الإسلام نهى عنها وحذّر منها وذمّ المشائين بها وتوعدهم في الدنيا والآخرة
الوشاية... خلق ذميم وسلوك مشين يقطع الأواصر وينشر الفساد ويفرّق بين الناس
الواشي هو من يسعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويبغي الفساد في الأرض
• يذكر التاريخ في صفحات سيئة ذلك الدور المشين الذي لعبه الوشاة... فأشعلوا النفوس حقداً وأوقدوا للحرب نيراناً
إن شر الناس ذو الوجهين...الذي يأتي هذا بوجه، وهذا بوجه، وينقل كلام هذا لذاك على سبيل الإفساد بينهما، وقد يتقوّل على أحدهما ما لم يقل، فيجمع بين النميمة والبهتان.
الوشاية... يا لها من خلق ذميم.. وسلوك مشين.. فكم تقطعت من أواصر، وتفرقت من قلوب، وتهدمت من بيوت، بسبب المشائين بالنميمة، الساعين بالإفساد بين الناس، المفرقين بين الأحبة، المتتبعين للعورات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) رواه الترمذي.
غير أن بعض الناس ينسى قيمة اللسان ويتناسى أخطاءه ومساوئه فيطلق له العنان بالوشاية، وما ذلك إلا لمرض في القلب حيث (...إنما جُعل اللسان عن الفؤاد دليل)، فنجد الواشي ساعياً بالغيبة والنميمة محاولاً الوقيعة بين الأصدقاء والإخوان، فلا يروق له بال، ولا يطمئن له حال إلا إذا قطع الأوصال، وفرَّق بين الناس فإذا بالصداقة تصبح عداوة وإذا بالتفاهم والود يتحول إلى حقد وبغضاء، والتقارب والتعارف يستحيل إلى تباعد ونكران، وكل ذلك جرَّاء الوشاة الذين في قلوبهم مرض يحرك ألسنتهم بالنميمة غير عابئين بما ينتج عن أقوالهم وأكاذيبهم من نتائج سيئة وأفعال مشينة في العلاقات بين الناس.
وما أكثر الوشاة الذين يحاولون تزيين أقوالهم للوقيعة وكأنهم يحاولون المحافظة على المعنى اللغوي للفعل الذي اشتقت منه الوشاية، لأن وّشِيَ الثوب معناه طرَّزه وحلاه وحسنه، فالواشي يستخدم من أساليبه الدنيئة ما يُحسِّن به بضاعته السيئة ومساعيه المسمومة للدسِّ والخديعة ويجعل من اللسان أداة طَيِّعه لمآربه الدنيئة الخادعة التي توعز الصدور وتباعد بين الناس في مختلف مجالات الحياة.
ويذكر التاريخ في صفحات سيئة ذلك الدور المشين الذي لعبه الوشاة فأشعلوا النفوس حقداً وأوقدوا للحرب نيراناً في مختلف العصور بفعل الوشاية في المجتمعات حيث إنها تبدأ من القلب ويترجمها اللسان وترجع بنتائجها إلى القلوب فتُوصد الأبواب وتقطع السبل وتفتح أبواب الشر، ويظن الواشي أنه قد أرضى نفسه وأراح فكره وحقق مآربه ناسياً ما وصفه به القرآن الكريم بأنه (فاسق) ومتناسياً أنه محاسب على كل ما يلفظ به لسانه {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} سورة ق آية 18.
ولخطورة الوشاية في المجتمع فقد حرص الإسلام على تهذيب اللسان وما يتبعه من جوارح فقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} سورة الإسراء آية 36) كما حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على حفظ ألسنتنا فقال: (مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) متفق عليه. كما جعل من يمسك لسانه عن إيذاء المسلمين من أفضل المسلمين، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله أيُّ المسلمين أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) متفق عليه.
وكثيرة هي التوجيهات النبوية التي فيها العلاج الناجح لمن يسعى بالوشاية بين الناس سواء كان في الأسرة أو في العمل سعياً منه للوقيعة أو نيل مرتبه دنيوية زائلة، أو بالوشاية بين الأصدقاء ليرضي قلبه الحاقد بدق إسفين العداوة بين الإخوان والأصدقاء.
إن مَنْ يسعون بالوشاية في حاجة لأن يمسكوا ألسنتهم عن الوقيعة وبث الضغينة بين الناس، أمَّا من يسمعون لمن يسعى بالوشاية فليراجعوا ويتفهموا قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (سورة الحجرات آية 6) وليتذكروا دائماً تلك الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحدٍ شيئاً فإني أُحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) رواه أبـو داود والتـرمذي.
ما أحوجنا نحن المسلمين إلى محاربة هذا السلوك القبيح والأخذ على أيدي المشائين بين الناس بالوشاية والنميمة حتى تسلم مجتمعاتنا من أحد أهم أسباب الفرقة والبغضاء وخراب البيوت ويدميرها وحتى يحيا الجميع في أمن وسلام فلابد من اجتثاث هذه الأمراض من جسد الأمة.
قال يحي بن أبي كثير: يُفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة.
ويقال: عمل النمام أضر من عمل الشيطان، لأن عمل الشيطان بالوسوسة، وعمل النمام بالمواجهة.
وقال أبو حامد الغزالي: «قال الحسن: من نم إليك نم عليك. وهذا إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته. وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة، وهو ممن يسعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.
وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى 42].
ولو أن هذا النمام المفسد واجه عاقلاً موفقًا فأسكته وكبّته، ولم يصغ إلى وشايته، لانقطع شره، وبطل كيده.
وقد قالت الحكماء: قبول السعاية شر من السعاية، لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي، فلو كان صادقًا في قوله لكان لئيمًا في صدقه، حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة.
ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز، فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات 6]،
وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية [ هماز مشاء بنميم ]، وإن شئت عفونا عنك. فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا.
وما أحسن قول الأعشى:
ومن يطع الواشين لا يتركوا له صديقًا وإن كان الحبيب المقربا
وقول سابق البربري:
إذا الواشي بغى يوماً صديقًا فلا تَدعِ الصديقَ لقولِ واشِ
مواجهة النمام
لقد بين العلماء أن من حملت إليه نميمة، وقيل له: قال فيك فلان كذا أو فعل في حقك كذا، فيلزمه ستة أمور:
الأول: ألا يصدقه، لأن النمام فاسق، وهو مردود الشهادة، قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات 6].
الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله، لأن النهي عن المنكر واجب.
الثالث: أن يبغضه في الله تعالى، فإنه بغيض عند الله، ويجب بغض من يبغضه الله.
الرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء، لقول الله تعالى: ( اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات 12].
الخامس: ألا يحملك ما حكى لك على التجسس والبحث لتتحقق، امتثالاً
لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات 12].
السادس: ألا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه، ولا تحكي نميمته فتقول: فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نمامًا ومغتابًا، وتكون قد أتيت ما عنه نهيت.
الوشاية في القرآن الكريم
لم يرد في القرآن الكريم ذكر للفظ الوشاية، وإنما جاءت آيات قرآنية لها صلة أو علاقة بمصطلح الوشاية، من ذلك:
1- قوله - تعالى -: ? هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ? [القلم: 11].
قال الرازي:«كونه همازًا وهو العيَّاب الطعَّان، قال المبرد: الذي يهمز الناس؛ أي: يذكرهم بالمكروه... كونه مشاء بنميم؛ أي: يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم».
2- قوله - تعالى -: ? وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ? [الهمزة: 1].
قال الرازي بعد أن ذكر سبعة أقوال في تفسيرها:«وأعلم أن جميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب».
3- قوله - تعالى -: ? ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ? [التحريم: 10].
قال الرازي في«تفسيره»:«ما كانت خيانتهما؟ نقول: نفاقهما وإخفاؤهما الكفر، وتظاهرهما على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط كانت تدلُّ على نزول ضيف إبراهيم، ولا يجوز أن تكون خيانتهما بالفجور، وعن ابن عباس:«ما بغت امرأة نبيٍّ قط».
4- قوله - تعالى -: ? وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ? [المسد: 4].
قال الرازي في»تفسيره«:»وذكروا في تفسير كونها حمالة الحطب وجوهًا... وثانيها: أنها كانت تمشي بالنميمة، يقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحل الحطب بينهم؛ أي: يُوقِد بينهم بالنائرة...«..
5- قال - تعالى -: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ? [الحجرات: 6].
سورة الحجرات فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي إما مع الله، أو مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو مع غيرهما من أبناء الجنس، وهم على صنفين؛ لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجين عنها وهم الفاسقون، والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضرًا عندهم أو غائبًا عنهم، فهذه خمسة أقسام:
أحدها: يتعلق بجانب الله.
وثانيها: بجانب الرسول.
وثالثها: بجانب الفُسَّاق.
ورابعها: بالمؤمن الحاضر.
وخامسها: بالمؤمن الغائب.
فذكرهم الله - تعالى - في هذه السورة خمس مرات ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ? وأرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة.
فقال أولاً: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... ? [الحجرات: 1]، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله؛ لأنها لا تُعلَم إلا بقول رسول الله.
وقال ثانيًا: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ? [الحجرات: 2]؛ لبيان وجوب احترام النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقال ثالثًا: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ? [الحجرات: 6]؛ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبيَّن ذلك عند تفسير قوله: ? وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ? [الحجرات: 9].
وقال رابعًا: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ... ? [الحجرات: 11]، وقال: ? وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ? [الحجرات: 11]؛ لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم والازدراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامسًا: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ? [الحجرات: 12]، وقال: ? وَلاَ تَجَسَّسُوا ?، وقال: ? وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ?؛ لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضرًا يتأذَّى، وهو في غاية الحسن من الترتيب، فإن قيل: لِمَ لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة: الابتداء بالله ورسوله، ثم بالمؤمن الحاضر، ثم بالمؤمن الغائب، ثم بالفاسق؟ نقول: قدَّم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم ذكر جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه، فإنه يذكر كلَّ ما كان أشد نفورًا للصدور، وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حدٍّ يفضي إلى القتل، ألا ترى أن الله - تعالى - ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال فقال: ? وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ?[9].
6- قوله - تعالى -: ? لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [آل عمران: 188].
قال البغوي:»اختلفوا فيمَن نزلت هذه الآية... أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلَّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبُّوا أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا... قال عكرمة: نزلت في فنحاص وأشيع وغيرهما من الأحبار؛ يفرحون بإضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم، وليسوا بأهل العلم«.
وقال ابن كثير:»يعني بذلك: المرائين المتكثِّرين بما لم يعطوا».
وقال الرازي بعد ذكره المسائل الستِّ التي في هذه الآية:»هو الإنسان يأتي بالفعل بالذي لا ينبغي ويفرح به، ثم يتوقَّع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على طاعة الله«.
الوشاية في الحديث الشريف
من ذلك الحديث الذي رواه الترمذي:»عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشين وأمَّر على أحدهما علي بن أبي طالب، وعلى الآخر خالد بن الوليد، فقال: ((إذا كان القتال فعلي))، قال: فافتتح عليٌّ حصنًا فأخذ منه جارية، فكتب معي خالد بن الوليد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشي به، فقدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ الكتاب فتغيَّر لونه ثم قال: ((ما ترى في رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؟))، قال: قلت: (أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، وإنما أنا رسول، فسكت...).
قال أبو عيسى:«وفي الباب عن ابن عمر، وهذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الأحوص بن جواب: قوله: «يشي به»؛ يعني:»النميمة».
الوقاية من الوشاية
تنقسم سبل الوقاية من الوشاية إلى قسمين:
أ- سبل تتعلَّق بالمحكيِّ له (السامع) ومنها:
1 - عدم قبول قول الواشي فيما يحكيه، فيُكَذَّب ولا يُقْبَل قول السوء منه؛ لأن قبول قول السوء أشدُّ من قول السوء.
2 - أن ينهي المحكيُّ له الواشي عن الوشاية وأن ينصحه ويقبِّح له ذلك.
3- أن يبغض المحكيُّ له الواشي في الله.
4 - ألا يظن المحكيُّ له السوء بالمحكيِّ عنه.
5- ألا تحمل الوشاية المحكيَّ له على التجسُّس والبحث والتحقُّق من تلك الوشاية.
6 - ألا يرضى المحكيُّ له لنفسه ما نهى عنه الواشي، فلا يحكي وشايته.
ب- سبل تتعلَّق بالواشي ومنها:
1- أن يعلم الواشي تعرُّضه لسخط الله - تعالى - ومقته بسبب نقل تلك الأخبار (الوشايات).
2- أن يعلم الواشي أنه لا يرضى لنفسه ما لا يرضاه لغيره.
3- ألاَّ يُكثِر الإنسان المزاح والضحك، خاصة في أمور الغيبة والنميمة.
4- تعويد الواشي نفسَه وتربيتها على القناعة.
نماذج عن الوشاية
قال الواثق لأحمد بن أبي دؤاد: فلان قال فيك كذا، فقال: الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب فيَّ ونزَّهني عن الصدق فيه.
وكان الفضل بن سهل يبغض السعاة، فإذا أتاه ساعٍ، يقول: إن صدقتنا أبغضناك، وإن كذبتنا عاقبناك، وإن استقلتنا أقلناك.
ورفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبَّه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه لكثرته، فكتب على ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - للأشتر النخعي حين ولاه مصر: وتغاب عمَّا لا يتَّضح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساعٍ، فإن الساعي غاشٌّ وإن تشبَّه بالناصحين.
وقال في السُّعاة: كفى أن الصدق محمود إلا منهم، وأن أصدقهم أخبثهم[48].
ويُروَى أن حكيمًا من الحكماء زاره بعض إخوانه، فأخبره بخبرٍ عن غيره، فقال له حكيم: قد أبطأت في الزيارة وأتيتني بثلاث جنايات: الأولى: بغَّضت إلي، والثانية: شغلت قلبي الفارغ، والثالثة: اتهمت نفسك الأمينة.
ورُوِي أن سليمان بن عبدالملك بن مروان كان جالسًا وعنده محمد بن شهاب الزهري، فجاء رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت فيَّ وقلتَ كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت، فقال سليمان: إن الذي أخبرني كان صادقًا، فقال الزهري: لا يكون النمَّام صادقًا، فقال سليمان: صدقت، وقال للرجل: اذهب بسلام.
وقال المأمون: حسبك من السعاية أن ليس في الدنيا صدقٌ مذموم غيرها.
وقيل: الساعي غاشٌّ وإن قال قول المتنصِّح.
ومن أوضح نماذج الوشاية وسوء عاقبتها على الواشي أنه كان رجلٌ يغشى بعض الملوك؛ أي: يدخل عليه، فيقوم بحذاء الملك؛ أي: في مقابلته، فيقول: أحسِن إلى المحسِن بإحسانه، فإن المسيء ستكفيه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام من الملك والكلام بين يديه، فسعى به إلى الملك، فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك زعم يقول: إن الملك أبخر - وهو الذي فسد ريح فمه - فقال له الملك: وكيف يصحُّ ذلك عندي؟ قال: تدعو به إليك إذا أخذ مقامه، فإنه إذا نادمك يضع يده على أنفه لئلاَّ يشمَّ ريح البخر، فقال له: انصرف حتى انظر صحة ذلك، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل المذكور إلى منزله، فأطعمه طعامًا فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك، فقال على عادته قوله: أيها الملك أحسِن إلى المحسِن بإحسانه، فإن المسيء ستكفيه إساءته، فقال له الملك: ادنُ مني، فدنا، فوضع يده على فيه مخافة أن يشمَّ الملك منه ريح الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلانًا إلا قد صدق في قوله، وكان الملك لا يكتب بخطِّه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له كتابًا بخطِّه إلى عامل من عمَّاله: إذا أتاك حامل كتابي فاذبحه واسلخه واحشُ جلده تبنًا وابعث به إليَّ، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به، فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: خطَّ الملك لي بصلة، فقال: هبْه منِّي، فقال: هو لك، فأخذه ومضى إلى العامل فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي، الله الله في أمري حتى أرجع إلى الملك، قال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه وحشا جلده تبنًا وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله فتعجَّب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ قال: لقيني فلان واستوهبه منِّي فوهبته له، فقال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أنني أبخر، قال: ما فعلت، قال: فلم وضعت يدك على أنفك؟ قال: كان أطعمني طعامًا فيه ثوم، فكرهت أن تشمَّه، قال: صدقت، ارجع إلى مكانك فقد كفاك المسيء إساءته.
وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: سعى رجلان بمؤمن آل فرعون إليه، وقالا: إن فلانًا لا يقول إنك ربه، فأحضره فرعون وقال للساعيين: مَن ربكما، فقال: أنت، وقال للمؤمن: مَن ربك؟ فقال: ربي ربهما، فقال: سعيتما برجل على ديني لأقتله، لأقتلكما، وأمر بهما فقتلا، فذلك قول الله - عز وجل -: ? فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ? [غافر: 45].
ووشى واشٍ برجل إلى الإسكندر، فقال: أتحبُّ أن نقبل منك ما قلت فيه على أن نقبله فيك؟ قال: لا، قال: فكفَّ عن الشرِّ يُكَفُّ عنك.
وقال رجلٌ لعمرو بن عبيد: إن الأسواري (نسبة إلى نهر الأساورة بالبصرة) لم يزل يذكرك ويقول: الضال، فقال عمرو: والله يا هذا، ما رعيت حقَّ مجالسته حين نقلتَ إلينا حديثه، ولا رعيتَ حقي حين أبلغتني عن أخي ما أكرهه، اعلم أن الموت يجمعنا، والبعث يحشرنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا.
الوشاية في تراث الأمم الأخرى
لأن الوشاية يمجُّها الطبع البشري النزيه والأنفس السليمة والفطرة المستقيمة، فإنك تجدها ممقوتة لدى الأمم والحضارات الأخرى؛ وهذه نماذج لما قِيل عن الوشاية في أشعارهم وأمثالهم، وكيف قبَّحوها ومقتوها.
اللغة الإنجليزية:
• تسافر الأخبار السيئة بعشرة أضعاف سرعة سفر الأخبار الطيبة؛ لأن معظمنا مغتابون، فنحن متشوِّقون دائمًا لانتقاد ما نراه نقصًا في الآخرين المختلفين عنَّا، سواء في مظهرهم أو سلوكهم، فنحن إذًا نحطُّ من شأن الآخرين لنشعر بالرضا الذاتي عن أنفسنا، وأننا أفضل من أيِّ شخص آخر لا يلبي رغباتنا، رجلاً كان أم طفلاً، ومع ذلك فمهما حاولنا فإننا ندرك أن الآخرين ينشرون الشائعات عنَّا بدورهم، لكننا نخفق في ملاحظة أن القيل والقال عمل ماكر.
•نشر الشائعات جرثومة مميتة، لا أرجل لها ولا أجنحة، إنها تتكوَّن في معظمها من حكايات، ولكل واحدة منها شركة.
• نشر الشائعات دائمًا لا يعدو كونه اعترافًا شخصيًّا، إما بالمكر والخبث، أو الحماقة التامة، وعلى الشباب ألا يزدروها فحسب، ولكن أن يوطِّنوا أنفسهم ويهذِّبوها على مقاومة إغرائها، إنها عمل وضيع تافه وقذر.
• هناك صنفان من الناس ينفثون الإشاعات طيلة حياتهم، الصنف الأول هم ناشروها، الصنف الثاني هم متلقوها!
• الذين ينقلون الوشايات والحكاوي لا يقلُّون سوءًا عن أولئك الذين ينفثونها.
• هناك الكثير مما هو سيِّئ في أحسننا والكثير مما هو حسن في أسوئنا؛ ولذلك لا يتعيَّن على أيٍّ منَّا أن يتكلم عن البقية منَّا.
اللغة الصينية:
• أَدِر لسانك في فمك سبع مرات قبل أن تتكلم.
• مقتل الرجل بين فكَّيه.
• فم اللئيم لا ينضح عسلاً، ولا يرجى الطيب من كيس الفحم.
• حشر الأنف في شؤون الغير مثل كلب يحاول صيد الفئران.
• كلام شوارع / القيل والقال.
اللغة الروسية:
قال الشاعر الروسي بوشكن وهو يصف رجلاً ذا صفات مذمومة اسمه فلانوف: «إنه كثير الغيبة وعجوز نهم يفكِّر في شهواته ومرتشٍ ومهرِّج».
ويقال في روسيا للشخص الذي يتكلم في أعراض الناس: «أنت مثل العجوز في السوق التي لا يجفُّ لسانها بسبب تكلُّمها في أعراض الناس».
اللغة الألمانية:
•النميمة هي أمراض الغير التي ينشرونها على جسدك.
• النميمة هي أنفاس الجبان التي يطلقها ليس بدافع الكراهية وإنما بدافع الخوف أن تطلق عليه.
• النميمة هي راحة الحاقدين.
• ما هي الغيبة؟ هي الحكم غيابيًّا على المتَّهم خلف الأبواب المغلقة من دون دفاع و من دون استئناف ويصدره قاضٍ متحيِّز.
• تتجمَّع النميمة على باب الأرملة.
• النميمة تحدث يوميا ولكنها سوف تختفي إذا لم تجد من يستمع إليها.
• تموت النميمة على باب المرأة الصالحة.
• مَن يغتاب عندك سوف يغتابك.
• الوشاة يحملون الشيطان على ألسنتهم والذين يستمعون لهم يحملونه في أذنهم.
اللغة الفرنسية:
•باع الزبالة؛ أي: وشى.
•هو صاحب لسان بذيء.
•رائحة المحار الفاسد تلوِّث بحرًا بأكمله: باب الوشاية.
• الوشاة مثل النار التي تجعل من الحطب الأخضر أسود اللون من دون أن تحرقه.
• مَن يريد أن يقتل كلبًا يقول: إنه مسعور. (وهذا المثل يدخل في باب الوشاية).
• لهذا المثل عدَّة معان نذكر منها المعنى الآتي:
• مَن أكل لحم الناس أُكِل لحمه.
• دسَّ السم في الدسم. (يقال هذا المثل لِمَن يمدح شخصًا ويريد بذلك الإساءة إليه، ويدخل هذا في باب الوشاية).
• عاقبة الغِيبة وخيمة.
• في النميمة يطمئن الخبث.
• تجد من بين كل عشرين شخصًا يتحدَّثون فينا، تسعة عشر يأكلون لحومنا، أما الشخص العشرون الذي يريد أن يذكرنا بخيرٍ يخطئ فيقول ما يسيء لنا.
• المستمع لنميمة نمام.
• نصف البشر يمشي في النميمة، والنصف الآخر يستمع إليها.
• أنم من زجاجة على ما فيها.
الوشاية... يا لها من خلق ذميم.. وسلوك مشين.. فكم تقطعت من أواصر، وتفرقت من قلوب، وتهدمت من بيوت، بسبب المشائين بالنميمة، الساعين بالإفساد بين الناس، المفرقين بين الأحبة، المتتبعين للعورات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) رواه الترمذي.
غير أن بعض الناس ينسى قيمة اللسان ويتناسى أخطاءه ومساوئه فيطلق له العنان بالوشاية، وما ذلك إلا لمرض في القلب حيث (...إنما جُعل اللسان عن الفؤاد دليل)، فنجد الواشي ساعياً بالغيبة والنميمة محاولاً الوقيعة بين الأصدقاء والإخوان، فلا يروق له بال، ولا يطمئن له حال إلا إذا قطع الأوصال، وفرَّق بين الناس فإذا بالصداقة تصبح عداوة وإذا بالتفاهم والود يتحول إلى حقد وبغضاء، والتقارب والتعارف يستحيل إلى تباعد ونكران، وكل ذلك جرَّاء الوشاة الذين في قلوبهم مرض يحرك ألسنتهم بالنميمة غير عابئين بما ينتج عن أقوالهم وأكاذيبهم من نتائج سيئة وأفعال مشينة في العلاقات بين الناس.
وما أكثر الوشاة الذين يحاولون تزيين أقوالهم للوقيعة وكأنهم يحاولون المحافظة على المعنى اللغوي للفعل الذي اشتقت منه الوشاية، لأن وّشِيَ الثوب معناه طرَّزه وحلاه وحسنه، فالواشي يستخدم من أساليبه الدنيئة ما يُحسِّن به بضاعته السيئة ومساعيه المسمومة للدسِّ والخديعة ويجعل من اللسان أداة طَيِّعه لمآربه الدنيئة الخادعة التي توعز الصدور وتباعد بين الناس في مختلف مجالات الحياة.
ويذكر التاريخ في صفحات سيئة ذلك الدور المشين الذي لعبه الوشاة فأشعلوا النفوس حقداً وأوقدوا للحرب نيراناً في مختلف العصور بفعل الوشاية في المجتمعات حيث إنها تبدأ من القلب ويترجمها اللسان وترجع بنتائجها إلى القلوب فتُوصد الأبواب وتقطع السبل وتفتح أبواب الشر، ويظن الواشي أنه قد أرضى نفسه وأراح فكره وحقق مآربه ناسياً ما وصفه به القرآن الكريم بأنه (فاسق) ومتناسياً أنه محاسب على كل ما يلفظ به لسانه {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} سورة ق آية 18.
ولخطورة الوشاية في المجتمع فقد حرص الإسلام على تهذيب اللسان وما يتبعه من جوارح فقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} سورة الإسراء آية 36) كما حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على حفظ ألسنتنا فقال: (مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) متفق عليه. كما جعل من يمسك لسانه عن إيذاء المسلمين من أفضل المسلمين، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله أيُّ المسلمين أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) متفق عليه.
وكثيرة هي التوجيهات النبوية التي فيها العلاج الناجح لمن يسعى بالوشاية بين الناس سواء كان في الأسرة أو في العمل سعياً منه للوقيعة أو نيل مرتبه دنيوية زائلة، أو بالوشاية بين الأصدقاء ليرضي قلبه الحاقد بدق إسفين العداوة بين الإخوان والأصدقاء.
إن مَنْ يسعون بالوشاية في حاجة لأن يمسكوا ألسنتهم عن الوقيعة وبث الضغينة بين الناس، أمَّا من يسمعون لمن يسعى بالوشاية فليراجعوا ويتفهموا قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (سورة الحجرات آية 6) وليتذكروا دائماً تلك الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحدٍ شيئاً فإني أُحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) رواه أبـو داود والتـرمذي.
ما أحوجنا نحن المسلمين إلى محاربة هذا السلوك القبيح والأخذ على أيدي المشائين بين الناس بالوشاية والنميمة حتى تسلم مجتمعاتنا من أحد أهم أسباب الفرقة والبغضاء وخراب البيوت ويدميرها وحتى يحيا الجميع في أمن وسلام فلابد من اجتثاث هذه الأمراض من جسد الأمة.
قال يحي بن أبي كثير: يُفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة.
ويقال: عمل النمام أضر من عمل الشيطان، لأن عمل الشيطان بالوسوسة، وعمل النمام بالمواجهة.
وقال أبو حامد الغزالي: «قال الحسن: من نم إليك نم عليك. وهذا إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته. وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة، وهو ممن يسعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.
وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى 42].
ولو أن هذا النمام المفسد واجه عاقلاً موفقًا فأسكته وكبّته، ولم يصغ إلى وشايته، لانقطع شره، وبطل كيده.
وقد قالت الحكماء: قبول السعاية شر من السعاية، لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي، فلو كان صادقًا في قوله لكان لئيمًا في صدقه، حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة.
ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز، فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات 6]،
وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية [ هماز مشاء بنميم ]، وإن شئت عفونا عنك. فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا.
وما أحسن قول الأعشى:
ومن يطع الواشين لا يتركوا له صديقًا وإن كان الحبيب المقربا
وقول سابق البربري:
إذا الواشي بغى يوماً صديقًا فلا تَدعِ الصديقَ لقولِ واشِ
مواجهة النمام
لقد بين العلماء أن من حملت إليه نميمة، وقيل له: قال فيك فلان كذا أو فعل في حقك كذا، فيلزمه ستة أمور:
الأول: ألا يصدقه، لأن النمام فاسق، وهو مردود الشهادة، قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات 6].
الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله، لأن النهي عن المنكر واجب.
الثالث: أن يبغضه في الله تعالى، فإنه بغيض عند الله، ويجب بغض من يبغضه الله.
الرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء، لقول الله تعالى: ( اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات 12].
الخامس: ألا يحملك ما حكى لك على التجسس والبحث لتتحقق، امتثالاً
لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات 12].
السادس: ألا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه، ولا تحكي نميمته فتقول: فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نمامًا ومغتابًا، وتكون قد أتيت ما عنه نهيت.
الوشاية في القرآن الكريم
لم يرد في القرآن الكريم ذكر للفظ الوشاية، وإنما جاءت آيات قرآنية لها صلة أو علاقة بمصطلح الوشاية، من ذلك:
1- قوله - تعالى -: ? هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ? [القلم: 11].
قال الرازي:«كونه همازًا وهو العيَّاب الطعَّان، قال المبرد: الذي يهمز الناس؛ أي: يذكرهم بالمكروه... كونه مشاء بنميم؛ أي: يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم».
2- قوله - تعالى -: ? وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ? [الهمزة: 1].
قال الرازي بعد أن ذكر سبعة أقوال في تفسيرها:«وأعلم أن جميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب».
3- قوله - تعالى -: ? ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ? [التحريم: 10].
قال الرازي في«تفسيره»:«ما كانت خيانتهما؟ نقول: نفاقهما وإخفاؤهما الكفر، وتظاهرهما على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط كانت تدلُّ على نزول ضيف إبراهيم، ولا يجوز أن تكون خيانتهما بالفجور، وعن ابن عباس:«ما بغت امرأة نبيٍّ قط».
4- قوله - تعالى -: ? وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ? [المسد: 4].
قال الرازي في»تفسيره«:»وذكروا في تفسير كونها حمالة الحطب وجوهًا... وثانيها: أنها كانت تمشي بالنميمة، يقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحل الحطب بينهم؛ أي: يُوقِد بينهم بالنائرة...«..
5- قال - تعالى -: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ? [الحجرات: 6].
سورة الحجرات فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي إما مع الله، أو مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو مع غيرهما من أبناء الجنس، وهم على صنفين؛ لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجين عنها وهم الفاسقون، والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضرًا عندهم أو غائبًا عنهم، فهذه خمسة أقسام:
أحدها: يتعلق بجانب الله.
وثانيها: بجانب الرسول.
وثالثها: بجانب الفُسَّاق.
ورابعها: بالمؤمن الحاضر.
وخامسها: بالمؤمن الغائب.
فذكرهم الله - تعالى - في هذه السورة خمس مرات ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ? وأرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة.
فقال أولاً: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... ? [الحجرات: 1]، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله؛ لأنها لا تُعلَم إلا بقول رسول الله.
وقال ثانيًا: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ? [الحجرات: 2]؛ لبيان وجوب احترام النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقال ثالثًا: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ? [الحجرات: 6]؛ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبيَّن ذلك عند تفسير قوله: ? وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ? [الحجرات: 9].
وقال رابعًا: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ... ? [الحجرات: 11]، وقال: ? وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ? [الحجرات: 11]؛ لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم والازدراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامسًا: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ? [الحجرات: 12]، وقال: ? وَلاَ تَجَسَّسُوا ?، وقال: ? وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ?؛ لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضرًا يتأذَّى، وهو في غاية الحسن من الترتيب، فإن قيل: لِمَ لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة: الابتداء بالله ورسوله، ثم بالمؤمن الحاضر، ثم بالمؤمن الغائب، ثم بالفاسق؟ نقول: قدَّم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم ذكر جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه، فإنه يذكر كلَّ ما كان أشد نفورًا للصدور، وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حدٍّ يفضي إلى القتل، ألا ترى أن الله - تعالى - ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال فقال: ? وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ?[9].
6- قوله - تعالى -: ? لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [آل عمران: 188].
قال البغوي:»اختلفوا فيمَن نزلت هذه الآية... أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلَّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبُّوا أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا... قال عكرمة: نزلت في فنحاص وأشيع وغيرهما من الأحبار؛ يفرحون بإضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم، وليسوا بأهل العلم«.
وقال ابن كثير:»يعني بذلك: المرائين المتكثِّرين بما لم يعطوا».
وقال الرازي بعد ذكره المسائل الستِّ التي في هذه الآية:»هو الإنسان يأتي بالفعل بالذي لا ينبغي ويفرح به، ثم يتوقَّع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على طاعة الله«.
الوشاية في الحديث الشريف
من ذلك الحديث الذي رواه الترمذي:»عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشين وأمَّر على أحدهما علي بن أبي طالب، وعلى الآخر خالد بن الوليد، فقال: ((إذا كان القتال فعلي))، قال: فافتتح عليٌّ حصنًا فأخذ منه جارية، فكتب معي خالد بن الوليد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشي به، فقدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ الكتاب فتغيَّر لونه ثم قال: ((ما ترى في رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؟))، قال: قلت: (أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، وإنما أنا رسول، فسكت...).
قال أبو عيسى:«وفي الباب عن ابن عمر، وهذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الأحوص بن جواب: قوله: «يشي به»؛ يعني:»النميمة».
الوقاية من الوشاية
تنقسم سبل الوقاية من الوشاية إلى قسمين:
أ- سبل تتعلَّق بالمحكيِّ له (السامع) ومنها:
1 - عدم قبول قول الواشي فيما يحكيه، فيُكَذَّب ولا يُقْبَل قول السوء منه؛ لأن قبول قول السوء أشدُّ من قول السوء.
2 - أن ينهي المحكيُّ له الواشي عن الوشاية وأن ينصحه ويقبِّح له ذلك.
3- أن يبغض المحكيُّ له الواشي في الله.
4 - ألا يظن المحكيُّ له السوء بالمحكيِّ عنه.
5- ألا تحمل الوشاية المحكيَّ له على التجسُّس والبحث والتحقُّق من تلك الوشاية.
6 - ألا يرضى المحكيُّ له لنفسه ما نهى عنه الواشي، فلا يحكي وشايته.
ب- سبل تتعلَّق بالواشي ومنها:
1- أن يعلم الواشي تعرُّضه لسخط الله - تعالى - ومقته بسبب نقل تلك الأخبار (الوشايات).
2- أن يعلم الواشي أنه لا يرضى لنفسه ما لا يرضاه لغيره.
3- ألاَّ يُكثِر الإنسان المزاح والضحك، خاصة في أمور الغيبة والنميمة.
4- تعويد الواشي نفسَه وتربيتها على القناعة.
نماذج عن الوشاية
قال الواثق لأحمد بن أبي دؤاد: فلان قال فيك كذا، فقال: الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب فيَّ ونزَّهني عن الصدق فيه.
وكان الفضل بن سهل يبغض السعاة، فإذا أتاه ساعٍ، يقول: إن صدقتنا أبغضناك، وإن كذبتنا عاقبناك، وإن استقلتنا أقلناك.
ورفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبَّه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه لكثرته، فكتب على ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - للأشتر النخعي حين ولاه مصر: وتغاب عمَّا لا يتَّضح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساعٍ، فإن الساعي غاشٌّ وإن تشبَّه بالناصحين.
وقال في السُّعاة: كفى أن الصدق محمود إلا منهم، وأن أصدقهم أخبثهم[48].
ويُروَى أن حكيمًا من الحكماء زاره بعض إخوانه، فأخبره بخبرٍ عن غيره، فقال له حكيم: قد أبطأت في الزيارة وأتيتني بثلاث جنايات: الأولى: بغَّضت إلي، والثانية: شغلت قلبي الفارغ، والثالثة: اتهمت نفسك الأمينة.
ورُوِي أن سليمان بن عبدالملك بن مروان كان جالسًا وعنده محمد بن شهاب الزهري، فجاء رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت فيَّ وقلتَ كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت، فقال سليمان: إن الذي أخبرني كان صادقًا، فقال الزهري: لا يكون النمَّام صادقًا، فقال سليمان: صدقت، وقال للرجل: اذهب بسلام.
وقال المأمون: حسبك من السعاية أن ليس في الدنيا صدقٌ مذموم غيرها.
وقيل: الساعي غاشٌّ وإن قال قول المتنصِّح.
ومن أوضح نماذج الوشاية وسوء عاقبتها على الواشي أنه كان رجلٌ يغشى بعض الملوك؛ أي: يدخل عليه، فيقوم بحذاء الملك؛ أي: في مقابلته، فيقول: أحسِن إلى المحسِن بإحسانه، فإن المسيء ستكفيه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام من الملك والكلام بين يديه، فسعى به إلى الملك، فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك زعم يقول: إن الملك أبخر - وهو الذي فسد ريح فمه - فقال له الملك: وكيف يصحُّ ذلك عندي؟ قال: تدعو به إليك إذا أخذ مقامه، فإنه إذا نادمك يضع يده على أنفه لئلاَّ يشمَّ ريح البخر، فقال له: انصرف حتى انظر صحة ذلك، فخرج من عند الملك، فدعا الرجل المذكور إلى منزله، فأطعمه طعامًا فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك، فقال على عادته قوله: أيها الملك أحسِن إلى المحسِن بإحسانه، فإن المسيء ستكفيه إساءته، فقال له الملك: ادنُ مني، فدنا، فوضع يده على فيه مخافة أن يشمَّ الملك منه ريح الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلانًا إلا قد صدق في قوله، وكان الملك لا يكتب بخطِّه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له كتابًا بخطِّه إلى عامل من عمَّاله: إذا أتاك حامل كتابي فاذبحه واسلخه واحشُ جلده تبنًا وابعث به إليَّ، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به، فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: خطَّ الملك لي بصلة، فقال: هبْه منِّي، فقال: هو لك، فأخذه ومضى إلى العامل فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي، الله الله في أمري حتى أرجع إلى الملك، قال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه وحشا جلده تبنًا وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله فتعجَّب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ قال: لقيني فلان واستوهبه منِّي فوهبته له، فقال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أنني أبخر، قال: ما فعلت، قال: فلم وضعت يدك على أنفك؟ قال: كان أطعمني طعامًا فيه ثوم، فكرهت أن تشمَّه، قال: صدقت، ارجع إلى مكانك فقد كفاك المسيء إساءته.
وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: سعى رجلان بمؤمن آل فرعون إليه، وقالا: إن فلانًا لا يقول إنك ربه، فأحضره فرعون وقال للساعيين: مَن ربكما، فقال: أنت، وقال للمؤمن: مَن ربك؟ فقال: ربي ربهما، فقال: سعيتما برجل على ديني لأقتله، لأقتلكما، وأمر بهما فقتلا، فذلك قول الله - عز وجل -: ? فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ? [غافر: 45].
ووشى واشٍ برجل إلى الإسكندر، فقال: أتحبُّ أن نقبل منك ما قلت فيه على أن نقبله فيك؟ قال: لا، قال: فكفَّ عن الشرِّ يُكَفُّ عنك.
وقال رجلٌ لعمرو بن عبيد: إن الأسواري (نسبة إلى نهر الأساورة بالبصرة) لم يزل يذكرك ويقول: الضال، فقال عمرو: والله يا هذا، ما رعيت حقَّ مجالسته حين نقلتَ إلينا حديثه، ولا رعيتَ حقي حين أبلغتني عن أخي ما أكرهه، اعلم أن الموت يجمعنا، والبعث يحشرنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا.
الوشاية في تراث الأمم الأخرى
لأن الوشاية يمجُّها الطبع البشري النزيه والأنفس السليمة والفطرة المستقيمة، فإنك تجدها ممقوتة لدى الأمم والحضارات الأخرى؛ وهذه نماذج لما قِيل عن الوشاية في أشعارهم وأمثالهم، وكيف قبَّحوها ومقتوها.
اللغة الإنجليزية:
• تسافر الأخبار السيئة بعشرة أضعاف سرعة سفر الأخبار الطيبة؛ لأن معظمنا مغتابون، فنحن متشوِّقون دائمًا لانتقاد ما نراه نقصًا في الآخرين المختلفين عنَّا، سواء في مظهرهم أو سلوكهم، فنحن إذًا نحطُّ من شأن الآخرين لنشعر بالرضا الذاتي عن أنفسنا، وأننا أفضل من أيِّ شخص آخر لا يلبي رغباتنا، رجلاً كان أم طفلاً، ومع ذلك فمهما حاولنا فإننا ندرك أن الآخرين ينشرون الشائعات عنَّا بدورهم، لكننا نخفق في ملاحظة أن القيل والقال عمل ماكر.
•نشر الشائعات جرثومة مميتة، لا أرجل لها ولا أجنحة، إنها تتكوَّن في معظمها من حكايات، ولكل واحدة منها شركة.
• نشر الشائعات دائمًا لا يعدو كونه اعترافًا شخصيًّا، إما بالمكر والخبث، أو الحماقة التامة، وعلى الشباب ألا يزدروها فحسب، ولكن أن يوطِّنوا أنفسهم ويهذِّبوها على مقاومة إغرائها، إنها عمل وضيع تافه وقذر.
• هناك صنفان من الناس ينفثون الإشاعات طيلة حياتهم، الصنف الأول هم ناشروها، الصنف الثاني هم متلقوها!
• الذين ينقلون الوشايات والحكاوي لا يقلُّون سوءًا عن أولئك الذين ينفثونها.
• هناك الكثير مما هو سيِّئ في أحسننا والكثير مما هو حسن في أسوئنا؛ ولذلك لا يتعيَّن على أيٍّ منَّا أن يتكلم عن البقية منَّا.
اللغة الصينية:
• أَدِر لسانك في فمك سبع مرات قبل أن تتكلم.
• مقتل الرجل بين فكَّيه.
• فم اللئيم لا ينضح عسلاً، ولا يرجى الطيب من كيس الفحم.
• حشر الأنف في شؤون الغير مثل كلب يحاول صيد الفئران.
• كلام شوارع / القيل والقال.
اللغة الروسية:
قال الشاعر الروسي بوشكن وهو يصف رجلاً ذا صفات مذمومة اسمه فلانوف: «إنه كثير الغيبة وعجوز نهم يفكِّر في شهواته ومرتشٍ ومهرِّج».
ويقال في روسيا للشخص الذي يتكلم في أعراض الناس: «أنت مثل العجوز في السوق التي لا يجفُّ لسانها بسبب تكلُّمها في أعراض الناس».
اللغة الألمانية:
•النميمة هي أمراض الغير التي ينشرونها على جسدك.
• النميمة هي أنفاس الجبان التي يطلقها ليس بدافع الكراهية وإنما بدافع الخوف أن تطلق عليه.
• النميمة هي راحة الحاقدين.
• ما هي الغيبة؟ هي الحكم غيابيًّا على المتَّهم خلف الأبواب المغلقة من دون دفاع و من دون استئناف ويصدره قاضٍ متحيِّز.
• تتجمَّع النميمة على باب الأرملة.
• النميمة تحدث يوميا ولكنها سوف تختفي إذا لم تجد من يستمع إليها.
• تموت النميمة على باب المرأة الصالحة.
• مَن يغتاب عندك سوف يغتابك.
• الوشاة يحملون الشيطان على ألسنتهم والذين يستمعون لهم يحملونه في أذنهم.
اللغة الفرنسية:
•باع الزبالة؛ أي: وشى.
•هو صاحب لسان بذيء.
•رائحة المحار الفاسد تلوِّث بحرًا بأكمله: باب الوشاية.
• الوشاة مثل النار التي تجعل من الحطب الأخضر أسود اللون من دون أن تحرقه.
• مَن يريد أن يقتل كلبًا يقول: إنه مسعور. (وهذا المثل يدخل في باب الوشاية).
• لهذا المثل عدَّة معان نذكر منها المعنى الآتي:
• مَن أكل لحم الناس أُكِل لحمه.
• دسَّ السم في الدسم. (يقال هذا المثل لِمَن يمدح شخصًا ويريد بذلك الإساءة إليه، ويدخل هذا في باب الوشاية).
• عاقبة الغِيبة وخيمة.
• في النميمة يطمئن الخبث.
• تجد من بين كل عشرين شخصًا يتحدَّثون فينا، تسعة عشر يأكلون لحومنا، أما الشخص العشرون الذي يريد أن يذكرنا بخيرٍ يخطئ فيقول ما يسيء لنا.
• المستمع لنميمة نمام.
• نصف البشر يمشي في النميمة، والنصف الآخر يستمع إليها.
• أنم من زجاجة على ما فيها.