صحف تتوقّف... مكتبات تقفل... معارض تُصارِع ودور نشر تئنّ في لبنان

«بلاد الحرف» تغادر... الورق

تصغير
تكبير
شكّلت الهزّة الأولية التي أحدثها الكلام عن أزمةٍ تواجهها صحف بيروتية اليوم، واحدة من «ارتدادات» مأزقٍ يعيشه عالم الصحافة اللبنانية الحديثة في ظل الواقع المُرّ لجرائد تترهّل تدريجاً وتنازع للبقاء، فيما يبدو من الصعوبة بمكان مقاربة هذه المسألة من دون الحديث عن مفهوم القراءة في بلدٍ يتغنى مؤرّخوه بأنه صدّر الحرف والأبجدية الى العالم، وبأنه أسّس الصحافة العربية المصرية والخليجية وطوّر مفهوم الاعلام المرئي والمسموع ودور النشر.

في الأيام الأخيرة عاشت بيروت على وقع الكلام عن أزمة مالية تصيب صحفها عموماً، وكان «اول الغيث» في ترجماتها إعلان ان «جمهورية الصحافة» ستخسر ابتداء من الاول من ابريل «السفير» التي كانت ستحتجب ورقياً والكترونياً مع إطفاء شمعتها الـ42 قبل ان تؤجّل هذه الخطوة، لتبقى الأنظار على صحف أخرى «تصارع للبقاء» مثل «النهار» التي توقفت عن دفع الرواتب لموظفيها منذ سبعة اشهر، و«اللواء» التي أوحت بالاقفال القريب.

واذ طاول «شبح الشحّ» المالي مكتبات ودور نشرٍ أُعلن عن توقفها تباعاً عن العمل، كان معرض الكتاب في انطلياس يجاهد لاستمرار العيش والانطلاق سنوياً بأسماء جديدة وبندواتٍ علّها توفّر مقومات «الصمود».

ولاحت «بين سطور» أزمة الصحافة والكتاب في لبنان مشكلة جوهرية عنوانها انكفاء القرّاء وتدنّي عددهم. ورغم انه لا يوجد إحصاء رسمي في لبنان او معطيات محددة حول واقع القارئ اللبناني، وهي مشكلةٌ تضاف الى سلسلة الصعوبات التي يعانيها القطاع الاعلامي والكتابي، فإن انطباعات اصحاب الصحف ودور النشر تشي بذلك. وتَراجُع مستوى القراءة والاهتمام بالصحف والكتاب في لبنان، بات حقيقة واقعة، متداخلة ومتفرّعة من سلسلة المشاكل التي سترد تباعاً.

الصحف

ولّى زمن شراء الصحف في لبنان كعادة يومية صباحية يصطحب معها القارئ صحيفته الى منزله ومكتبه، وتراجع كثيراً مظهر رواد المقاهي يتصفحون الصحف، كما كانت حال مقاهي الحمرا في بيروت او مقاهي جونية والاشرفية حيث يلتقي الصحافيون والسياسيون ورواد المقاهي جنباً الى جنب وتعلو نقاشات السياسة والصحافة والأدب والشعر.

ذلك ماضٍ لم يعد برّاقاً حتى بالنسبة الى الشخصيات نفسها التي كانت تغصّ بها المقاهي. أصلاً المقاهي نفسها المعروفة أقفلت وحلّت مكانها محالٍ تجارية او مقاهٍ بنسخ حديثة روّادها شبابُ جيلِ الانترنت والهواتف الذكية والوجبات السريعة. حتى أكشاك بيع الصحف لم يعد لها نفس الرونق هذا اذا وُجدت، وقد تراجع بيع الصحف اليومية كما المجلات اللبنانية والعربية وبعضها تراجع مستواه الى حد كبير ولم يعد يشكل مادة جذابة للبيع.

وبعدما اندثرت «حوادث» سليم اللوزي و«مستقبل» نبيل خوري قبل ان تتحول الى جريدة «المستقبل»، سجّلت مجلات عريقة أخرى انحداراً في مستواها ولم تعد مادة جاذبة للقراء، اذ طاولتها أزمات مالية انعكست تراجعاً في مستوى مادتها الإخبارية وأقلامها.

وقد يكون من غرائب وعجائب الحرب اللبنانية انها طوّرت الصحافة اللبنانية في مجالات عدة وأغْنتها، كما أصابتها بسهام قاتلة حين اغتالت العديد من صحافييها ومصوّريها. لكن تدفق الاموال والمساعدات، العربية والفلسطينية والليبية والتونسية الى الصحف ورجال الأعمال بنى «امبراطوريات» صحافية، بعضها تمكّن من الوقوف على رجليه ومواصلة عمله، وبعضها الآخر تراجع تدريجاً. والحرب ايضاً هي التي ساهمت في نهضة الإعلام المرئي والمسموع بعدما كان محصوراً بتلفزيون لبنان والاذاعة اللبنانية التابعين لوزارة الإعلام فحسب.

هذا الانفتاح الإعلامي ساهم في إيجاد جيل جديد من الصحافيين والاذاعيين والوجوه التلفزيونية، وفي نهضة إعلامية واسعة. لكن البريق التلفزيوني والاذاعي المتعدد الانتماءات الحزبية، لم ينعكس سلباً خلال الحرب على الصحف، لا بل انها ظلت تقاوم القصف وخطْف الصحافيين وإقفال المعابر، وبقيت الصحافة مادة دسمة لا يستغني عنها اللبناني ايام الحرب، وتشكل مصدراً اساسياً للخبر السياسي والامني والاقتصادي. ورغم ان الانقسامات الحزبية والطائفية شملت هويات الصحف والمجلات التي كانت تصدر قبل الحرب وبعدها، الا ان مجرد صدور الصحف صباح كل يوم ظلّ يبشّر بالخير في زمنٍ كان التعبير عن الرأي مجازفة حيث كانت أوصال المناطق اللبنانية مقطّعة.

ثمة مرحلتان أساسيتان عاشتها الصحافة بعد انتهاء الحرب، عام 1990 - 2005 و2005 - 2016. بعد الحرب انتعشت الصحف بفعل ما سمي حينها «نهضة بيروت» الاقتصادية والمالية مع تولي الرئيس الراحل رفيق الحريري رئاسة الوزراء في لبنان. ولا شك في ان الحريري أدخل الى الصحافة اللبنانية عاملاً اساسياً يتعلق بدور رأس المال السياسي في الإعلام، سواء عبر مساهمته مباشرة مثلاً في جريدة «النهار» أسوة بسياسيين آخرين مع حصة أكبر فيها، او عبر إصداره تلفزيون وجريدة «المستقبل».

وبعد العام 2005 واغتيال الحريري، انتقلت الصحف الى مرحلة جديدة، حيث كان الانقسام السياسي حاداً، فانعكس هذا الأمر على الجرائد والمجلات التي اتخذت مواقف سياسية ساهمت بتأثرها في سوق الاعلانات وفي سوق التوزيع. ومع «الربيع العربي» وسقوط أنظمة عربية كليبيا وتونس وتغيُّر نظام الحكم في مصر، وارتفاع حدة الانقسام في الدول العربية تجاه الأزمة اللبنانية المتعددة الوجه، خفّ الدعم المالي للصحف اللبنانية.

والواقع ان الصحف تكابر كثيراً حين تتحدّث عن سوق البيع والاعلانات كموارد وحيدة لها. فهذا الأمر لا ينطبق حتى على كبريات الصحف، حيث كان التمويل الأساسي يأتي من خارج الحدود اللبنانية او على الأقلّ من سياسيين ورجال أعمال لبنانيين من أصحاب النفوذ. لكن مشكلة الصحف الحالية لا تتعلق فقط بشحّ الدعم المادي الخارجي، انما ايضاً بترهّل إدارات بعض الصحف ومشاكلها الداخلية وسوء تنظيمها، الأمر الذي راكم ديونها وعثراتها المالية المحصورة فقط بالصحيفة نفسها كموظفين واداريين، من دون ان تتأثر ثروات أصحابها الخاصة.

اما بالنسبة الى الشقّ المتعلق بقراء الصحف وتَراجُعهم، فهذا واقع يحتمل الكثير من السجالات والآراء. لان المشكلة ايضاً تنطلق من واقع المادة الاعلامية التي باتت تقدّمها الصحف لقرائها وهي تراجعت في مستواها التقني والاخباري عن ذاك الذي كان سائدا قبل أعوام. علماً ان حجة بعض اصحاب الصحف تقوم على ضرورة مجاراة «تويتر» و«فايسبوك» والمواقع الالكترونية التي باتت تنبت في لبنان كالفطر وتحتلّ موقعاً إعلامياً واخبارياً متقدماً. لكن كل ذلك في وادٍ وتدني مستوى المادة الاخبارية التي تقدّمها الصحف في واد آخر.

ولا يعفي ذلك من الخوض في مشكلة تدني مستوى القارئ اللبناني وتراجع اهتمامه. وثمة أسباب في هذا السياق تتعلق بخلفية سأم اللبنانيين من الأخبار السياسية واليومية بعد حرب طويلة وحروب صغيرة لا متناهية. فبعض قرّاء اليوم لا يقرأون إلا المواقع الالكترونية او حتى عنواينها فحسب، او يكتفون بما يصلهم من برقيات سريعة عبر الهواتف الذكية من هذه المواقع.

من هنا حساسية الصحف التي تفكر في وقف الصدور ورقياً والانتقال الى المواقع الالكترونية فحسب من باب التوفير. لكن المغامرة قد تكلف باهظاً، لان القارئ اللبناني الذي انتقل الى قراءة الصحف الكترونياً، انما يقرأها مجاناً، ومن العبث الاعتقاد انه يمكن ان يلجأ الى دفع ثمن مقال في جريدة الكترونية حين يمكنه ان يقرأ جريدة أخرى مجاناً.

وما ينطبق على الصحافة يصحّ على الكتاب وسط مؤشرات الى ان ثمة مكتبات باتت على شفير الهاوية. وهنا يُطرح سؤال: هل يمكن الاكتفاء بما تقدّمه إحصاءات بيع الكتب في المعارض السنوية للكتب في لبنان حتى يُستدلّ على واقع الكتاب والقارئ اللبناني؟

اذا كان الأمر كذلك، فاللبناني لا يقرأ سوى كتب الطبخ والتنجيم والكتب الدينية (الاسلامية) وبعدها بكثير تأتي كتب الرواية والشعر والتاريخ والسياسة وغيرها. واذا كان الأمر كذلك، فإن عدد القراء يقاس بحفلات توقيع الكتب التي يقوم بها أصحاب دور النشر بدعوات عامة لحشد أكبر عدد ممكن من الضيوف.

واذا كان اللبناني يقرأ، فلماذا تقفل دور نشر وتغلق مكتبات ابوابها؟ لماذا لا يبيع المؤلفون اللبنانيون على اختلاف المادة التي يكتبون فيها، سوى القليل؟ ولماذا تقنّن مكتبات عريقة استيراد كتب فرنسية او انكليزية او تكتفي باصدارات ذائعة الصيت بنسخ محدودة؟

لطالما شكّل الكتاب في لبنان عالماً قائماً بذاته، حتى ان مكتبات شهيرة تحوّلت جزءاً من تاريخ لبنان وتاريخ الطباعة فيه وإرثه الثقافي... من الحمرا الى الأشرفية وجونية وطرابلس وجبيل، حتى الى المجمعات الحديثة التي تترك مجالاً لمكتبات معروفة كواجهة «حضارية»، او كصورة رمزية عن واقعٍ يندثر تدريجاً.

لكن واقع المكتبات اللبنانية كما دور النشر، لا يترك مجالاً للشكّ حول الأزمة الضاربة منذ سنوات. هل هي مشكلة جيل جديد ينصرف الى التقنيات الحديثة، او مشكلة عائلات ومدارس لا تعطي الكتاب (غير المدرسي) أهمية في عالمنا المعاصر؟ او هي أزمة أدباء وشعراء وروائيين ومؤرّخين وكاتبي سيرة وتاريخ، اذا اردنا الحديث عن الكتاب باللغة العربية؟

لم يعد مشهد الأطفال او المراهقين في مكتبات بيروت مألوفاً، وهذا ما يشكل أصل المشكلة الحقيقية، إزاء جيل جديدٍ يجنح نحو كل شيء بما في ذلك القراءة والكتابة بلغة الهواتف الذكية، ويميل نحو عالم تقني متطور لا صلة له بالكتاب الخارج من عالم عتيق وكأنه من «ألف ليلة وليلة».

ذاكرة اللبنانيين المبنية على أدباء وشعراء لبنانين وعرب وغربيين، لم تعد تشكل سوى نزراً يسيراً من الذاكرة الجماعية الحالية، المنشغلة بحكايات لا تشبه حكايا الروائيين اللبنانيين ولا شعرائهم ولا حكايا نظرائهم خلف الحدود. لم تعد القراءة تمثل ما كانت تمثله حين كانت دور نشرٍ عريقة تتسابق الى خطف الأسماء اللامعة والى تحديث عناوينها وتطعيمها بكل جديد وتتلهف الى إطلاق أسماء جديدة في عالم الكتب.

وبقدر ما لم يعد الكتاب مهنة مربحة لا للكاتب ولا لدور النشر ولا للمكتبات، صار الكلام عن عالمٍ جديدٍ يعيش أزمة حقيقية، في ظل تراجع سوق الكتب والصحف. حتى ان دور النشر التي كانت تتسابق الى المشاركة في المعارض التي عرفت سنوات من الطفرة فتنقلت من بيروت الى الجنوب والشمال والبقاع، باتت تتريث ألف مرة قبل ان تعمد الى مغامرات جديدة غير مربحة.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي