هبة الـ 4 ملايين دولار حولت متحف صيدا إلى حقيقة والأشغال تنتهي أواخر 2015

الكويت «تبني بيتاً» في لبنان يحتضن 5 آلاف سنة من تاريخ البشرية

تصغير
تكبير
كلود ضومط:

• المتحف في موقعه سيكون الأول من نوعه في الشرق الأوسط والقطعة النادرة ستحتل فيه مكاناً محورياً
لمدينة صيدا مع التاريخ حكايةً بالغةَ القدم والروعة، فالآثارُ المكتَشَفَةُ تعودُ إلى ما قبل الأَلْف الرابع قبل الميلاد وهي تَدُلُّ على التطور المديني عبر مختلف المراحل التاريخية، وتؤكدُ على أهمية البحر المتوسط في التَواصُل بين الدُوَل- المُدُن، والحضارات المختلفة بعدما قدَّمت الحفْريّاتُ الأَثَريةُ التي بدأت من جديد قبل نحو سبعة عشرة عاماً، بالتعاون مع بعثة المتحف البريطاني، دليلاً جديداً على عراقة هذه المدينة وعَظَمتِها.

منذ سبع سنوات تتواصل الأشغال لإنشاء «متحف آثار مدينة صيدا» في منطقة الشاكرية الغنية بالآثار، والذي سيقام في محيط حفرية «الفرير» الأثرية، في أرض تابعة للمديرية العامة للآثار، وهو المتحف الذي تنفذه الدولة اللبنانية عبر وزارة الثقافة بهبة قيمتها أربعة ملايين دولار، مقدّمة من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية (في إطار المنحة التي خصصتها دولة الكويت لمشاريع تنموية لإعادة إعمار لبنان بعد حرب يوليو 2006 الإسرائيلية والبالغ مقدارها 300 مليون دولار أميركي) إضافة إلى هبة بقيمة 850 ألف دولار، مقدمة من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. والمتحف الوطني حلم راود الصيداويين منذ عقود طويلة وتحوّل إلى مطلب ضروري لحماية آثارهم من السرقة والضياع، وهي المبعثرة بين متاحف العالم والمتحف الوطني في بيروت، وبين ساحات المواقع ومكاتب الآثار وبين بيوت جاهزة أو في المخازن والمستودعات. وسيحتضن هذا الصرح الذي سيكون «نادر الوجود» في الشرق الأوسط، أكثر من 5 آلاف سنة من تاريخ البشرية تتمثل في الآلاف من القطع الأثرية، وسيساهم بحفظ إرث المدينة وتاريخها وأثارها القديمة كما المكتشفة حديثاً.


والمتحف الذي بدأ يتحوّل حقيقة في يونيو 2009 حين وُضع حجر الأساس له في عهد رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، يجري إنشاؤه على مساحة تقديرية تبلغ 1600 متر مربع في المنطقة الشمالية من حفرية «الفرير»، على أن ينشأ سقف على الموقع الأثري بمساحة نحو 2000 متر مكعب لحماية القطع الأثرية الموجودة داخله ولإنشاء ممرات للزوار واستحداث منطقة مزروعة للترفيه، إضافة إلى ربط بيئة المتحف بالحي القديم لغرض إبراز القيمة التاريخية للمنطقة وتوفير مساحة للعرض الداخلي للمتحف، ومن المتوقع أن يتم الانتهاء من تنفيذ الأعمال العائدة للمشروع في نهاية 2015.

وتشرف وزارة الثقافة على أشغال المتحف، والمديرية العامة للآثار على عملية التنقيب عن الآثار في موقع الفرير الأثري، بالتعاون مع فريق المتحف البريطاني برئاسة الدكتورة كلود ضومط، وقد كشف التنقيب عن الكثير من المكتشفات الأثرية المهمة وبالتالي، فإن إنشاء مشروع متحف صيدا الأثري يهدف إلى إعطاء مدى سياحي أوسع للمدينة عبر عرض هذه المكتشفات ضمن محيطها الأثري والتاريخي، إذ يتم بناء المتحف على مدخل الحفرية التي جرى التنقيب فيها ويصل إليه الزائر عبر حديقة عامة تقع بالقرب من الأسواق التاريخية والمناطق السكنية، وهو سيشكل معلماً أساسياً من المعالم السياحية والثقافية الجاذبة في المدينة.

الموقع والمكتشفات

وقد جرى اختيار موقع المتحف بعناية، تماشياً مع اكتشافت موقع «الفرير» الذي يعيد تدوين تاريخ صيدون القديم عبر تسلسل المراحل التاريخية، وقد سبرت هذه الحفرية في شارع «الشاكرية» المزيد من باطن الأرض، فأخرجت أسرار «صيدون» القديمة بما يشبه إعادة تدوين تاريخها الذي يبدأ من الحقبة البرونزية، أي 3000 عام قبل الميلاد وصولاً إلى العصر الفينيقي والروماني والفارسي وبعض الإسلامي.

وتولت البعثة البريطانية الموفدة من المتحف البريطاني بالتعاون مع المديرية العامة للآثار هذه المهمة حيث تتوغل في الأرض عمقاً طولاً وعرضاً، بحثاً عن كل جديد، وقد دلّت المكتشفات، على أن موقع «الفرير» الأثري يُعتبر الأهمّ ليس في لبنان وحسب وإنما في المنطقة، بعدما تأكد أن هناك تسلسلاً في الحقبات التاريخية، وفي أعقاب العثور على معبد وهياكل عظمية كاملة وأكثر من مليون قطعة فخارية أثرية، عدد قليل منها سليم والباقي مكسورة ومبعثرة، إضافة إلى 108 هياكل عظمية لأطفال ومحاربين كنعانيين، وبقايا حيوانات مميزة، فضلاً عن أوانٍ وصنانير وخناجر، وقطع مصرية موضوعة جانب الموتى كرمز ودليل على أنه يوجد شيء مهم في المكان وليس للاستعمال.

كما ظهر في الموقع سور صيدا القديم الذي يُعتبر الحلقة الأخيرة من تاريخ صيدا الغابر، والذي يشكل حلقة الوصل مع التاريخ الحديث بدءاً من القلعتين البحرية والبرية، والمتعبد «الصيداوي» أو «الصيدوني»، أي هيكل أو مجسم لإنسان كامل منقوش بالبلاستير، يظهر الوجه فيما اليدان مضمومتان إلى الصدر احتراماً وتعبيراً عن الطاعة والولاء.

وكان في الماضي يُكتشف على الجرار آلهة وجوههم نصف حيوان ونصف إنسان، إضافة إلى غرف ومستودعات القمح والشعير وسواهما ومئات الجرار الفخارية التي تدل على كثافة المبادلات التجارية من لبنان إلى اليونان، إضافة إلى جرار من جزيرة «رودوس» ومنها «جرة» عليها «قرن ثور» وداخلها هيكل عظمي وعقد من الذهب والعقيق وحلق مزدوج من البرونز، ما أتاح فهم الطقوس المدفنية.

وقبل أيام، أُعلن عن اكتشاف «إناء شرب صيدوني»، بمقبض نصف دائري ومزين برسوم طيور، من جزيرة إيفيا اليونانية، لا مثيل له إلا في متحف مدينة نيويورك الأميركية. ويتوسط الإناء المكتشف رسم لشجرة الحياة، يعود إلى الفترة ما بين 760 و750 قبل الميلاد. كما كان بين المكتشفات الكثير من أواني الشرب من جزيرة ايفيا، وجزء من محرقة بخور فينيقية مزينة برسم زهرة اللوتس، وآثار فينيقية عبارة عن تمثال صغير، ورأس حصان، ورؤوس رماح، وختم محفور على الطريقة المصرية، إضافة لعملة وتماثيل رومانية.

كلود ضومط

كل هذه المكتشفات ستكون تحت مظلة المتحف نفسه، إذ تؤكد المشرفة على البعثة البريطانية الدكتورة كلود ضومط سرحال لـ «الراي» أن المتحف في موقعه، «سيكون الأول من نوعه في الشرق الأوسط وأن القطعة النادرة ستحتل مكاناً محورياً فيه، وسيُسمح للزوار بالنزول إلى الموقع نفسه للتمتع بمشاهدة الأطلال، وسيرون بأنفسهم كيف حُفظت التنقيبات تحت المتحف، وهذه الرحلة الرائعة عبر الزمن ستغطي نحو خمسة آلاف سنة من الاكتشافات تبدأ من نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد وتنتهي بصيدا القرون الوسطى والعهود الاسلامية».

وتعتبر ضومط «أن المتحف مهم جداً لأنه يضيء على ماهية مكتشفات صيدا، وسيضم في جنباته نحو 1400 قطعة أثرية متفاوتة الحقبات التاريخية، فضلاً عن كونه الأول خارج العاصمة بيروت، والأهمّ من كل ذلك أنها المرة الأولى التي تتعزز علاقة الزائر مع القطع الأثرية، ففي كل متاحف العلم أو المعارض يرى الانسان القطعة الأثرية، بينما في هذا المتحف سيعزز علاقته بها مباشرة، إذ يستطيع أن يشاهد بأم العين من أين استُخرجت القطع الأثرية، وكيف جرى ترميمها والحفاظ عليها وإبرازها، بمعنى أن متحف صيدا سيسمح بتعزيز العلاقة بين الانسان والآثار على قاعدة من الأرض إلى العرض».

السنيورة والهبة

ويعود الفضل الأكبر في تمويل مشروع المتحف، إلى الرئيس السنيورة الذي سبق أن أكد «أن لمتحف صيدا شقيقا توأما هو المتحفُ التاريخي لمدينة بيروت وهو المتحف الثاني في العاصمة، وقد تبرّع بتمويله أَميرُ دولة الكويت الشيخ صُباح الأحمد الصُباح بهبةٍ كريمةٍ بقيمة 30 مليون دولار أميركي، ويضافُ إلى هذا المبلغ أربعة ملايين دولار أميركي خَصّصَتْها الكُويتُ لمتحفِ صيدا. وعندما علمتُ أنّ كلفةَ المشروع قد تتجاوزُ هذا المبلغ، لم أجد أفضلَ من صديقِ لبنان الدكتور عبد اللطيف الحمد، رئيس الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لاقترحَ عليه مساهمةَ الصندوق في المشروع، فلبّى مشكوراً عبر إضافة 850 ألف دولار أميركي هبةً من الصندوق العربي لإتمام هذا المشروع الكبير».

واضاف: «أنّ هذه المساهماتِ من أشقّائنا العرب في المشاريع الثقافية تؤشر إلى أهمية دور لبنان الثقافي وإلى الدور الذي يدعونا أشقاؤنا إلى الاستمرار في القيام به تعزيزاً للعروبة الحضارية التي تزخَرُ بالقيم الإنسانية، والتي تضعُ حاضر مُدُنِنا ومستقبلَها، كما تضعُ إنسانَنا، على خطّ المسيرة المتواصلة في التحقيق والإنجاز، ووعي التاريخ في سياق الحاضر والمستقبل وإنّ المُراد من وراء متحف صيدا التاريخي أن يكونَ شاهداً على عظَمةِ المدينة، وعلى استمراريتِها التاريخية، كما أن يُسهمَ إلى جانب مرافقَ ونشاطاتٍ أُخرى قائمة أومقبلة، في إعادتِها مقصِداً ومركزاً من طريق الجواذب الكثيرة والمبادرات المتعدّدة والفعّالة، التي نصنعها بإرادتنا وسعينا ومثابرتنا».

ويُذكر أن المدير العام للصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية عبد الوهاب البدر الذي كان شارك في وضع الحجر الأساس، اعتبر «أن المتحف سيكون شاهداً على إسهام هذه المدينة العريقة في حضارة لبنان منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، وهو ما أثبتته حفريات المتحف البريطاني التي تُعتبر من أهم الحفريات الأثرية وهو الإرث الحضاري والشاهد الذي يسعى المشروع إلى إبرازه والمحافظة عليه وهذا المشروع هو أقل ما يمكن أن نقدمه من خلال هذه المنحة لهذه المدينة العريقة وأهلها الكرام الذين يستحقون كل التكريم لما قدموه للبنان عبر العصور من حضارة وثقافة ورجال وتضحيات».

تاريخ «الفرير»

بدأ العمل في حفرية «الفرير» الواقعة عند تخوم المدينة القديمة وتحديداً في شارع الشاكرية المجاور لمتحف صابون عودة، العام 1998 بعدما استملكتها مديرية الأثار العام 1960 في عهد الأمير موريس شهاب عقب العثور فيها على عمود تاريخي يعود إلى الحقبة الفارسية وهو الآن موجود في المتحف الوطني.

وبقيت الحفرية على حالها إلى أن أعطى في العام 1998 المدير العام السابق لمديرية الآثار الدكتور كميل الأسمر الإذن للمتحف البريطاني لبدء الحفر والتنقيب عن آثار صيدا، قبل أن تكتشف أواخر العام ذاته أول طبقات حقبة 3000 عام قبل الميلاد وتكر السبحة.

ومنذ ذلك الوقت أي قبل سبعة عشر عاماً، وأعمال الحفر والتنقيب عن تاريخ «صيدون» القديمة تتواصل، حيث يقوم أعضاء البعثة البريطانية الموفدة من المتحف البريطاني ومعهم خبراء آثار لبنانيون بالعمل في المكان.

على أن الأهم، هو كشف الحقبات الزمنية المتعاقبة والطبقات الأرضية المتتالية، إذ ظهر أن هناك 6 طبقات لحقبة 3000 قبل الميلاد ـ العهد البرونزي القديم، و8 طبقات لحقبة 2000 ـ العهد البرونزي الوسطي أي الكنعاني، و5 طبقات لحقبة 1000، العهد الحديدي أي الفينيقي ثم الفارسي، وصولاً إلى الاسلامي ما يعني وفق خبراء الآثار، التسلسل التاريخي دون انقطاع، وهذا الأمر نادر في لبنان والمنطقة.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي