مشاهد

أزمة البياتي

تصغير
تكبير
| يوسف القعيد |
مات عبدالوهاب البياتي، يوم الثلاثاء 3/8/1999 في دمشق، قالت وكالات الأنباء أن مـــديرة منـــزله في دمشق وجدته في الفجر جالساً على كرسي هزاز وقد وافاه الأجل وهو على هذا الوضع، وظل هكذا حتى استيقظت، كان البياتي قد أوصى أن يدفن بجوار محيي الدين بن عربي، صاحب الفتوحات المكية، الموسوعة الشهيرة جداً في تاريخ الكتابة العربية، في دمشق، وكان عبدالوهاب أحمد جمعة خليل البياتي - وهذا هو اسمه بالكامل - قد ولد في 19/12/1926، جدة.
وحملت وكالات الأنباء أيضاً، أن عدداً من مثقفي سورية قد قاطعوا الجنازة التي سار فيها عدد من شعراء المنفى العراقيين، وإن لم تقل السبب في مقاطعة مثقفي دمشق للجنازة، ومن الغرائب والعجائب أن الذين كانوا في الجنازة لم يكونوا يعرفون مكان ضريح محيي الدين بن عربي، ولذلك بعد أن توقفوا عند ضريح ما، وبدأوا إجراءات الدفن، اكتشفوا أنها ليست المقبرة المقصودة، فبدأوا من جديد رحلة بحث أخرى.
هذه التفاصيل ذكرتني بما جرى في جنازة «أنطون تشيكوف»، الذي كتب ضد التفاهة والسوقية والانحطاط الإنساني، فقد تصادفت جنازته مع جنازة جنرال في الجيش الروسي، وجرى استبدال النعوش، فحظي تشيكوف بتقدير لم يتوقعه ولم يعمل له أي حساب، في حين أن نعش الجنرال لم ينل سوى الإهمال الرهيب.
أعود إلى عبدالوهاب البياتي، وأقول إني قابلته في حياته في أكثر من عاصمة عربية، كان اللقاء الأول في قاهرة الستينات، حيث كان لاجئاً سياسياً، كان يجلس في مقهى «لاباس» بشارع قصر النيل بالقرب من ميدان سليمان باشا في وسط العاصمة المصرية القاهرة، وحوله عدد من المريدين، وكنا نجلس حول نجيب محفوظ في مقهى ريش، وبينهما يقع ميدان سليمان باشا، طلعت حرب إن شئنا الدقة الوطنية، مسافة دقيقتين أو ثلاث على الأقدام، لكن كان هناك فارق جوهري، أن نجيب يجلس في نفس لاباس، المخرج صلاح أبو سيف، الذي كان يبكر كثيراً جداً عن البياتي.
كان البيــاتي، في ذلك الوقـــت قد نـــشر دواوينه الأولى التي كانــــت تضـــج بالثـــورة والرغبة في تغيـــير العـــالم إلى الأفضـــل والأحسن، وكان قد صدر عـــنه الـــكتاب الأول، الكـــتـــاب النـــقدي الأول الذي كان صاحبـــه هـــو الدكتور إحـــسان عباس، وكان البياتي مشـــغولاً - في تلك الأيام - بجمع المقالات المنشورة عنه في الصحف والمجلات، لكي يصدرها في كتب، وقد استمرت هذه الحالة عنده حتى سنوات عمره الأخيرة.
عندما ذهبت إليه للمرة الاولى، لم أكن قد عملت في الصحافة بعد، كنت مجنـــداً في القـــوات المســـلحة المصرية، وقد لاحظت أن الرجل يفـــرق بين الصحافيين وغير الصحافيين في تعامله، كان يهش ويبش، للصحافي لأنه يتـــعامل معه باعتباره إعلامياً يمكن أن يكتب عنه حتى مجــرد خبر.
لاحظت في هذه اللقاءات الأولى، أنه يجمع حوله أكبر عدد من المثقفين، وأنه كان المتكلم الوحيد طوال الوقت، ولابد أن ينصت له الجميع ويعبرون عن استحسان ما يقوله بهزات من رؤوسهم، وإن كنت قد وجدت صعوبة في فهم ما يقوله، أولاً لانخفاض صوته الذي ربما يصل إلى حدود الهمس، وثانياً لأنه كان يستخدم ملامح وجهه في التعبير عما يريد التعبير عنه.
قابلت البياتي بعد ذلك في أكثر من عاصمة عربية، مرة في بغداد عندما رأيته جالساً على مكتب في وزارة الإعلام العراقية ويضع على عينيه نظارة طبية، في هذه اللحظة رن في ذهني جزء من بيت شعري لصلاح عبدالصبور، يقول فيه:
- السندباد كالإعصار، إن يهدأ يمت.
ويومها تكلم البياتي معي، ولكن عن مرور الوقت والملل من البقاء - هكذا - من دون حوادث كبرى وأحداث مهمة وإن كان قد تجنب الكلام في السياسة تماماً، جرى هذا في منتصف السبعينات، ومنذ هذا التاريخ وهو لا يتكلم في السياسة، وإن كان حديثه عما يجري في بغداد يستخدم عبارات شديدة الغموض.
ثم حدثت حالة من الوحشة بينه وبين الآخرين، كان هجومه على كل من عداه ضارياً، ولا يترك أحداً دون حكايات يشيب لها شعر الرأس عن جميع المثقفين العرب، لدرجة أن هذه الحكايات كانت قد تجاوزت شعره الذي تحول من الشعر النضالي إلى شعر صوفي، فيه أشواق وحب وإحباط وأحزان بلا حدود.
كان حديثه عن الناس قد تجاوز جميع الحدود، وكنا نتعامل مع هذه الحالة، على أنها من تجليات أبوعلي التي لا بد من قبولها، والتعامل معها باعتبارها من أمور الواقع التي لا دخل للإنسان فيه.
ربما كان المنفى هو السبب في هذه الحالة، كان أقوى ما فيه لسانه، كان مركز الكون بالنسبة له، وكان يواجه به ظروفه الصعبة والمتدهورة، خصوصاً بعد سحب جواز سفره العراقي، وكما بدأ حياته الشعرية جارحاً مع الطغاة والبغاة، فقد تحول في أخريات عمره إلى إنسان جارح بالنسبة لزملاء دربه ورفاق رحلته، لم ينج أحد من لسانه في فترة الغروب الأخيرة من عمره.
كنت أقول إن هذا الإنسان الذي يدور عمره حول سن السبعين، الذي يخرج من منفى إلى منفى، سنوات في مدريد، وسنوات في عمان، ثم السنوات الأخيرة في دمشق، من الطبيعي أن تهتز الرؤية بالنسبة له، من حقه بعض التجاوزات الصغيرة في بعض الأحيان، وعلينا أن نتحمل ذلك، برحابة صدر.
ولكن قد يتأمل الشاعر الذي بدأ في الخمسينات، يقول إنه سيصنع مطفـــأة سجـــائر من جـــماجم الطـــغاة، وكان إعصاراً حقيقياً في الشعر وفي السياسة، وكيف آلت الأحوال والأمور به قبل الوفاة والمفاجأة على كرسي هزاز في بيته وحيداً في دمشق، لابد أن يدرك حجم المأساة، وعمق الكارثة.
بعد رحيله قيل ومن خـــلال بعض وكالات الأنـــباء إن البيـــاتي كان مرشـــحاً لنــوبل في الآداب، وهذه مفـــاجأة حتى للبياتي نفسه، فالرجل في حـــياته لم تبد عليه حكاية أنه أصبح من مجانين نوبل، صحيح أنه كان في معركة مستمرة مع أدونيس، وقد أدار هذه المـــعركة من خــلال اللقاءات الصحافية التي كان يــــدلي بها بكثافة وكثرة، وكانت هذه الأحاديث هي التي وفرت له حالة من الصخب والضجيج طوال حياته.
ويبدو أنه كان يشعر بحالة من دنو الأجل، ذلك أنه بعد رحيله إلى العالم الآخر، نشرت له أكثر من عشرات الأحاديث الصحافية التي كان قد أدلى بها خلال وجوده على قيد الحياة، وفي هذه الأحاديث نجد الموقف نفسه الذي عبر عنه في حياته أكثر من مرة، ولا جديد.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي