المشهد الأخير

بديعة مصابني... فارقت وحيدة في «سهل البقاع» / 6

تصغير
تكبير
| القاهرة - من حنان عبدالهادي |
إذا كانت الأفلام المصرية... اشتهرت في خمسينات وستينات القرن الماضي، بالنهايات السعيدة... كانتصار قوى الخير على الشر، أو التقاء الحبيبين، بعدما ظنا كل الظن ألا تلاقيا، وزفافهما بين الأهل والأحباب والأصحاب... فإن المشهد الأخير في حياة عدد غير قليل من الفنانين والمشاهير المصريين والعرب كثيرا ما بدا مأساويا مؤلما مفعما بالحزن.
ففي لحظة فارقة... تنطفئ أضواء النجومية، ويضعف الجسد الذي كان يوما ممشوقا يصول ويجول أمام الكاميرات، ويقدم أصعب الأدوار وأعنفها.
في لحظة فارقة... تكتفي الحياة بما قدمته لفنان ما، وتقول له «يكفيك هذا... لقد حانت نهايتك»... وشتان بين إقبال الحياة وإدبارها وتبسمها وسخريتها، وعطفها وقسوتها، وفارق كبير... بين أن تربت على كتفيك وتفيض عليك بحنانها، وبين أن تركلك بأرجلها، كما يركل اللاعب الكرة.
كم كان مؤلما... المشهد الأخير في حياة فنانين أثروا الشاشتين الصغيرة والكبيرة بأعمال مميزة، لاتزال باقية في الذاكرة، أو مطربين ومطربات أثروا وجداننا ببديع أصواتهم، أو نجوم ومشاهير في مجالات أخرى... كان لهم حضور قوي... وتأثير واسع، سرعان ما ينهار ويندثر.
فبينما كان النجم أحمد زكي يواصل تألقه وإبداعه الفني، باعتباره «حالة فنية مختلفة»... أوقفه المرض الخبيث، وأخفى حالة من الحزن في الوسط الفني، لم تنته بعد، وبالرغم من مرور نحو 4 أعوام على وفاته، ويشبهه شكلا ومصيرا عبد الله محمود الذي قتله السرطان في ريعان شبابه.
كما جاءت نهاية ممثلة بسيطة وطيبة القلب مثل وداد حمدي مؤلمة... عندما غدر بها «ريجسير»، وقتلها في شقتها، من دون أن تقترف في حقه إثما، وفي أوج تألقها... أمطر رجل الأعمال المصري أيمن السويدي زوجته المطربة التونسية ذكرى بـ «21» طلقة، لتقضي نحبها في الحال.
وهكذا تتعدد النهايات الحزينة لفنانين ومشاهير... طالما أمتعونا وأسعدونا، وطالما عاشوا عقودا من الشهرة والأضواء والثراء... ولكن الأقدار... التي يصرفها البارئ... كيف يشاء... وفي السطور التالية... نهايات مع الفقر والحاجة والمرض والنسيان وأشياء أخرى.
شتان الفارق بين حياة الشهرة والثراء والنجومية... التي عاشت أجواءها بديعة مصابني... وبين المشهد الأخير في حياتها... فبعد عقود من مصادقة الساسة والأثرياء ونجوم المجتمع... انتهى بها المطاف في سهل البقاع، وحيدة، لا أهل ولا أصدقاء ولا أحد يسأل عنها.
تزعمت بديعة مصابني المسرح الاستعراضي لمدة 30 عاما، وكانت صالتها زاخرة بالفنانين وعوامتها قبلة للأثرياء وصفوة المجتمع، لكن مشهد النهاية كان عبارة عن وحدة وعزلة تامة فوق جبال لبنان فعلى عكس النهايات السعيدة التي قدمها العديد من الفنانين الكبار في الأفلام المصرية القديمة جاءت نهاية حياة الفنانين الواقعية شديدة الأسى والحزن.
فنانة استعراضية
ولدت بديعة العام 1892 ميلادية في لبنان من أسرة سورية وهاجرت مع والدتها إلى الولايات المتحدة لتعود العام 1919 إلى مصر، حيث تعلمت الغناء والرقص وعاشت أعواما طويلة في القمة، وكانت واحدة من ألمع نجوم الفن وكانت الفنانة الاستعراضية الأولى، وأتيح لها أن تخرج كثيرا من الفنانين من خلال صالتها، وكانت فرقتها أشبه بمدرسة تخرج فيها عدد كبير من فناني الغناء الاستعراضي ومن أبرزهم «فريد الأطرش وتحية كاريوكا وسامية جمال وهاجر حمدي ومحمد الكحلاوي ومحمد فوزي» ممن لمعت أسماؤهم في مجال الفن في السينما والمسرح والاستعراض.
عقد بديعة
وظلت بديعة مصابني تتزعم المسرح الاستعراضي نحو 30 عاما، استطاعت خلالها أن تجمع ثروة طائلة، وتعتبر بديعة فنانة عرفت العز، وإن كان البعض يتهما بأنها امرأة كانت تفتح صالة للرقص والمجون، ولكن بديعة كانت تعاني من 3 عُقد.
الأولى أنها تعرضت للتحرش... حين كان عمرها 7 أعوام، والثانية أنها وهي طفلة كانت تعاني الفقر الشديد مع أمها السورية وأبيها اللبناني ما جعلها تأتي مع أمها إلى مصر وكانت تبحث عن خال ثري لها، لكن بعد رحلة طويلة من البحث والعناء لم تجداه ووجدتا قبره في بلبيس بالشرقية «85 كيلو مترا شرق القاهرة».
أما العقدة الثالثة فهي الخلل العائلي الذي عاشته عندما توفي والدها وهي في سن صغيرة، هجرة أشقائها وتفرقهم في العديد من البلدان... كل ذلك كان من الأمور التي شكلت طبيعة بديعة مصابني وجعلتها تبحث بنهم عن المال بأي شكل حتى إنها أقامت علاقات مع الساسة ورجال المال والأعمال الذين كانوا يغدقون عليها المال وهي غير عابئة بما تدفعه في مقابل ذلك المال.
حياة لاهية
حياة بديعة مصابني... لا تخلو من الرقص والخمور وكانت تعتبر في ذلك الوقت فاتنة وخاطفة لقلوب الرجال... وتعتبر بديعة انعكاسا صادقا للعصر الذي عاشت فيه حيث كانت بلادها ترزح تحت الوصاية التركية والفرنسية، كما أن هناك في مصر كان يقبع الاحتلال الإنكليزي - وهو أشد قسوة كما أن الظروف المعيشية. تقترب من المجاعة، وظلت بديعة تتزعم المسرح الاستعراضي.
عندما جاءت بديعة إلى القاهرة... انضمت إلى فرقة جورج أبيض ومنذ اليوم الأول الذي عملت فيه برزت كفنانة وراقصة تجذب قلوب الرجال وأنظارهم إليها، فقد كانت ذات مواهب متعددة في الرقص والغناء والتمثيل، وكان من بين نجوم الفن آنذاك الشيخ أحمد الشامي... الذي كان يبحث عن بطلة تتمتع بتلك المواهب المتعددة.
لما سمع الشامي عن بديعة... سعى إليها ليضمها إلى فرقته ويسند إليها أدوار البطولة مقابل راتب شهري كبير، وهناك جمعتها الصدفة بالممثل نجيب الريحاني الذي قرر أن يعمل معها عملا مشتركا وأعد لها مع بديع خيري مسرحية «الليالي الملاح» التي نجحت نجاحا فنيا وجماهيريا كبيرين وأسهمت في تعريف الجمهور ببديعة مصابني، وبعد ذلك لعبت بديعة دور البطولة في العديد من المسرحيات من خلال فرقة نجيب الريحاني ومنها «الشاطر حسن» و«أيام العز» و«ريا وسكينة» و«البرنسيسة» و«الفلوس ومجلس الأنس» وفي هذه الأثناء اتفقا على الزواج هي ونجيب الريحاني بعد أن أحب كل منهما الآخر وبالرغم من ذلك الحب لكن الحياة بينهما لم يقدر لها الاستمرار لاختلاف طباعهما لذا فقد قررا الانفصال وبالفعل انفصلت بديعة عن نجيب، وأسست مسرحا استعراضيا لها، ومن خلاله استطاعت أن تكون ثروة طائلة.
زواجها من الريحاني
البعض يقول: إن نجيب التقى بديعة في قرية في حضن الجبل لكن الرواية الأدق تقول إنها هي التي دقت باب نجيب الريحاني وطلبت منه عملا آنذاك منتصف العشرينات وكان الريحاني نجم المسرح الكوميدي الباحث عن جمهور من طبقة الموظفين والشوام المهاجرين والتجار المستورين،. كانت بديعة مملوءة بالأنوثة والدلال فقد كانت نوعا غريبا ونادرا في بيئة محافظة مثل مصر كانت ترقص وتغني وتمثل، وتضفي جاذبية.
ظلت بديعة مرتبطة بالريحاني تزوجها ليكمل العلاقة التي يشبهها البعض كالعادة ببجماليين «صانع الجميلات» في الأسطورة اليونانية لكن طموح بديعة مصابني كان أكبر من مسرح وبيت الريحاني، فافتتحت أول صالة رقص تملكها راقصة، وهي مكان فندق شيراتون القاهرة الآن وكانت قريبة من المعسكر الإنكليزي في قصر النيل.
وأصبح كازينو بديعة مؤسسة هي الأولى من نوعها لرعاية تلك الفاتنة اللبنانية التي أصبح لها وزنها في صناعة الرقص الشرقي، وأيضا سجلت بديعة باسمها «رقصة الشمعدان».
وبعد ذلك أصبح كازينو بديعة... مدرسة تخرج فيها العديد من الفنانين، وكانت الكاتبة الانكليزية «أرتيميس كوبر» تحكي عما شاهدته في القاهرة أثناء الحرب العالمية الثانية أيام تألق بديعة مصابني فقالت: إنه في تلك الفترة كانت الصالات والكباريهات والمقاهي الموسيقية لا تخلو من الجنود والضباط البريطانيين والحلفاء العائدين من جبهات القتال للراحة والانتعاش، وقد ازدهرت صالات «بديعة مصابني» و«ببا عزالدين» بالكيت كات وكباريهات شارع الهرم الذي بدأ يحتل مكانته كمركز للهو في شارع عماد الدين، وزادت أعداد الراقصات زيادة كبيرة، وقد تزايد إعجاب الأجانب بـ «رقصة البطن» الشهيرة واشتهرت نتيجة لذلك تلميذات مدرسة بديعة مصابني أمثال «تحية كاريوكا وسامية جمال وحكمت فهمي» وكلهن تألقن في هذه الرقصة ورقصات أخرى، كما أعادت الراقصة شوشو البارودي رقصة البطن بـ «رقصة الحلفاء ونجاح الديموقراطية».
الضرائب... تلاحقها
وهذه الأيام الزاهرة أنهت على طريقة أفلام الثورة التي قادتها بديعة مصابني من الرقص وكونت لها ثروة كبيرة، لكن الضرائب طالبتها بديون طائلة، وفشلت المفاوضات، وكادت أن تحجز عليها، وكما تقول الحكاية الشائعة: «جمعت أموالها وقررت مغادرة مصر إلى لبنان»... ذلك ما ذكرته الكاتبة الإنكليزية.
وتقول بديعة في مذكراتها... «عندما شبت الحرب العالمية الثانية... كان ذلك سببا لأن تكون أكثر ثراء فقد تحول مسرحها بدلا من مسرح تقدم فيه المسرحيات أو العروض للجمهور العادي إلى أداة للترفيه عن الجنود الإنكليز الذين يخوضون حربا ضد الألمان داخل مصر وأيضا للترفيه عن حلفاء الإنكليز.
وبعد انتهاء الحرب... حاولت بديعة العودة مرة أخرى واستعادة مجدها فقد كونت ثروة كبيرة وهي تريد الشهرة وأيضا تريد المزيد من المال، غير أن معظم المواهب التي رعتها بديعة من قبل... كانت قد ذهبت وانخرطت في مجال السينما وبذلك خسر مسرحها الاستعراضي بعدم عودة هؤلاء النجوم السينمائيين إليها، وبدأت الضرائب تطالبها بديون قديمة لم تسددها، كما بدأت تضيق عليها الخناق، وتهددها بالحجز والبيع.
وأصبحت ملكة الليل التي صنعت نجمات الرقص الشرقي كتحية كاريوكا وسامية جمال... واقامت علاقات مع مسؤولين ورجال سياسة في مصر في الأربعينات من القرن الماضي، وأقامت «كازينو إندكسي» في شارع عماد الدين بتمويل من أحد عشاقها كما ذكرت في مذكراتها التي تركتها في مأزق حرج، وبعد أن وقع الخلاف بين بديعة ومصلحة الضرائب نتيجة لتقدير الضرائب المستحقة منذ العام 1944 إلى العام 1949، خصوصا أنها كانت صاحبة أكبر ملهى في ميدان الأوبرا في القاهرة «كازينو بديعة»... جمعت ثروتها وقررت أن تهرب إلى لبنان وبالفعل قامت بذلك بعد أن اتفقت مع طيار إنكليزي على تهريبها وتخفت بديعة في ملابس راهبة في مستشفى واستقلت الطائرة التي كانت رابضة في ميناء روض الفرج الجوي قبل إلغائه ويقال إنها خافت من مضايقات الملك فاروق لها لذا هربت للبنان واستطاعت أن تستغل ثروتها في مشروعات زراعية حققت لها أرباحا كبيرة، وقد دخلت إلى لبنان عن طريق سورية واستقرت في مدينة شتورة العام 1950وأسست متجرها التجاري الأول العام 1952 في شتورة وبنت أيضا منزلها المعروف اليوم في لبنان بفيلا «عقل» لكنه هُدم وجرف.
استقرار في لبنان
تمتع متجر بديعة بشهرة كبيرة يحقق نجاحا تجاريا، وكانت تتمتع كما يروون عنها بشخصية قوية وتطلب دوما من عمال متجرها الاستراحة والجلوس معها والتمتع بنفث دخان السجائر والنرجيلة والاستماع إلى الموسيقى والغناء، وكانت دائما ما تحن لأيام العز الخوالي في القاهرة والشهرة في مصر... كانت بديعة في نظر جيرانها وأصدقائها تبدو سعيدة بالرغم من الحزن الكبير الذي يسيطر عليها والذي لا يعرفون سببه... وهو الوحدة والعزلة من دون أن يكون بجوارها أحباؤها أو أصدقاؤها.
وجود بديعة في شتورة... أضفى على المنطقة نكهة مميزة، وكانت بديعة بسيطة وكريمة أما لهجتها المصرية فقد كانت قريبة من القلب فقد عاشت أيامها السابقة بالقاهرة، لكن حياتها في شتورة أعطت لبديعة صفحة أخرى عاشتها عند سفح الجبل بسهل البقاع.
أمضت بديعة 24 عاما في شتورة قبل أن تودع الحياة الصاخبة وتدفن في منطقة البترون، ومازال متجرها في شتورة يقصده الكثير من الناس ليتذكروا هذه السيدة التي كانت لها صولات وجولات فيما مضى بالقاهرة مع الرقص، وصفحة أخرى على طريق الشام الدولي في شتورة عندما ينبسط الطريق مع سهل البقاع حيث يوجد مطعم بديعة مصابني مرتفعا فوق مطعم صغير وعلى بعد أمتار من بلد حديثا مطعم آخر باسمها أيضا.
حكايات بديعة
ويروي المسنون حكايات بديعة أيام العز في القاهرة وحكايات عن الأيام الأخيرة للراقصة بديعة خلال النصف الأول من القرن الماضي.
أما سكان المنطقة فيسمونها باسمها الحقيقي «وديعة جورج مصابني» وكانت قد افتتحت بديعة مطعمين لبيع السندويتشات فالبعض يروي أنه عندما كانوا يمرون من أمام متجر بديعة كانوا يرونها جالسة على كرسي أمامه وكانت تجلس بعزها وأناقتها وكان الكبار يقولون عنها عندما يرونها أنها بديعة الراقصة، وكانت العصا دائما بيد بديعة ولم تفارقها طوال أيامها الأخيرة.
كان أحد المسنين إلياس سعادة يمضي معظم أوقاته جالسا مع السيدة بديعة، وكانت امرأة معروفة بكرمها وطيبتها وكانت تعطي المال للمحتاجين والفقراء وكانت تتمتع بشخصية قوية.
وحدة وعزلة اجبارية
لم تشعر بديعة بالألم البدني ولم تعان أمراضا أو مشاكل صحية لكنها كانت حزينة لوحدتها وكانت ترغب في العودة إلى سابق عهدها وأيامها الخوالي عندما كانت تجمع الثروة الطائلة وتعرف الكثير من المسؤولين والسياسيين وكانت حياتها صاخبة مملوءة بالأنوار والشهرة.
وفي 23 يوليو العام 1974 ماتت بديعة مصابني عن عمر يناهز السادسة والثمانين من عمرها وقبل أن تموت وقعت على الدرج وأدخلت مستشفى تل شيحا في زحلة ومن ثم فارقت الحياة، فالفنانة الراحلة بديعة مصابني عاشت سنوات حياتها الأخيرة في عزلة تامة فوق جبال لبنان وماتت وحيدة في ظروف مأساوية بعيدة عن أصدقائها وليس لها عائلة فقط اعتبر المحل والقائمين على خدمتها، فقد كانت ثروتها لا تغني عن الصداقة والعائلة وأيام العز التي ماتت وهي مشتاقة إليها.
والمعروف أن بديعة لم تعمل في الفن بعد عودتها للبنان باستثناء فترة عملت فيها مع فرقة شوشو الشهيرة هناك.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي