عش سعيداً ومت فانياً

تصغير
تكبير
فسر لي قانون توزيع السعادة، وهل سنكون سعداء بعد موتنا.

أجابني:


- نامي وأجلي النقاش للصباح.

• كيف يتمدد حجم الكون ويضمر عمر الإنسان وتتقلص سعادته؟

- ما أعلمه أن المقادير تتوزع بالتساوي.

• تقصد أن الفارق هو مكيالنا ؟

- هذا تصور مريض. السعادة لا مكيال لها... لا تسألي.

• كل خلاياي غارقة في السؤال... أجبني: ماذا كنت تحلم وأنت صغير؟ بعالم محدود كبائع يلازم بقالته أو بعالم هو الدنيا بأكملها؟

- الدنيا…

• لحظة. فكر قبل أن تجيب. لي جار أسافر عنه طويلا. أعود فأجده في شرفته صباحا وقبل المغيب، يخرج لمخبزه ويرجع بنفس الميعاد. ظننت أن حياته لا تتقدم. فابتعدت عن خطه خوفا من الجمود. إذ مستحيل أن تلقاني بذات المكان طوال العام. لم أحلم بحياة ضيقة كمخبزه، أردت الملكوت بأكمله. فمن منا الأكثر سعادة؟ أنا التي اختارت الخط المستقيم للأمام دون تكرار للأفعال والمشاهد، أم هو بحياة الدوائر؟

- بالطبع نحن..

• لماذا؟

- لأننا أحرار.

• هل الحرية تقود للسعادة ؟

- الخط المستقيم لا يتحدد بدوائر تحصر العقل بمكان واحد ووجوه لا تتغير. تقابلين أناسا مختلفين، تدخلين مدنا وقرى مختلفة. تقرأين كتبا مختلفة.

• أعرف، أنا أعيش اللامحدودية التي تحكي عنها. فمن منا الأكثر سعادة؟

- إن اخترت الطريق فستجدين به البهجة.

• ماذا لو كنت أقدر نفسي بطريقة خاطئة. وأني كنت سأفرح داخل الدوائر المغلقة لكني سلكت الخط المستقيم، لأني وجدته خيارا منطقياً؟

- عيشي حياة الدوائر إذاً.

• لكن الخط المستقيم لا يعود أبداً.

- لِمَ ترهقي نفسك بالبحث عن السعادة ؟ انسيها. السعادة كلمة اخترعناها لأننا نهوى الاضمحلال أمام البؤس. اسأليهم. كلهم سيجيبون بوجع: نسمع عن السعادة ولا نعرفها. أما المحافظون فسيخفون تعاستهم وراء إيمانهم بالقدر. لأنها ببساطة تصور بشري عن سعادة غير بشرية. ما تسميه بؤساً اسمه الحقيقي حياة. فأن تختاري الحياة يعني أن تتكبدي الأثقال وتتحملي المآسي كما الأفراح. ستصادفك ضحكات وبكاء. لا شيء ثابت سواك. الخير والشر متلازمان كما السعادة والحزن. هذه الحالة من التتابع قد تزعجك فتسميها تعاسة...

• هذا يؤكد حيرتي في بخل الكون المتمدد.

- لست ندا للكون. أنت جزء من أجزائه. ويبقى هو الخالد. لن تستوعبي قولي لأنك تعيشين المدن. لكن اذهبي للطبيعة، زوري الأنهر والسهول والغابات. تسلقي السفوح والقمم المغطاة بالثلوج. ادخلي الكهوف والأماكن العذراء، هناك ستقنعين بخلقك وتجيبين عن السؤال الحائر: لِمَ أنت الوحيدة التي تملكين الوعي الذي لا يريد أن يصمت على حقيقة فنائك السريع ويتمرد على هذه القسمة غير العادلة.

في المساحات بعيدة الأزمان، حيث الصمت إلا من موسيقى الكون، ستكتشفين أن الطبيعة باردة لا تهتم. لا شيء هناك يكترث لكونك امرأة مضطهدة أو لكفاحك السياسي أو نضالك الاجتماعي، ولا شيء يكترث لانشراحك أو غضبك. الشلالات مستمرة منذ أن تقرر جريانها، وأشجار عمرها آلاف الأعوام تسكن بهدوء، وجبال متعالية، على قناعة تامة أنها تملك الأرض وتحفظ استقرارها، أنك بدونها لا شيء. بحيرات وأنهار وضفاف لا تقدر مأساتك. حالة عجيبة من الجمال البارد والسلام البارد. لا تشردي بذهنك لعالم الشعر البشري والرومانسيات المتعبة التي تعشق خلط المتعة بالألم. لا تصفيه بالجمال الحزين. افهميه جمالا وفقط. اللون الأخضر حقيقي والتراب حقيقي والسماء حقيقية وكل قطعة تبدو بشكلها الحقيقي. وينعدم التفكير بما سيؤول له المصير.

• لأنها لا تملك الوعي.

- لأنك تملكين الوعي توقفي عن العويل. أو اسألي الطبيعة عن سر الخلود. عيشي معها بعزلة. لعلها تدلك على وصفة التحول لغصن أو حيوان أو جبل صامد.

• لكني لحظتها سأفقد ميزة الوعي بتحقيقي لحلم الخلود. ولن أملك شفاها لابتسم أو أضحك. هذه قسوة أخرى من الطبيعة.

- لن تملي الشكوى.

• لأني أملك الوعي.

- الوعي ليس بميزة. الوعي جلب لك الأسئلة الكئيبة. الوعي متمرد ويذكرك بعدم الرضا. لكن تابعي كل ما هو غير واع. تأملي حالة الرضا بأوراقه وجذوره ومياهه وأسماكه وحيواناته وثماره.

• إذاً الخباز الذي يدور ولا يعرف الضحك كما أعرفه أو البكاء كما أعرفه راض لأنه غير واع.

- هذه أيضا قسمة أخرى للوعي. x

• أتمنى أحياناً أن أعيش كسائر النباتات والطيور والحيوانات. أن أحلم كالبقية. أن أستقر بين شرفتي وعملي مثل جاري. ربما آلمتني حالة الوعي والطموح اللامحدود.

أريد مشاكل عادية، نهارا عاديا، حياة عادية.

كاتبة وإعلامية سعودية

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي