«الراي» تغوص في خفايا معركة 1970 التي أوصلت فرنجية لرئاسة لبنان... ودور اللاعبين الداخليين فيها

هل يتكرّر مع سليمان الحفيد سيناريو فوز سليمان الجدّ بـ «الصوت الواحد»؟

تصغير
تكبير
معركة 1970 شكلت نقلة في لبنان بين عهد الشهابية وبين خصومهم من الأقطاب الموارنة

لبنان في تلك الفترة أقبل على فترة حرب واضطرابات غداة اتفاق القاهرة وحرب 1967

الرئيس صائب سلام رفض ترشيح شمعون رغم أن كليهما من المعارضين للشهابيين

فؤاد شهاب قال: سيعتبر اللبنانيون أن مهمتهم انتهت بانتخابي وبمجرد نزول فدائي واحد إلى ساحة البرج ستتبخر هالتي
مع إعلان رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع في 18 يناير الماضي ترشيح رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون رسمياً لرئاسة الجمهورية من معراب (حيث مقر جعجع)، وقبله ترشيح الرئيس سعد الحريري لزعيم «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية، بدأ التداول في إمكان استعادة السيناريو الرئاسي الذي حصل العام 1970 حين تَواجه سليمان فرنجية الجدّ مع المرشح الشهابي إلياس سركيس، في الانتخابات الرئاسية ما أسفر عن فوز فرنجية حينها بفارق صوت واحد.

تختلف ظروف تلك المرحلة جذرياً عن الوضع الذي نعيشه حالياً، لكن ثمة معالم أساسية يمكن من خلال استعادتها، قراءة تلك الفترة الحساسة من تاريخ لبنان عشية حرب العام 1975 وإسقاطها على ما نشهده حالياً من مواجهة سياسية بين مرشحيْن رئيسييْن ومَن وراءهما.

الفارق الأساسي أن لا أحد يتوقّع أن يتواجه عون وفرنجية في جلسة واحدة، رغم أن الفريق الذي يرشح فرنجيه ويؤيده أي «تيار المستقبل» (بقيادة الرئيس الحريري) في شكل أساسي وشخصيات من قوى 14 مارس، يدفع في هذا الاتجاه ليقينه أن فرنجية قادر على استقطاب الأكثرية من الأصوات التي تخوّله الوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية. أما عون ومن خلفه «حزب الله» الذي يدعمه، فيخالف هذا الرأي ولا يرضى إلا بانتخابٍ على أساس «الجنرال» مرشح وحيد خشية حصول مفاجآت في جلسة الانتخاب، وهو الأمر الذي يعيد إلى مفاجأة العام 1970 التي أدت إلى فوز فرنجية الجدّ بفارق صوت واحد، رغم أن «المكتب الثاني» الذي عمل لفوز سركيس كان يتوقع الفوز بفارق أصوات عدة.

يقول الوزير الراحل يوسف سالم في كتابه «خمسين سنة مع الناس» إن «آخر لبناني في آخر قرية من لبنان كان يعتبر نفسه طرفاً في تلك المعركة (...) وانصرف اللبنانيون إلى متابعة تطورها باهتمام لم يسبق له مثيل».

أهمية معركة 1970 أنها كانت تشكل نقلة بين عهد الشهابية الذي امتدّ بين عهد الجنرال فؤاد شهاب (1958 - 1964) وخليفته شارل حلو (1964 - 1970) وبين خصومه من الأقطاب الموارنة، الذين شكلوا «الحلف الثلاثي» أي الرئيس كميل شمعون وبيار الجميل وريمون أده إضافة إلى المعارضين للشهابية من الكتل النيابية الوسطية.

عشية الانتخابات الرئاسية، كان الجو السائد «شهابياً» أن الرئيس فؤاد شهاب سيترشح مجدداً إلى رئاسة الجمهورية، بعد انتهاء عهد الرئيس شارل حلو، وقد بدأت مجموعة من الشخصيات السياسية، إضافة إلى عمل «المكتب الثاني»، بالتحضير لإيجاد أجواء مؤاتية لإعادة طرح اسم شهاب مرشحاً رئاسياً. في ذلك الوقت كانت الأقطاب الموارنة تحديداً يعتزمون مواجهة شهاب بأي ثمن، وخصوصاً بعدما تمكن هؤلاء من تحقيق فوز كاسح في الانتخابات النيابية العام 1968.

يروي الوزير الراحل فؤاد بطرس في مذكراته أن الرئيس الراحل رشيد كرامي هو مَن رشّح شهاب باسم نواب «النهج»، ثم أعلن بيار الجميل ترشّحه، وتقاطرت الشخصيات السياسية إلى منزل شهاب تحضّه على قبول الترشيح «وبدا من خلال استطلاع آراء النواب أن فوز الجنرال بالانتخابات مضمون، لكن ما لم يكن مضموناً هو مصير البلد بعد الانتخابات الرئاسية».

بحسب بطرس فإنه أثناء نقاشه شهاب في الموضوع، لمس منه ميْله إلى رفض الترشح، رغم أن نواب «النهج» كلفوا بطرس إيصال تمنيهم إلى «الجنرال» بقبول ترشيحهم له. لكن شهاب رفض لأنه كان يعتبر أن عودته رئيساً من دون صلاحيات ستكون عودة فاشلة.

كان لبنان مقبلاً في تلك المرحلة على فترة حرب كما قال شهاب، وعلى مشاكل واضطرابات غداة «اتفاق القاهرة» وحرب 1967 وتداعياتها، وكان شهاب يخشى كيف أن رئيس الحكومة يرفض إنزال الجيش ويهدّد بالاستقالة في كل مرة كان الرئيس شارل حلو يحاول الإمساك بالوضع الأمني، وتالياً إذا تكرر الأمر نفسه، فهذا يعني أن الجنرال سيفشل، في عهده الثاني.

وهكذا أعلن شهاب عزوفه عن الترشح مجدداً في بيان رسمي، وتمنى خلال اللقاءات على حلفائه ومناصريه من النواب والزعماء اختيار مدير عام رئاسة الجمهورية في عهده إلياس سركيس مرشحاً رئاسياً وكان قد أصبح حاكم مصرف لبنان.

يقول بطرس: «كشهابيين لم نفكر بغير سركيس، وقد أشارت الدلائل إلى فوزه وإن بفارق غير كبير، إلى أن أعلن سليمان فرنجية ترشحه بعدما فاتحه بالأمر الرئيس كميل شمعون وأقنعه به».

لم يثر اختيار شهاب لسركيس كثير ارتياح لدى بعض الزعماء الذين كانوا ينظرون إلى سركيس على أنه موظف رسمي سواء كمدير عام للقصر الجمهوري أو حاكم لمصرف لبنان، في زمنٍ كان الزعماء يتحدّرون من عائلات إقطاعية ويتمتعون بألقاب كـ «البك» أو «الشيخ» أو «الأمير»، إضافة إلى أن شهابيين موارنة كانوا يعتبرون أنهم الأحقّ في ترشحهم من سركيس، نسبةً لتاريخهم السياسي سواء في مجلس النواب أو في الحكومات المتعاقبة.

لكن شهاب أصرّ على موقفه، فاضطر ضباط «المكتب الثاني» والسياسيون الذي يؤيدون شهاب على الموافقة عليه. وحده النائب جان عزيز، الشهابي بامتياز، رفض الامتثال لطلب شهاب والتصويت لسركيس.

وحين سئل الرئيس السابق للاستخبارات العميد غابي لحود في حوار مع مجلة «الوسط» العام 1989 لماذا اختار شهاب سركيس؟ أجاب: «كان الوضع صعباً. استقطاب داخلي ذو اتجاهات طائفية. وتصاعد في نشاطات المقاومة الفلسطينية التي بدا، غداة (اتفاق القاهرة)، إنها لن تلتزم ما جاء فيه بسبب تعدد الفصائل وارتباطاتها. في هذا الوضع المعقد اتجهت الأنظار مجدداً إلى فؤاد شهاب، لكنه كان لا يقبل البحث بهذا الموضوع على الاطلاق. وذات يوم قلتُ له: يا فخامة الرئيس البلاد تحتاج إليك والحمل ثقيل. فأجاب:يا ابني الحمل ثقيل علي وعلى غيري. الفارق أن اللبنانيين سينتظرون مني أضعاف ما سينتظرونه من غيري وأنا لا أستطيع صنع المعجزات. إذا انتُخبت سيعتبر اللبنانيون والسياسيون أن مهمتهم انتهت عند انتخابي وأن على شهاب أن يحلّ المشكلة. غداً لمجرد أن ينزل فدائي واحد باللباس المرقط إلى ساحة البرج، وهو ما يُنتظر أن يحصل ويستمر، تعود المشكلة من أوّلها وتتبخر هالة فؤاد شهاب. الحلول السحرية غير موجودة. سألتُه: مَن القادر في نظرك على ضمان مصلحة البلد في حال انتخابه؟ فأجاب:الياس سركيس».

وأضاف: «كل ما يرد في ذهني عما يجب عمله سيفعله من دون أن يحاسبه أحد على النتائج، وأنا مستعدّ للتشاور معه حين يرى ذلك مفيداً له. الشعب سيعطي سركيس فرصة أكبر وسيمهله، أنا سيطالبني بالحل فوراً».

في المقابل كان أركان (الحلف الثلاثي) يعدون العدة لمواجهة شهاب، حتى لو أعلن عزوفه، وكانت النقطة الأساسية تكمن في اختيار المرشح الأفضل لمواجهة شهاب أو مَن يختاره. في البدء رشّح شمعون الجميّل كـ(مرشح مناورة)، لكن أدّه كان يريد الترشّح ويتحضّر لحملة دعم أهمّها من الزعيم الدرزي كمال جنبلاط.، وفي ظلّ اتصالات بين كرامي ورئيس مجلس النواب آنذاك صبري حماده، وهما شهابيان عتيقان، لاختيار مرشح بديل عن سركيس، وطرْح أسماء كالنائب جان عزيز أو ميشال بشارة الخوري، فاجأ شمعون الجميع بإعلان ترشحه من دون إبلاغ زميليْه في الحلف الثلاثي الجميّل وأده.

رفض الرئيس صائب سلام ترشيح شمعون، رغم أن كليهما من المعارضين للشهابيين، بخلاف رأي النائب كامل الأسعد الذي غدا لاحقاً رئيساً لمجلس النواب. وبعدما تبيّن لمعارضي شهاب أن أياً من المرشحيْن أده أو شمعون لن يستطيعا تأمين أكثرية الأصوات، طُرح اسم سليمان فرنجية مرشحاً في مواجهة سركيس.

وافق أركان الحلف الثلاثي الموارنة على ترشيح فرنجية، ومعهم كتلة الوسط، ومن ثم أيّده كمال جنبلاط الذي قسم أصوات كتلته بين سركيس وفرنجية لاعتبارات شخصية تتعلق بعلاقة نواب كتلته بكلا الرجلين.

في 17 اغسطس 1970 عقدت جلسة انتخاب الرئيس، في مواجهة غير مسبوقة بين مرشحيْن. وفي الدورة الأولى نال سركيس 45 صوتاً ونال فرنجية 38 صوتاً وبيار الجميل عشرة أصوات، وجميل لحود خمسة أصوات وعدنان الحكيم صوتاً واحداً، علما أن عدد أعضاء البرلمان آنذاك كان يبلغ 99 نائباً، وأثارت الدورة الأولى حماسة الشهابيين إلا قلة منهم، الذين خشوا الخسارة.

أُجريت دورة ثانية، لكن عدد الأصوات بلغ المئة فألغيت نتائجها، وقيل لاحقاً إن الورقة المئة ألقيت بهدف الضغط لإرجاء دورة ثالثة وإعادة خلط الأوراق والضغط لإجراء تعديل في مواقف النواب المتردّدين من أجل إيصال فرنجية.

وفي الدورة الثالثة كانت أعصاب النواب على أشدّها، حين وصل الفرز إلى 45 صوتاً لكل من سركيس وفرنجية بعدما جيّرت كتلة الكتائب أصواتها له، مع بقاء ورقة واحدة للفرز، ليعلن نائب رئيس المجلس ميشال ساسين أن الورقة الأخيرة لفرنجية. وحينها علا التصفيق في القاعة وبدأ مناصرو فرنجية يحتفلون داخل القاعة وخارجها، لكن رئيس البرلمان صبري حماده حاول التذرع بأن أحداً من المرشحيْن لم ينل الأكثرية ويريد إعادة النظر في الانتخاب، فاعترض مؤيدو فرنجية على تصرف حماده الذي أعلن أن الفوز يحتّم الحصول على 51 صوتاً، لكن تفسير هيئة مكتب المجلس كما قال حماده أعطى الفوز لفرنجية، فأعلنه رئيساً للجمهورية.

وتضاربت المعلومات حول ما حصل في الغرفة التي انسحب إليها صبري حماده. والغالب الذي تُجمِع عليه روايات تلك المرحلة أنه اتّصل بشهاب الذي طلب منه إعلان النتيجة بفوز فرنجية. في حين قال لحود في حواره مع مجلة (الوسط) العام 1989: «جرى اتصال معي، فكان موقفي بلا تردد أن فوز فرنجية يجب أن يُعلن وهذا ما حصل»، موضحاً أن فوز (سركيس) كان محتّماً بحسب حساباتهم لو أن المواجهة كانت بين سركيس وأده، ومتهماً أربعة او خمسة نواب بأنهم لم يفوا بوعدهم بالاقتراع لسركيس، ومسمياً عبد اللطيف الزين الذي كان يتردّد بصورة مستمرة على سركيس ووعد بتأييده، وأحمد أسبر الذي قال إنه سيؤيد سركيس إلا إذا كان منافسه ريمون أده، ومحمد دعاس زعيتر الذي غيّر موقفه لأسباب غير سياسية.

أما الوزير والضابط الشهابي سامي الخطيب فيقول لـ(الوسط) العام 1989 إن «خطأ كبيراً حصل في إدارة المعركة حين ترشّح فرنجية للرئاسة إذ كان علينا أن نلجأ إلى التسوية وإما أن نؤجل الانتخابات،

لأنه اتضح أن القصة على صوت. مَن يخوض معركة على صوت؟».

وعندما سألنا غابي لحود «ما هي الخطة البديلة إذا سقط إلياس سركيس؟ قال: نفوت بالقزاز». لماذا؟ هل يوجد قائد عسكري لا يكون عنده خطط بديلة حتى يخلص جماعته؟ دخلنا كلنا في المعركة بصدورنا. إذا سقط إلياس سركيس فسنُحاسب، وهكذا صار».

هذا السيناريو تحديداً الذي لا يمكن لأيّ طرف اليوم أن يغامر به،

إذا كان لا يضمن الأكثرية النيابية لإيصال مرشحه. فكيف الحال إذا كان هذا الطرف هو (حزب الله) الذي يخوض معركة أساسية في ما يتعلق برئاسة الجمهورية في لبنان، سواء لجهة اعتقاد خصومه أنه لا يريد مطلقاً إجراء انتخابات رئاسية أو لجهة الاعتقاد أنه لا يمكن أن يُغامر بإيصال مرشح (تيار المستقبل) إلى القصر الجمهوري.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي