عبدالله كمال / ... ولكن / فرش المتاع!

تصغير
تكبير
كنت أدرس قبل نحو عشرين عاماً الدراما في أكاديمية الفنون، ولم أكمل، لكنني حصلت على القدر الكافي من المعلومات أثناء ذلك، وقبله لكي أعرف «لحظة التنوير»، أي أن تنكشف حقيقة ما أمام البطل أو أي شخصية، في توقيت بعينه، بعدها تتغير مساراته أو يبدأ التفاعل بطريقة مختلفة مع الأمور.
قطاعات عريضة من الصحافة المصرية الآن تعيش «لحظة تنوير»، أو قل إن القارئ أيضاً يعيش «لحظة تنوير» مماثلة، وهو يتابع مختلف الصحف ووسائل الإعلام تعيش نتيجة لتلك اللحظة ارتباكاً هائلاً، وتلفيقاً مباشراً، وتدليساً لا شك فيه، لحظة تكشف الانحيازات، وتعلن مستوى مصداقية أصحاب الشعارات، وتظهر كيف يمكن أن تستخدم كلمة الموضوعية، كما لو أنها منديل ورق، يستخدم في أغراض متنوعة.
لقد تابعت نوعية المواقف، والاتجاهات، التي تبنتها مختلف الصحف والمحطات، منذ انفجرت قضية هشام طلعت مصطفى، وما قيل في شأن مقتل سوزان تميم، تابعت هذا منذ بداية الشهر الماضي، وهالني ما يجري، وتيقنت أننا نعيش مشكلة رهيبة في المهنة.
في بداية الشهر، حين بدأت تفاعلات القضية، وجدت جريدة «المصري اليوم» في نفسها الجرأة لكي تكتب في الصفحة الأولى أن سهم مجموعة طلعت مصطفى الذي كان قد بلغ 9 جنيهات، سوف يقفز إلى 11 جنيها، وأن سعره الطبيعي وفق تقدير الخبراء 17 جنيهاً.
وبعد ذلك بيومين وجدت جريدة «الدستور» في نفسها الجرأة لكي تكتب شيئاً عن القضية، ثم تلحسه من خلال المصادرة الذاتية لنفسها عند الفجر، في واقعة لا يمكن أن تُمحى من تاريخ أي صحيفة، الجريدة سحبت أعدادها من السوق...
وفي نهاية الشهر كان من المثير أن يجري عمرو أديب حواراً مع هشام نفسه داخل مسجد في مدينة الرحاب، كان الفاصل فيه أن المتهم طلب الإذن لكي يخطف ركعتين!
كتاب أعمدة التزموا الصمت، وآخرون أمسكوا العصا من المنتصف، وغيرهم راح يموه ويقول كلاماً غريباً، وفريق رابع وجدها فرصة لكي يهاجم «الحزب الوطني» من دون أن يقترب من المتهم، وأقلام كان لها سابق خبرة في انتقاد هشام طلعت مصطفى لأسباب عقارية لكنها لم تقل حرفاً في الشهر الماضي وحتى الآن.
مذيعون يرتبكون، وهم يدلون بتعليقاتهم، مع أنهم معروفون بالطلاقة، وآخرون يرددون أسئلة بقصد الإرباك، وآخر يقول لمن استضافه: أرجوك انفِ لي الإشاعة التالية؟ مهنياً لم أسمع في حياتي عن سؤال يمكن أن يصاغ بهذه الطريقة أبداً!
بل إن صاحب محطة دخل على الهواء مباشرة على مذيعة برنامجه اليومي الشهير ولامها على ما تقول بخصوص هشام طلعت مصطفى، وانتقد تساؤلاتها، مدافعاً عن قيمته الاقتصادية، ولست أعرف ما هي الدوافع التي جعلته يفعل ذلك وقتها.
إن وسائل الإعلام التي كانت تطلق الأحكام على عواهنها، الآن تتريث، والصحف التي كانت تسمح لنفسها بأن تردد إشاعات وتطبعها من دون أي خشية من أي مسؤولية تحتاط الآن الدقة، وهؤلاء الذين كانوا يميلون إلى «شخصنة» الملفات كلها راحوا الآن يحللون الموضوعات العريضة، ويناقشون المبادئ من بعيد، ويؤثرون عدم الاقتراب من الأشخاص، ويلتزمون قاعدة المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته.
لست أدعو أحداً إلى الهجوم على أحد، وليس لدي موقف من المتهم الذي لم يحاكم بعد، ولكنني أريد أن أضع خطوطاً واضحة وبلون زاعق حول المواقف، خصوصاً حين تكون هناك مواقف مناقضة لها، ولابد أنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من الاندهاش حين أجد صحفاً لا تفكر لوهلة، وهي تكتب مانشيتها بخصوص عشرات من الشخصيات العامة الرفيعة في مصر، والآن تجدها تلف وتدور، وتحور وتقلب، وتذهب بعيداً، وتناور، بحيث تسأل نفسك: هل قررت الصحف فجأة أن تلتزم بالمعايير، أم أن المعايير ازدوجت؟
لن أضيف أكثر، وإن كان لدي ما هو أكثر، لكن عفواً، نسيت أن أوضح العنوان: «فرش المتاع» هو نوع من الإجراء الذي تقوم به جهة ما للتفتيش على شخص ما في لحظة ما، بشكل يظهر أمام من يسأله كل ما لديه من أمتعة وممتلكات شخصية.

عبدالله كمال
رئيس تحرير «روزاليوسف» ومستشار «الراي» بالقاهرة
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي