ... وتابعتها الصحافة في شغف، وأخيرا حسمت المحكمة الموقف ... وأصدرت حكمها بتأييد قرار وزير الداخلية لأن مبعثه هو حماية هيبة الدولة وسمعة القصر والأسرة المالكة كلها.
الحياة السياسية
وهكذا تكهربت... السياسة المصرية بسبب راقصة وقع الملك في غرامها ... ولم يجد فاروق حلا للأزمة سوى عودته لمصر ... قطع رحلته ... أرسل برقية إلى رجاله ... حملوها إلى سامية جمال.
قال في سطور البرقية: «غدا أصل إلى الوطن ... عندي أخبار مهمة أرجو انتظاري» .
أسرعت إلى لقائه في اليوم التالي ... فوجئت بأن كل الأخبار المهمة التي تنتظرها سوى كلمة واحدة صارحها بها الملك ...«أحبك»!.
همست في دلال تسأله ... كم امرأة قبلي أحببت يا مولاي ؟!.
صمت الملك كأنه أراد الهروب من الإجابة ... لكنها اقتربت من مقعده ... وجلست عند قدميه تعيد سؤالها ... ورد عليها الملك بصوت خفيض كأنه في محراب: «...كم امرأة عرفت؟ لا أعرف ... هن كثيرات ... لكن كم أحببت قبلك ... سؤال يذكرني بتعاستي وسوء حظي ... لقد حرمني القدر من المرأة الوحيدة التي لو خيرت بينها وبين العرش لاخترتها دون تردد ... أحببتها بعنف ... تمنيتها ... لكن الأيام عودتني على أن تحرمني من أي شيء يمكن أن يسعدني، وكأن الأيام استكثرت علىّ السعادة بعد أن وهبتني العرش.
سألت الملك: وكيف حرمتك منها الأقدار يا مولاي ؟!
كأن بركانا انفجر في أعماق الملك ... احتقن وجهه بالدماء ... رقت ملامحه ... لكن جسده ظل يتململ كأن عقربا قد لدغه، وراح ينفث دخان «البايب» في سحابة كثيفة صنعت حاجزا من الضباب بين وجهه ووجه سامية جمال ... وتدفقت نظراته عبر الأفق كأنه يستدعي الذكريات لتنطق فوق لسانه.
حكى الملك... وسامية جمال تصغي وتكاد أنفاسها تتلاحق ... روى قصته مع «النبيلة فاطمة» ... المرأة التي كانت أجمل من كل نساء الأسرة الحاكمة ... وأصغرهن سنا ... وأكثرهن سحرا وأنوثة وجاذبية.
قصة غرامه
بكى ملك البلاد وهو يروي قصة غرامه لفاطمة، واقتربت منه سامية جمال تجفف بمنديلها دموعه، وتحثه على كشف المستور في حكاية الحب الملكية، ولم تتوقع لحظة واحدة أن بطلة الحكاية كانت امرأة متزوجة.
رآها فاروق للمرة الأولى في إحدى الحفلات الملكية ... كانت في عمر الزهور ... لم تتم عامها العشرين بعد ... تبدو في قاعة الحفل كقطعة من البلور ... يتألق جمالها ... تحرق أنوثتها كل نظرات الأمراء والنبلاء وفرسان القصر ... حتى «برنسيسات» الأسرة الملكية تضاءلن في مقاعدهن بعد أن تأكدن أن رجال الحفل انتخبوا فاطمة بعيونهم ... ملكة جمال الليلة، وارتعشت عيون فاروق عندما وقعت عليها.
ومرت الأيام، وفتر حماس فاروق ... جفت دموعه ... هدأت أحاسيسه ... خمدت نيران حبه ... أصبح مطمئنا إلى أن امرأته قد رفعت الراية البيضاء ... ودخلت إلى القفص بقدميها ... وجلست تنتظره، وبعض الرجال يصيبهم الغباء عندما تخلع المرأة قبعتها.
كانت فاطمة ضيفا دائما في كل السهرات الملكية، ودرست طباع الملك ... أغاظها أنه يتلذذ بتهافت النساء عليه... ضايقها رفاق السوء الذين أحاطوا بصاحب العرش ليل نهار ... سألت الملك بعد أن قررت مقاطعة سهراته: مرة أخرى ... أريد أن أسألك ... ماذا تريد مني ؟!
قال لها: أحبك.
وقالت: الحب وحده لا يحمي المرأة من ألسنة الناس ... وادعاءاتهم!
والزواج يحتاج إلى بعض الوقت، والزواج منك انتحار يا مولانا.
انتبه فاروق ... اتسعت عيناه ...أفاق من ذهوله سريعا ... سألها في دهشة :
انتحار ؟!
ارجو ألا تغضبك صراحتي.
أنت مجنونة.
الجنون أفضل من الانتحار.
أنت ترددين نفس النكد الذي كانت تردده الملكة .
أنا وهي أحببناك في اللحظة التي تخيلتها أنا نكدا وهما.
لا تتسرعي ... سوف تعتلين عرش البلاد خلال أسابيع قليلة، من الليلة سوف أرتب لأكبر حفل زفاف يشهده القرن العشرون.
صمتت فاطمة واستراح ضميرها ... قررت أن تجعل حبها سرا بعيدا عن عيون الملك ومسامعه.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي