طاعون الكذب... لماذا ينتشر أكثر من أي وقت مضى؟
وسائل التواصل الإلكتروني تُحفز على الكذب
كل العوامل العصرية أصبحت تساعد الفرد أكثر من أي وقت مضى على الكذب
المرء قد يكذب لعدم رضاه عن نفسه وعدم مواجهة عيوبه أو حقيقته التي لا ترضيه
نحو 70 مليون مشترك في «فايسبوك» ليسوا حقيقيين
موقع «براين بيكنغز» يشبه الكذابين بـ«الأشخاص المدمنين على تناول الحبوب المنومة... تمنح النوم لكنها تمحو الحلم»
بفعل العولمة... كثيرون لا يستطيعون الانفراد بأنفسهم لانتقادها وإصلاحها
المرء قد يكذب لعدم رضاه عن نفسه وعدم مواجهة عيوبه أو حقيقته التي لا ترضيه
نحو 70 مليون مشترك في «فايسبوك» ليسوا حقيقيين
موقع «براين بيكنغز» يشبه الكذابين بـ«الأشخاص المدمنين على تناول الحبوب المنومة... تمنح النوم لكنها تمحو الحلم»
بفعل العولمة... كثيرون لا يستطيعون الانفراد بأنفسهم لانتقادها وإصلاحها
الكذَّاب لديه الكثير من الأصدقاء، لكن يجد نفسه أخيراً في وحدة عظيمة. فقد بات الكذب شائعاً، حسب دراسات نفسية لكثرة الضغوطات. وأصبح ينظر إليه اختصاصيون كمرض له أسباب وأعراض مثل الاكتئاب. فالكذَّاب غالباً ما يعاني من فقدان الذاكرة، وعادة ما يميل إلى المزاجية ورفع صوته تارة ثم خفضه تارة أخرى، كما إن الكذب أضحى عادة أو وسيلة للحياة لدى البعض، حتى شبه موقع علمي «براين بيكنغز» المدمنين على الكذب، بـ «الأشخاص المدمنين على تناول الحبوب المنومة والتي تمنح النوم ولكن تمحو الحلم».
ورغم ذلك، فإنه ليس هناك علم دقيق لكشف الكذب أو الخداع، لكن لاحظ بعض علماء النفس الأميركيين، حسب تقرير علمي للجمعية النفسية الأميركية، «وجود علاقة بين الكذب وزيادة حجم بؤبؤ العين، وهو مؤشر على التوتر والتركيز، كما وجدوا أن الناس الذين يستمعون إلى كذَّابين يلاحظ عليهم عصبية زائدة تظهر في نبرة الصوت، في المقابل فإن البعض يكذب بالصمت، ويمكن ملاحظة كذبه من خلال نظرات عينه البراقة أو حرصه على عدم النظر في عين مخاطبه.
إلا أن الكذب وإن بات اليوم موضع بعض الدراسات النفسية في دول غربية، يبقى رصده في مجتمعات مرتبطاً ببعض العوامل المستحدثة التي قد تحفز دوافع عدم قول الصدق.
فزيادة العولمة، وتردي التعليم، وملازمة الإنسان المفرطة للآلة بدل التحاور مع الناس، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، والابتعاد عن الفهم الصحيح للدين، ومحدودية الترابط الأسري، كلها مؤشرات زادت أعراض الكذب بين بعض الناس. حيث بينت دراسات نفسية أن الكذب تنتشر أعراضه في العصر الحديث وأصبح ينتقل بين البشر بالتطبع نظراً لتغير الظروف الحياتية والمؤثرات العقلية والنفسية.
كما أن إيقاع الحياة العصرية التي روجت له العولمة الغربية بات سريعاً للغاية وأثر على سلوك الفرد الذي أصبح أيضاً يطوق لتحقيق ما يصبو إليه بسرعة. الإيقاع السريع شحن اللهفة على الحياة عند البعض ما يضطر عدد منهم إلى الكذب من أجل الوصول إلى مبتغاهم في شكل سريع. إلى ذلك فإن عامل اختصار الوقت من أجل تحقيق الغاية أصبح يضطر البعض لاتباع منهج غربي قديم مفاده أن «الغاية تبرر الوسيلة» ما قد يدفع البعض إلى التمسك بأي طرق من أجل تحقيق ما يعتقدونه مفيداً لهم في وقت وجيز، حتى راج بين ملايين من العالم منطق الربح السريع والتعليم السريع والاستفادة السريعة.
هذا التوجه الحياتي الذي روَّجته العولمة عبر شبكة الإعلام والإنترنت التي تهيمن عليها الثقافات الغربية أثر على سلوك الكثيرين الذين باتوا مجبرين بفضل وسائل التواصل الحديثة على استهلاك ملايين المعلومات يومياً. معلومات شكلت معرفة جديدة للحياة لدى الكثيرين أثرت على الوازع الديني والأخلاقي لدى البعض، والتي بتراجعها لم يعد ما يمنع الفرد من الكذب أو التورط في الفساد تحت شعار «أريد أن أعيش»، فالعولمة الجديدة من خلال ما تنتجه بعض وسائل الإعلام صورت الصدق كصفة تجعل صاحبها يظل مكانه ولا يتطور، أما الكاذب فتروج له العديد من الأفلام والدراما على سبيل المثال أنه شخص ينتقل في درجات الحياة سريعاً وقد يصفه البعض بـ«الشاطر».
إلى ذلك، فإن الزيادة الملحوظة في عدد سكان الأرض الذين باتوا أكثر من 7 مليارات نسمة، سبب زيادة التنافس بين الأفراد على فرص الحياة ككسب الرزق على سبيل المثال في العمل. هذا التنافس بسبب الازدحام عمق مشكلات بدأت في الظهور منذ 30 عاما تتمثل في فرص التعليم الجيد والتوظيف والسكن اللائق والحياة الكريمة المضمونة لكل الفرد. فالعديد من الدول الغربية تداركت مشكلة تزايد شعوبها و ابتكرت حلولا لاستيعاب النمو الديموغرافي.
لكن بعض الدول لم تستطع مواكبة زيادة سكانها وغرق أفرادها في مشكلات أساسيات الحياة. وبات العيش بالنسبة لهم مثل الصراع اليومي الذي يتطلب التميز. وقد توافر مثل الظروف دافعا لدى البعض للكذب من اجل التميز عن الآخر في ظل منافسة محمومة على العيش الكريم. وبذلك، فان المنافسة على الحياة في بعض الدول أضفت ضغطا نفسيا شديدا على بعض الأفراد. والفرد الواقع تحت الضغط قد يلجأ الى أي شيء من اجل حق مقدس وهو حق الحياة.
من ناحية أخرى، فان اللجوء الى الكذب اختيارا وليس اضطرارا قد يكون سببه ظهور «الشخصية النموذج» أو ما يعرف «الموديلينغ» التي تروجها العولمة لمختلف الأعمار. حتى بات كثيرون يتأثرون بشخصيات غير شخصياتهم ويتطبعون بطباع غير طباعهم وهو الأمر الذي يضطر البعض الى الكذب من أجل مجاراة نموذج الشخصية التي تروجها العولمة للبشر كشخصية لائقة ومحبوبة ومقبولة وناجحة في هذا العصر. لذلك فقد تكون بيئة نشأة الفرد تتعارض مع مواصفات الشخصية التي يحلم أن يكون عليها. فيبدأ ظهور شرخ بين واقعه وما يطمح أن يكون عليه، وفي هذا الصدد قد يلجأ البعض الى الكذب ليعيش «وهم» شخصية ليست متأصلة فيه.
فالفرد الطبيعي لا يحبذ الكذب لكن قد يضطر اليه اضطرارا لأسباب مختلفة. فقد يكذب حتى يعتقد الناس فيه أمرا يرونه جيدا فيشعر بالفخر، أو أن يكذب حتى يكون يتساوى مع الناس فلا يشعر بنقص. وقد يكذب لنفاق الآخرين للحصول على أمر ما كوظيفة أو ترقية أو انجاز معاملة أو صفقة. وقد يكذب لأن حقيقته لا يقبلها المجتمع. وقد يكذب لعدم إيذاء الناس. وقد يكذب على نفسه لعدم رضاه عن نفسه وعدم مواجهة عيوبه أو حقيقته التي لا ترضيه. وقد يكذب المرء ويصور نفسه في صورة غير صورته لكي لا يعرف خصوصيته الناس. وكل العوامل العصرية أصبحت تساعد الفرد أكثر من أي وقت مضى على الكذب.
الكذب مرتبط بعدم قول الحقيقة أو التهرب من قول الصدق. والصراحة تكشف الكذب. ويسهل التواصل الحقيقي بين الأفراد على زيادة الصراحة والنقد وانكشاف الصدق من الكذب. ويمثل الانفعال لدى التحاور الطبيعي أولى دوافع انكشاف حقيقة الفرد. فالانسان الطبيعي لا يمكن أن يسيطر على نفسه لحظات الانفعال وقد يسقط الكذب اذا تم استفزازه. وبذلك، فان المواجهة الطبيعية بين الأفراد والتواصل والتحاور تقلص من فرص الكذب.
لذلك فان أفراد عصر اليوم قد يكون جزء كبير منهم مدفوع دفعا للكذب بسبب وجود وسائل جديدة غير مباشرة للتواصل تغري البعض لقول ما يشاؤون عن أنفسهم من دون حسيب أو رقيب. وقد يصدقهم الكثيرون. فقبل الطفرة التكنولوجية والمعلوماتية، لم يكن للفرد خيارات كثيرة للتواصل مع الناس غير التواصل التقليدي الحقيقي الطبيعي. وكان الحوار بين الفرد وأسرته أكثر من حوار اليوم وأيضا كانت طبيعة العلاقات مع المحيط الخارجي معتمدة على الحوار والتلاقي الفكري والاجتماع وتداول الأراء والنقد وهنا تذوب الرغبة للكذب وتستبدل بمتعة المكاشفة والمصارحة.
لكن العولمة الجديدة أعطت للفرد غشاء يمكنه التخفي خلفه وتقمص أدوار ليست أدواره والتحدث بخطاب ليس خطابه. فكل وسائل التواصل الالكتروني عن بعد، كالهاتف والانترنت والرسائل القصيرة، أصبحت اليوم تستهلك ساعات طويلة من حجم تواصل الفرد اليومي مع الناس وبذلك أصبحت امكانية وقوع الفرد في الكذب واردة جدا خصوصا وان التكنولوجيا تسمح له بذلك وتتيح له امكانية عدم المواجهة بالتواصل عن بعد. فالفرد يمكن له ان يكتب ما يشاء في الرسائل وأن يرد وأن يتفاعل وقد يكون كل مضمون الرسالة ما هو الا كذب، ولا يستطيع المتلقي ان يميز حينها، الصدق من الكذب.
وقد أسهمت تكنولوجيات الاتصال الجديدة في انتشار الاشاعة، رديفة الكذب. فقد ذكرت صحيفة «الغارديان» البريطانية، أن «نحو ثلاثة ملايين تغريدة على توتير تعتبر كاذبة أو هي اشاعة». وهذا ما يعني استغلال الأفراد لتكنولجيات متاحة لديهم على الحاسوب او الهاتف لممارسة هواية الكذب. فيصبح العالم الافتراضي أفضل مجال لتنفيس البعض عن أنفسهم، وذلك بالكذب هروبا من واقع حقيقي لا يعجبهم الى واقع خيالي يتمنونه، من خلال نشر أو تشارك معلومات مغلوطة. كما بيّنت مؤسسة «فايسبوك» على سبيل المثال على موقع «ثي ناكست ويب» أن «هناك نحو أكثر من 10 في المئة من حسابات المشتركين وهمية، ومثل هذه الحسابات غير الحقيقية في ازدياد أي أن ما يعادل نحو 70 مليون فرد على فايسبوك ليس حقيقيا بل كاذب».
لكن لا يعني أن كل استعمالات وسائل الاعلام الالكترونية، هي فقط لممارسة الكذب. لكن تغري هذه الوسائط بعض الأشخاص لعدم قول الصدق، اما خوفا على خصوصيتهم أو من أجل التقرب لأشخاص والتعرف عليهم أو من أجل التشبه بشخصيات تروج لها وسائط العولمة كشخصيات مثالية لهذا العصر.
لذلك يسعى الكثيرون في شكل تلقائي لتقمص صفات شخصيات تظهر كثيرا في وسائل الاعلام والتواصل الافتراضي وعلى مواقع الانترنت. فيصبح التشبه بهم شكلا ومضمونا في شكل لا ارادي احيانا. أي أن الفرد قد يلغي خصوصيته ويعيش دور شخص يتوق ليكون مثله. وهنا يدخل بعض الافراد في ازدواجية الشخصية فيضيّع البعض هويتهم الأصلية ويعيشون تذبذبا قد يدفعهم لمزيد الكذب لعجزهم عن ايجاد شخصية يؤمنون بها وتعكس ارادتهم الحقيقية.
الى ذلك، فان الكثيرين قد يندفعون الى الكذب لتجميل عيوبهم التي يعجزون عن اصلاحها ونظرا لمتابعتهم اليومية لنماذج من الناس على وسائل التواصل الافتراضي لا يستطيعون الانفراد بأنفسهم لانتقادها واصلاحها، وذلك لاستهلاكهم المتزايد للمعلومات والصور ونماذج شخصيات تؤثر عليهم فيصبح ادراكهم بالآخرين أكثر من إدراكهم لأنفسهم.
ونتيجة تواتر نماذج الشخصيات في يوميات الأفراد العاديين من خلال ما تروجه وسائل الاتصال، أصبح البعض يكترث للاخرين اكثر من اكتراثه لنفسه ويتخيل سعادته أو حزنه في سعادة أو معاناة شخصيات يتابعها على وسائل الاعلام الالكترونية الالكترونية (مشاهير، أصدقاء، وشخصيات غير معروفة وتروج لنفسها) اضافة الى (الأخبار، حِكم، مقولات وقصص مؤثرة).
وبذلك فان استهلاك الفرد لمعلومات وصور لا تهمه تدفعه الى عدم التركيز على نفسه ومحيطه الخارجي وتدفعه الى الانقياد واتباع الآخرين ومعرفة قيمة نفسه في قيمة الآخرين. حيث أصبح بعض الأفراد يعيشون الوهم في الحقيقة وينظرون الى انفسهم في صور غير صورهم الحقيقية واصبحوا من المنتظرين لتحقق أمر ما في حياتهم وان لم يتحقق بالانتظار فان البعض يلجأ للكذب ليعيش حقيقة زائفة.
الى ذلك يبرز تأثير العولمة ووسائل التواصل على سلوك الفرد في مدة قضائه لوقته الخاص في تصفح الأخبار ومتابعة أحداث وشخصيات قد لا تعنيه. وهذا السلوك يجعل الشخص تائها عن نفسه لا يعرف تحديدا ماذا يريد.
وهنا تبرز اشكاليات ظهرت الى السطح أخيرا، وهي الاكتئاب والاحباط الذي انتشر اليوم اكثر من ذي قبل. فتعلق الفرد بصورة مثالية في حياته يجعله تواقا بسرعة لتحقق ما ينشده في الواقع. واذا اصطدم واقعه باحلامه الزائفة يميل الى الاحباط والاكتئاب. وبدل أن يلوم البعض أنفسهم ويبدأون بالاصلاح والبحث عن الصورة المثالية في انفسهم وليس في الغير، يزيد سلوك البعض العدواني ويزيد مؤشر اليأس ويلجأ الكثيرون هنا الى الكذب، حتى على انفسهم، لنسيان واقعهم أو الى المخدرات والكحول.
كما أن العولمة سرعت استهلاك الناس لثقافات مختلفة جدا ويستقبلها الفرد في شكل سريع بحيث لا يمكنه التمييز بين الصحيح والخطأ، وهو ما صنع خللا فكريا في استيعاب المعلومات ما أثر بدوره على تردي التعليم وتكون الشخصية السليمة. فالفرد الذي يستهلك أكثر من درجة استيعابه للمعلومات تتسطح عنده المعرفة وعندما تكون المعرفة مُسطحة لا يمكن لهذا الفرد التركيز على مبدأ و لايمكنه الصراحة.
فربما قد يكون الكذب لغة تَخفي وامتياز يستعملها البعض من أجل تبجيل صفات فيهم أصلا غير موجودة حتى يتم قبولهم في مجموعة ما أو لتحقيق غاية ما عادة ما تكون مرتبطة بالمصلحة. فاليوم يثابر الكثيرون وفق امكاناتهم الحقيقية وقد لا يجدون من يسمع لهم أو يقدر قيمة مثابرتهم، فيما يلجأ البعض لاستخدام تقنية الكذب لتضخيم امكاناتهم للوصول الى مناصب او اقناع الأخرين بقدراتهم والوصول الى التميّز عن الآخرين. حتى ان البعض قد يخلط بين صفة الكذب والخيال. فالبعض يتخيلون انفسهم في مواقع وامكانات معينة وهذا نابع من الطموح المكمون فيهم. لكن الكاذب هو من يرسم لنفسه صورة غير موجودة وليس لديه اي استعداد لأن يكون بهذه الصورة لكون شخصيته الحقيقية تتنافى تماما مع الصورة المغلوطة التي يروجها لنفسه ليعجب مديره او اصحابه او أناس ما.
والمعضلة الأكبر تكمن في الادمان على الكذب؟ لكن الخوف كله أن تلتصق مفردة عامية يقولها البعض: أكذب لكي تعيش. والبعض الآخر يقول حبال الكذب قصيرة. والطامة الكبرى أن البعض قد يعيش حياته العاطفية بناء على الكذب وتنكشف المصارحة والحقائق بعد فوات الآوان.
فكيف يُعرف الكاذب سريعا؟ الجواب عن هذا السؤال يتطلب الكثير من التمعن في ظروف حياة الفرد وتصالحه مع نفسه وارتباطه بأسرته. فبقدر ما تكون علاقة المرء متينة مع أسرته متصالح مع واقعه وبقدر انفتاحه على الحوار وتقبله للنقد، زادت مؤشرات صدقه وعكس ذلك قد يكون كاذبا أو ميالا للكذب.
وماذا عن اعتبار البعض للشخص قليل الكلام أنه كاذب؟ على العكس فبقدر قلة كلام الشخص واختيار تعابيره وعفويته وعدم التفكير كثيرا قبل الجواب زادت مؤشرات صدقه. الى ذلك، فان لجوء البعض للحديث المبالغ للتعبير عن انفسهم قد يرسم شبهة الكذب في شخصيتهم. فكثير الحديث متعدد البسمات قد يحاول اعلاء ما ليس فيه لنيل تقدير او اعجاب الاخرين. كما ان كثير المزاح تحوم حوله شبهة الكذب.
فهل الكذب مرض ينشر عدواه او آفة تصيب كل فرد، أم أن انتشار الكذب مرتبط بالمحيط الاجتماعي والموروث الثقافي لكل أمة؟ يبقى الجواب على مثل هذه الأسئلة مرتبط بالتحولات الثقافية والاجتماعية والتربية والتواصل الطبيعيى للفرد منذ النشأة.vw
ورغم ذلك، فإنه ليس هناك علم دقيق لكشف الكذب أو الخداع، لكن لاحظ بعض علماء النفس الأميركيين، حسب تقرير علمي للجمعية النفسية الأميركية، «وجود علاقة بين الكذب وزيادة حجم بؤبؤ العين، وهو مؤشر على التوتر والتركيز، كما وجدوا أن الناس الذين يستمعون إلى كذَّابين يلاحظ عليهم عصبية زائدة تظهر في نبرة الصوت، في المقابل فإن البعض يكذب بالصمت، ويمكن ملاحظة كذبه من خلال نظرات عينه البراقة أو حرصه على عدم النظر في عين مخاطبه.
إلا أن الكذب وإن بات اليوم موضع بعض الدراسات النفسية في دول غربية، يبقى رصده في مجتمعات مرتبطاً ببعض العوامل المستحدثة التي قد تحفز دوافع عدم قول الصدق.
فزيادة العولمة، وتردي التعليم، وملازمة الإنسان المفرطة للآلة بدل التحاور مع الناس، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، والابتعاد عن الفهم الصحيح للدين، ومحدودية الترابط الأسري، كلها مؤشرات زادت أعراض الكذب بين بعض الناس. حيث بينت دراسات نفسية أن الكذب تنتشر أعراضه في العصر الحديث وأصبح ينتقل بين البشر بالتطبع نظراً لتغير الظروف الحياتية والمؤثرات العقلية والنفسية.
كما أن إيقاع الحياة العصرية التي روجت له العولمة الغربية بات سريعاً للغاية وأثر على سلوك الفرد الذي أصبح أيضاً يطوق لتحقيق ما يصبو إليه بسرعة. الإيقاع السريع شحن اللهفة على الحياة عند البعض ما يضطر عدد منهم إلى الكذب من أجل الوصول إلى مبتغاهم في شكل سريع. إلى ذلك فإن عامل اختصار الوقت من أجل تحقيق الغاية أصبح يضطر البعض لاتباع منهج غربي قديم مفاده أن «الغاية تبرر الوسيلة» ما قد يدفع البعض إلى التمسك بأي طرق من أجل تحقيق ما يعتقدونه مفيداً لهم في وقت وجيز، حتى راج بين ملايين من العالم منطق الربح السريع والتعليم السريع والاستفادة السريعة.
هذا التوجه الحياتي الذي روَّجته العولمة عبر شبكة الإعلام والإنترنت التي تهيمن عليها الثقافات الغربية أثر على سلوك الكثيرين الذين باتوا مجبرين بفضل وسائل التواصل الحديثة على استهلاك ملايين المعلومات يومياً. معلومات شكلت معرفة جديدة للحياة لدى الكثيرين أثرت على الوازع الديني والأخلاقي لدى البعض، والتي بتراجعها لم يعد ما يمنع الفرد من الكذب أو التورط في الفساد تحت شعار «أريد أن أعيش»، فالعولمة الجديدة من خلال ما تنتجه بعض وسائل الإعلام صورت الصدق كصفة تجعل صاحبها يظل مكانه ولا يتطور، أما الكاذب فتروج له العديد من الأفلام والدراما على سبيل المثال أنه شخص ينتقل في درجات الحياة سريعاً وقد يصفه البعض بـ«الشاطر».
إلى ذلك، فإن الزيادة الملحوظة في عدد سكان الأرض الذين باتوا أكثر من 7 مليارات نسمة، سبب زيادة التنافس بين الأفراد على فرص الحياة ككسب الرزق على سبيل المثال في العمل. هذا التنافس بسبب الازدحام عمق مشكلات بدأت في الظهور منذ 30 عاما تتمثل في فرص التعليم الجيد والتوظيف والسكن اللائق والحياة الكريمة المضمونة لكل الفرد. فالعديد من الدول الغربية تداركت مشكلة تزايد شعوبها و ابتكرت حلولا لاستيعاب النمو الديموغرافي.
لكن بعض الدول لم تستطع مواكبة زيادة سكانها وغرق أفرادها في مشكلات أساسيات الحياة. وبات العيش بالنسبة لهم مثل الصراع اليومي الذي يتطلب التميز. وقد توافر مثل الظروف دافعا لدى البعض للكذب من اجل التميز عن الآخر في ظل منافسة محمومة على العيش الكريم. وبذلك، فان المنافسة على الحياة في بعض الدول أضفت ضغطا نفسيا شديدا على بعض الأفراد. والفرد الواقع تحت الضغط قد يلجأ الى أي شيء من اجل حق مقدس وهو حق الحياة.
من ناحية أخرى، فان اللجوء الى الكذب اختيارا وليس اضطرارا قد يكون سببه ظهور «الشخصية النموذج» أو ما يعرف «الموديلينغ» التي تروجها العولمة لمختلف الأعمار. حتى بات كثيرون يتأثرون بشخصيات غير شخصياتهم ويتطبعون بطباع غير طباعهم وهو الأمر الذي يضطر البعض الى الكذب من أجل مجاراة نموذج الشخصية التي تروجها العولمة للبشر كشخصية لائقة ومحبوبة ومقبولة وناجحة في هذا العصر. لذلك فقد تكون بيئة نشأة الفرد تتعارض مع مواصفات الشخصية التي يحلم أن يكون عليها. فيبدأ ظهور شرخ بين واقعه وما يطمح أن يكون عليه، وفي هذا الصدد قد يلجأ البعض الى الكذب ليعيش «وهم» شخصية ليست متأصلة فيه.
فالفرد الطبيعي لا يحبذ الكذب لكن قد يضطر اليه اضطرارا لأسباب مختلفة. فقد يكذب حتى يعتقد الناس فيه أمرا يرونه جيدا فيشعر بالفخر، أو أن يكذب حتى يكون يتساوى مع الناس فلا يشعر بنقص. وقد يكذب لنفاق الآخرين للحصول على أمر ما كوظيفة أو ترقية أو انجاز معاملة أو صفقة. وقد يكذب لأن حقيقته لا يقبلها المجتمع. وقد يكذب لعدم إيذاء الناس. وقد يكذب على نفسه لعدم رضاه عن نفسه وعدم مواجهة عيوبه أو حقيقته التي لا ترضيه. وقد يكذب المرء ويصور نفسه في صورة غير صورته لكي لا يعرف خصوصيته الناس. وكل العوامل العصرية أصبحت تساعد الفرد أكثر من أي وقت مضى على الكذب.
الكذب مرتبط بعدم قول الحقيقة أو التهرب من قول الصدق. والصراحة تكشف الكذب. ويسهل التواصل الحقيقي بين الأفراد على زيادة الصراحة والنقد وانكشاف الصدق من الكذب. ويمثل الانفعال لدى التحاور الطبيعي أولى دوافع انكشاف حقيقة الفرد. فالانسان الطبيعي لا يمكن أن يسيطر على نفسه لحظات الانفعال وقد يسقط الكذب اذا تم استفزازه. وبذلك، فان المواجهة الطبيعية بين الأفراد والتواصل والتحاور تقلص من فرص الكذب.
لذلك فان أفراد عصر اليوم قد يكون جزء كبير منهم مدفوع دفعا للكذب بسبب وجود وسائل جديدة غير مباشرة للتواصل تغري البعض لقول ما يشاؤون عن أنفسهم من دون حسيب أو رقيب. وقد يصدقهم الكثيرون. فقبل الطفرة التكنولوجية والمعلوماتية، لم يكن للفرد خيارات كثيرة للتواصل مع الناس غير التواصل التقليدي الحقيقي الطبيعي. وكان الحوار بين الفرد وأسرته أكثر من حوار اليوم وأيضا كانت طبيعة العلاقات مع المحيط الخارجي معتمدة على الحوار والتلاقي الفكري والاجتماع وتداول الأراء والنقد وهنا تذوب الرغبة للكذب وتستبدل بمتعة المكاشفة والمصارحة.
لكن العولمة الجديدة أعطت للفرد غشاء يمكنه التخفي خلفه وتقمص أدوار ليست أدواره والتحدث بخطاب ليس خطابه. فكل وسائل التواصل الالكتروني عن بعد، كالهاتف والانترنت والرسائل القصيرة، أصبحت اليوم تستهلك ساعات طويلة من حجم تواصل الفرد اليومي مع الناس وبذلك أصبحت امكانية وقوع الفرد في الكذب واردة جدا خصوصا وان التكنولوجيا تسمح له بذلك وتتيح له امكانية عدم المواجهة بالتواصل عن بعد. فالفرد يمكن له ان يكتب ما يشاء في الرسائل وأن يرد وأن يتفاعل وقد يكون كل مضمون الرسالة ما هو الا كذب، ولا يستطيع المتلقي ان يميز حينها، الصدق من الكذب.
وقد أسهمت تكنولوجيات الاتصال الجديدة في انتشار الاشاعة، رديفة الكذب. فقد ذكرت صحيفة «الغارديان» البريطانية، أن «نحو ثلاثة ملايين تغريدة على توتير تعتبر كاذبة أو هي اشاعة». وهذا ما يعني استغلال الأفراد لتكنولجيات متاحة لديهم على الحاسوب او الهاتف لممارسة هواية الكذب. فيصبح العالم الافتراضي أفضل مجال لتنفيس البعض عن أنفسهم، وذلك بالكذب هروبا من واقع حقيقي لا يعجبهم الى واقع خيالي يتمنونه، من خلال نشر أو تشارك معلومات مغلوطة. كما بيّنت مؤسسة «فايسبوك» على سبيل المثال على موقع «ثي ناكست ويب» أن «هناك نحو أكثر من 10 في المئة من حسابات المشتركين وهمية، ومثل هذه الحسابات غير الحقيقية في ازدياد أي أن ما يعادل نحو 70 مليون فرد على فايسبوك ليس حقيقيا بل كاذب».
لكن لا يعني أن كل استعمالات وسائل الاعلام الالكترونية، هي فقط لممارسة الكذب. لكن تغري هذه الوسائط بعض الأشخاص لعدم قول الصدق، اما خوفا على خصوصيتهم أو من أجل التقرب لأشخاص والتعرف عليهم أو من أجل التشبه بشخصيات تروج لها وسائط العولمة كشخصيات مثالية لهذا العصر.
لذلك يسعى الكثيرون في شكل تلقائي لتقمص صفات شخصيات تظهر كثيرا في وسائل الاعلام والتواصل الافتراضي وعلى مواقع الانترنت. فيصبح التشبه بهم شكلا ومضمونا في شكل لا ارادي احيانا. أي أن الفرد قد يلغي خصوصيته ويعيش دور شخص يتوق ليكون مثله. وهنا يدخل بعض الافراد في ازدواجية الشخصية فيضيّع البعض هويتهم الأصلية ويعيشون تذبذبا قد يدفعهم لمزيد الكذب لعجزهم عن ايجاد شخصية يؤمنون بها وتعكس ارادتهم الحقيقية.
الى ذلك، فان الكثيرين قد يندفعون الى الكذب لتجميل عيوبهم التي يعجزون عن اصلاحها ونظرا لمتابعتهم اليومية لنماذج من الناس على وسائل التواصل الافتراضي لا يستطيعون الانفراد بأنفسهم لانتقادها واصلاحها، وذلك لاستهلاكهم المتزايد للمعلومات والصور ونماذج شخصيات تؤثر عليهم فيصبح ادراكهم بالآخرين أكثر من إدراكهم لأنفسهم.
ونتيجة تواتر نماذج الشخصيات في يوميات الأفراد العاديين من خلال ما تروجه وسائل الاتصال، أصبح البعض يكترث للاخرين اكثر من اكتراثه لنفسه ويتخيل سعادته أو حزنه في سعادة أو معاناة شخصيات يتابعها على وسائل الاعلام الالكترونية الالكترونية (مشاهير، أصدقاء، وشخصيات غير معروفة وتروج لنفسها) اضافة الى (الأخبار، حِكم، مقولات وقصص مؤثرة).
وبذلك فان استهلاك الفرد لمعلومات وصور لا تهمه تدفعه الى عدم التركيز على نفسه ومحيطه الخارجي وتدفعه الى الانقياد واتباع الآخرين ومعرفة قيمة نفسه في قيمة الآخرين. حيث أصبح بعض الأفراد يعيشون الوهم في الحقيقة وينظرون الى انفسهم في صور غير صورهم الحقيقية واصبحوا من المنتظرين لتحقق أمر ما في حياتهم وان لم يتحقق بالانتظار فان البعض يلجأ للكذب ليعيش حقيقة زائفة.
الى ذلك يبرز تأثير العولمة ووسائل التواصل على سلوك الفرد في مدة قضائه لوقته الخاص في تصفح الأخبار ومتابعة أحداث وشخصيات قد لا تعنيه. وهذا السلوك يجعل الشخص تائها عن نفسه لا يعرف تحديدا ماذا يريد.
وهنا تبرز اشكاليات ظهرت الى السطح أخيرا، وهي الاكتئاب والاحباط الذي انتشر اليوم اكثر من ذي قبل. فتعلق الفرد بصورة مثالية في حياته يجعله تواقا بسرعة لتحقق ما ينشده في الواقع. واذا اصطدم واقعه باحلامه الزائفة يميل الى الاحباط والاكتئاب. وبدل أن يلوم البعض أنفسهم ويبدأون بالاصلاح والبحث عن الصورة المثالية في انفسهم وليس في الغير، يزيد سلوك البعض العدواني ويزيد مؤشر اليأس ويلجأ الكثيرون هنا الى الكذب، حتى على انفسهم، لنسيان واقعهم أو الى المخدرات والكحول.
كما أن العولمة سرعت استهلاك الناس لثقافات مختلفة جدا ويستقبلها الفرد في شكل سريع بحيث لا يمكنه التمييز بين الصحيح والخطأ، وهو ما صنع خللا فكريا في استيعاب المعلومات ما أثر بدوره على تردي التعليم وتكون الشخصية السليمة. فالفرد الذي يستهلك أكثر من درجة استيعابه للمعلومات تتسطح عنده المعرفة وعندما تكون المعرفة مُسطحة لا يمكن لهذا الفرد التركيز على مبدأ و لايمكنه الصراحة.
فربما قد يكون الكذب لغة تَخفي وامتياز يستعملها البعض من أجل تبجيل صفات فيهم أصلا غير موجودة حتى يتم قبولهم في مجموعة ما أو لتحقيق غاية ما عادة ما تكون مرتبطة بالمصلحة. فاليوم يثابر الكثيرون وفق امكاناتهم الحقيقية وقد لا يجدون من يسمع لهم أو يقدر قيمة مثابرتهم، فيما يلجأ البعض لاستخدام تقنية الكذب لتضخيم امكاناتهم للوصول الى مناصب او اقناع الأخرين بقدراتهم والوصول الى التميّز عن الآخرين. حتى ان البعض قد يخلط بين صفة الكذب والخيال. فالبعض يتخيلون انفسهم في مواقع وامكانات معينة وهذا نابع من الطموح المكمون فيهم. لكن الكاذب هو من يرسم لنفسه صورة غير موجودة وليس لديه اي استعداد لأن يكون بهذه الصورة لكون شخصيته الحقيقية تتنافى تماما مع الصورة المغلوطة التي يروجها لنفسه ليعجب مديره او اصحابه او أناس ما.
والمعضلة الأكبر تكمن في الادمان على الكذب؟ لكن الخوف كله أن تلتصق مفردة عامية يقولها البعض: أكذب لكي تعيش. والبعض الآخر يقول حبال الكذب قصيرة. والطامة الكبرى أن البعض قد يعيش حياته العاطفية بناء على الكذب وتنكشف المصارحة والحقائق بعد فوات الآوان.
فكيف يُعرف الكاذب سريعا؟ الجواب عن هذا السؤال يتطلب الكثير من التمعن في ظروف حياة الفرد وتصالحه مع نفسه وارتباطه بأسرته. فبقدر ما تكون علاقة المرء متينة مع أسرته متصالح مع واقعه وبقدر انفتاحه على الحوار وتقبله للنقد، زادت مؤشرات صدقه وعكس ذلك قد يكون كاذبا أو ميالا للكذب.
وماذا عن اعتبار البعض للشخص قليل الكلام أنه كاذب؟ على العكس فبقدر قلة كلام الشخص واختيار تعابيره وعفويته وعدم التفكير كثيرا قبل الجواب زادت مؤشرات صدقه. الى ذلك، فان لجوء البعض للحديث المبالغ للتعبير عن انفسهم قد يرسم شبهة الكذب في شخصيتهم. فكثير الحديث متعدد البسمات قد يحاول اعلاء ما ليس فيه لنيل تقدير او اعجاب الاخرين. كما ان كثير المزاح تحوم حوله شبهة الكذب.
فهل الكذب مرض ينشر عدواه او آفة تصيب كل فرد، أم أن انتشار الكذب مرتبط بالمحيط الاجتماعي والموروث الثقافي لكل أمة؟ يبقى الجواب على مثل هذه الأسئلة مرتبط بالتحولات الثقافية والاجتماعية والتربية والتواصل الطبيعيى للفرد منذ النشأة.vw