عبدالله كمال / ... ولكن / النخوة المفقودة

تصغير
تكبير
لاشك أن تعامل بعضنا مع النوازل، شدائد الدهر وكوارثه، صار لا أخلاقياً ومنحطاً إلى درجة مؤلمة، ومعبراً عن اعتراف بالعجز السياسي لعديد من الأشخاص والكتاب، ولا أقول التيارات.
كنا، وفق سلوك المصريين الأصيل، إذا ما ألمّ بنا أمر جلل نلتئم ونتعاضد ونتساند، نواسي بعضنا، ونتساعد في أن نتجاوز المحنة، ونحترم المشاعر الإنسانية، ونبدي قدراً واجباً من التعاطف، فإذا ما عبرنا الموقف تحاسبنا وتعاتبنا وتبادلنا الاتهامات بتحمل المسؤوليات.
إذا ما ألمت بالناس نازلة، كان الناس يهمون لإنقاذ الضحايا، والتبرع بالدماء، وإعانة المصاب، ودفن الضحية، وتقديم يد العون، وفعل كل ما من شأنه تيسير عبور الكارثة، ومساندة المكلوم، وستر الضائع، وتهوين الألم على الحزين.
الآن لم يعد الأمر كذلك، الآن صار البعض منا يضيف إلى الموت أعباء خراب الديار، والمتاجرة بالمشاعر، وبدلاً من أن يتعامل مع الكارثة على أنها موقف إنساني يستوجب التكاتف، فإنه يحولها إلى وسيلة ابتزاز رخيصة، ويجعل من الضحايا وقوداً لمنفعة سياسية، ويوظف عواطف المتألمين من أجل مصلحة وهمية، لا يحترم جثماناً، ولا ينحني لألم، ولا يعتبر لأي أزمة، ويمارس أبشع أنواع الاستغلال.
الكارثة لم تعد موقعاً لكي تتكاتف الأيدي بل لكي تستفز الكاميرات صراخ الخلق، ولم تعد نقطة للتعبير عن التلاحم بل للمزايدات السياسية، ولم تعد مكاناً للتعبير عن الاشتراك الإنساني في المصاعب بل وسيلة لكي يحقق مذيع ما بعض مجده ولكي ينال كاتب بعض ثأره الشخصي من الإدارة.
لا أحد يقول أن علينا أن نتستر على أي إهمال أو نسكت عن أي خلل، لا أحد يمكن أن يطالب بالصمت عن فشل ولكن للموت احترامه، وللكارثة واجباتها وكما أنه يمكن، بل يجب، أن نسائل الحكومة فيما بعد انتهاء أي كارثة عن طريقة أدائها فإنه ليس واجباً على الإطلاق الآن أن نحمل بعض أهالي الدويقة مسؤولية تراخيهم عن الاستجابة لمطالبات إدارية عديدة بإخلاء الموقع الذي ألمت به الكارثة قبل أيام.
أين النخوة، وأين الأخلاق، وأين القيم التي تحكم هؤلاء المتأنقين في استوديوهات مكيفة الذين لم تتعفر أحذيتهم بأتربة أي من العشوائيات، وأين المبادئ، وأين المشاعر الأصيلة، وأين تعاطفنا وتفاعلنا الواجب مع الضحايا قبل أن نجعل من المصيبة وسيلة للارتزاق وتحقيق المكاسب، هل دفنت المشاعر تحت الصخور كما دفن المفقودون الذين تجد جهات الإنقاذ صعوبة في العثور عليهم وسط الركام؟
لا أحد يرى مثل هذا في أي مكان في العالم، لقد أخلت الإدارة الأميركية مدناً كاملة من سكانها استعداداً لإعصار متوقع اسمه جوستاف، ولم تتهم الصحف الإدارة بأنها لم تنجح في إنقاذ قتلى أسفر عنهم بعد أن عبرت العاصفة، وتشارك الناس في إنقاذ الضحايا من زلزال أفغانستان وباكستان، وتكاتف الجميع من أجل عبور زلازل متوالية ألمت بالصين، وكل هذا حدث في الأيام الأخيرة، ولم يجد أحد فيه مناسبة لكي يوزع رسالة على الموبايلات يصف الحكومة بأنها «نحس».
هؤلاء الذين وجدوا وقتاً لكي يوزعوا رسائل الموبايلات على آلاف البشر تحقيقاً لدعاية سياسية رخيصة، كان أولى بهم أن يشاركوا ولو بيد واحدة في رفع صخرة من فوق مفقود، وأولئك الذين وجدوها فرصة لكي يثأروا من خصومهم السياسيين بمانشيتات سوداء حمقاء، كان أجدر بهم أن يناشدوا الناس التبرع في رمضان لضحايا فعل القدر ونازلة الدهر.
هؤلاء المرفهون الذين يتحدثون عن آلام الناس وهم يتابعونها عبر الشاشات، وأولئك الذين يتميزون بقيم وضيعة بينما هم ينعمون في «كومبونداز» مغلقة خائفة من سكان مناطق مثل الدويقة، عليهم أن يعتبروا، وأن يتفكروا في ويلات الكوارث بدلاً من أن يجعلوا منها وسيلة للعبث في وقت لا يجوز فيه مثل هذا اللهو فلا أحد ينجو من فعل القدر، والصخور والزلازل والعواصف لا تختار الناس حسب أوضاعهم الاجتماعية، وكما حدث هذا في الدويقة يمكن أن يحدث في أي مكان آخر.
بدلاً من أن تستثيروهم وهم ضائعون حزينون متعبون، ساندوهم وتعاطفوا معهم وتبرعوا لهم، ثم حين تفرغ جهات الإنقاذ من لملمة آثار المصيبة وتوابعها، ودفن الجثث، وإيواء المشردين... مارسوا ما تشاؤون من انحطاط.
عبدالله كمال
رئيس تحرير «روزاليوسف» ومستشار «الراي» بالقاهرة
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي