ظاهرة تعاظمت بعد النزوح السوري والأمم المتحدة في سباق مع واقعهم المرير

100 ألف طفل في لبنان ... «ضحايا» العمالة والاتجار بالبشر

تصغير
تكبير
• سعد في عينيه دمعة مجبولة بغبار وآثار دخان السيارات: «الكل بيتعاطى معي كأني شحاذ»

• يزن يمسح جبينه من العرق: «أيش نسوي؟ أبي ما قادر يكفي إيجار البيت منين نوكل ونشرب؟»
«لبنان من أكثر الدول التي تسجل نسبة عمالة الأطفال فيها رقماً قياسياً نسبة لعدد سكانه والمقيمين فيه»، بحسب ما أشارت اليه العام 2008 خطة العمل الوطنية التي أعدّتها اللجنة الوطنية لمكافحة عمل الأطفال ومنظمة العمل الدولية، قبل ان تُكرِّس هذه الخلاصة في الأعوام التالية تقارير دولية مختلفة أكدت أن «لبنان قد يكون من الدول التي تسجل النسبة الأعلى في العالم للأطفال العاملين ممن تراوح أعمارهم بين 10 و17 عاماً».

ولا شكّ في أن ما شهده لبنان ابتداء من العام 2011 لجهة تسجيل أكبر نسبة نزوح للسوريين إليه هرباً من أعمال العنف الدائرة في بلادهم، فاقم ظاهرة عمالة الأطفال، ولا سيما أن إحصائيات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تشير إلى أن طفلاً واحداً فقط من أصل أربعة أطفال من النازحين يرتاد المدرسة، في حين تكشف الأرقام أن أكثر من مئة ألف طفل (من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين) يقعون ضحايا العمالة والإتجار بالبشر في لبنان.

ورغم محاولات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وغيرها من الجمعيات والمنظمات الدولية، إلا أن البرامج الوقائية لم تنجح في الحدّ من عمالة الأطفال التي تعاظمت في ظل الواقع المأسوي الذي يعيشه النازحون السوريون بما ينذر بإنتاج جيل من الشباب سينشأ بعيداً عن مقاعد الدراسة، ويضاف الى الآلاف من أبناء المخيمات الفلسطينية ومثلهم من أطفال لبنانيين يعيشون تحت خط الفقر وتم «رميهم» في سوق العمل.

ومَن يتجوّل في لبنان، وخصوصاً في البقاع، هذه الأيام ربما لا يجد مكاناً أو زاوية إلا وفيه أطفال يجوبون الشوارع لبيع بعض الأدوات التي يستعملها السائقون، أو التي يستهلكها الركاب. وحتى المحال التجارية والمؤسسات بات غالبية عمالها من الأطفال ممن تراوح أعمارهم بين الـ 13 والـ 16 عاماً، عدا عن محال تصليح السيارات والنجارة والحدادة وغيرها من المهن الحرة.

وتشير الأرقام إلى أنه قبل اندلاع الحرب السورية كان عدد الأطفال العاملين في لبنان لا يصل إلى 35 ألفاً، وقد ارتفع هذا الرقم بعد 2011 ونزوح نحو 1.3 مليون سوري إلى لبنان ليبلغ أكثر من مئة ألف في بلدٍ لم يصل عدد المقيمين فيه إلى 7 ملايين نسمة بما في ذلك النازحين السوريين، ما يجعل «بلاد الأرز» من بين الدول التي تسجل أعلى نسب في العالم للأطفال العاملين والذين يتعرضون للاستغلال الجسدي والجنسي.

لا يكلّ سعد ابن الثماني سنوات، من الجري خلف زبائن المحال التجارية ومكاتب الصيرفة في ساحة شتورا، وهو يحمل بين يديه «رزمة» من علب العلكة ليعرضها عليهم.

ويقول سعد وفي عينيه دمعة مجبولة بغبار وآثار دخان السيارات: «الكل بيتعاطى معي كأني شحاذ»، مضيفاً وبصوته غصة «والله انا مو شحاذ». ويروي أن ما دفعه إلى العمل في بيع العلكة والمحارم أن والده قُتل في حمص قبل أربعة أعوام، الأمر الذي اضطره وأخيه الأكبر منه بسنتين لأن يعملا كي يسدا رمق اسرتهما كون إعانة الامم المتحدة لا تكفي مصاريف السكن والطبابة.

أما «يزن» ابن العاشرة الآتي من ريف القصير، فخسر حلمه وأمله بأن يستكمل علمه ليصبح مهندساً بعدما ضاقت الدنيا بوالده، ما اضطره لأن يترك المدرسة ويلجأ إلى العمل في أحد المحال التي تبيع الفحم، مقابل أجر 50 ألف ليرة (نحو 30 دولاراً أميركياً) اسبوعياً.

وقال يزن وهو يمسح جبينه من العرق: «أيش نسوي؟ أبي ما قادر يكفي إيجار البيت وقيمته 300 دولار، منين نوكل ونشرب؟».

«أتمنى أرجع لمدرستي ولدارنا»، عبارة تعبّر عن مدى قساوة الحياة في التشرّد التي يعيشها «عامر» ابن الثانية عشرة من عمره، اللاجئ من ريف حلب الجنوبي. فهو يعمل في أحد المستودعات لبيع السيراميك، ولا ينكر أنه حتى يحافظ على عمله يضطر إلى حمل أوزان لا طاقة له عليها «حتى ما يشعر صاحب المحل أني ضعيف ويستغني عني»... هكذا يتمتم الفتى في سره ليردف «الله يلعن الحرب، مو دمرت بس بيوتنا ومدارسنا كمان دمرت حلمنا».

بدوره يشير حازم ابن الرابعة عشرة من عمره والنازح وعائلته من داريا في ريف دمشق، الى أنه يبيع الأدوات الشخصية على الطرق الرئيسية أثناء زحمة السير وعند إشارات المرور، موضحاً أنه يعمل مع مجموعة من الأطفال والعجائز يديرهم شخص يدعوه «عمو أبو أحمد» يزوّدهم بالبضائع، من علب أدوات إسعافية وإشارات توضع في صندوق السيارات، وإطفائيات فردية. فهذه الأشياء مطلوبة في السيارات بحسب قانون السير اللبناني الجديد، ولذا يستغل «أبو أحمد» كل ما هو مطلوب في مراحل آنية ويعمل على تزويدها للفتيان لبيعها، مقابل أجور زهيدة لا تتجاوز 10 آلاف ليرة يومياً (أي 7 دولارات) من دون احتساب مخاطرها جراء حوادث الصدم التي كثيراً ما تعرضوا لها، وادت إلى حالات وفاة عدا عن الأضرار الجسدية.

يفتش «عمر» ابن عشرة أعوام، وأخوه الأصغر منه بسنة، في حاوية النفايات عن كل ما هو حديد وتنك وكرتون وبلاستيك ليجمعاها في كيس، ومن ثم يقومان ببيعه لإحدى «بؤر جمع الخردة».

ويؤكد «عمر» أنه لجأ إلى هذه الطريقة في نبش النفايات بعدما عجز والده عن إيجاد عمل يكفي لأن يسدّ به رمق أسرة نزحت قبل ثلاثة أعوام من حمص إلى لبنان.

والد أحد الأطفال العاملين، يعيد سبب قبوله بعمل نجله ابن الثالثة عشرة، إلى أنه صرف في لبنان جميع ما كان ادخره في سورية، ويقول: «أول ما هربنا اعتقدنا أن الأزمة ستنتهي بعد أشهر. وبين تسديد بدل إيجار المنزل البالغ 500 دولار، ومصروف أكل وشرب وطبابة وما شابه،(طار كل اللي كنا صمدناه)»، ليضيف بتأفف:»كنت بحلم يصير ابني طبيبا لكن كلفة الحرب جعلتنا نستغني عن أحلامنا وآمالنا»، قبل أن يجزم بأنه قبِل بعمل ابنه»لأنني لم أجد فرصة عمل تكفي مصاريف العيش في بلاد الغربة».

وهذه العيّنة من معاناة الأطفال السوريين النازحين إلى لبنان تشكّل مرآة لواقع مرير يُخشى أن يترك تداعيات على مستقبل جيل لن يتمكّن بعد أن تنتهي الحرب في وطنه الأم من أن يلعب الدور المطلوب في إعادة النهوض ببلده والإمساك بمصيره، وقد يجد نفسه يدفع ثمن الحرب كما السلم الآتي لا محالة.

المسؤولة في قسم الإعلام في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ليزا أبو خالد أكدت وجود هذه المشكلة المتفاقمة»التي تشكل مصدر قلق كبير، ولا سيما أن العديد من الأسر النازحة استنزفت مواردها ولم يعد أمامها سوى فرص محدودة جداً لكسب الرزق. كما أن قدرة الأطفال النازحين على ارتياد المدارس محدودة بدورها، وبالتالي فغالباً ما يتم إرسالهم للعمل للمساهمة في توفير الدخل لأسرهم».

وأشارت ابو خالد لـ»الراي»إلى أن تحليل المخاطر التي تهدّد الأطفال،»يُظهِر أن ثمة شيوعاً لعمالة الأطفال وإهمالهم وسوء معاملتهم، وذلك بسبب محدودية الموارد المالية، إذ يجد أهالي الأطفال النازحين أنفسهم مجبرين على إرسالهم للعمل بدل ارتياد المدرسة وذلك من أجل تحسين دخلهم». وتضيف:»كما أن محدودية فرص الحصول على التعليم أجبرت العديد من الأطفال على الانخراط في سوق العمل (1 من أصل كل 4 أطفال سوريين نازحين مسجّل في مدرسة رسمية)».

وأوضحت»أن توفير البدائل الاقتصادية للوالدين وتعزيز إمكان الالتحاق بالمدارس الرسمية تبقى حلولاً محدودة، ولذا توفر مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمات الشريكة حالياً أنواعاً مختلفة من التدخلات تبعاً لمستوى الخطر الذي يواجهه كل طفل».

واشارت إلى»التدابير الوقائية من أجل منع ارتفاع عدد الأطفال العاملين، ومن بينها الجلسات المنتظمة التي تعقدها المنظمات الشريكة للتوعية على أهمية التعليم ومخاطر عمالة الأطفال، إلى جانب الزيارات المنزلية التي تحصل في هذا السياق والدعم التربوي - النظامي أو غير النظامي».

وإذ لفتت إلى»أن هذه الأنشطة تجري من خلال متطوعين من النازحين، في المراكز الاجتماعية أو مراكز الخدمات الإنمائية»، قالت رداً على سؤال عن الدعم المقدم في هذا الإطار إنه»عندما يتم تحديد الأطفال العاملين، تجري إحالتهم إلى المنظمات الشريكة المتخصصة للحصول على مجموعة واسعة من الخدمات مثل الدعم المالي والطبي والنفسي والاجتماعي، فضلاً عن الأنشطة الترفيهية».

وأكدت»ان هناك استجابة عاجلة للأطفال الشديدي التعرض لخطر العنف والاستغلال، أي أنه يتم انتشال الطفل الذي يعمل في بيئة شديدة الخطورة بشكل عاجل من هذه البيئة ويجري تزويده بالدعم النفسي والاجتماعي، وإشراكه في أنشطة ترفيهية مع إعادة إدماجه في المدرسة من خلال دروس تقوية عندما يكون ذلك ممكناً»، مشيرة إلى»أن برنامج الأمم المتحدة لا يقتصر فقط على توعية الأطفال العاملين ومساعدتهم، إنما العمل مع الأطفال وأسرهم للتخفيف من مخاطر العنف وسوء المعاملة من خلال الدعم الاجتماعي، وذلك بتشجيع الآباء والأمهات على حضور الأنشطة في المراكز الاجتماعية ومراكز الخدمات الإنمائية حيث يمكنهم مناقشة مخاوفهم ومشاركتها وتلقي المشورة، إلى جانب دعم الأسر المحتاجة والشديدة الضعف من خلال مساعدات نقدية تبقى أساسية للحد من الاعتماد على عمالة الأطفال».

وتابعت أبو خالد»أن المفوضية أطلقت برنامج التدريب الوطني بهدف تزويد المرشدين الاجتماعيين من مختلف المنظمات (الدولية والمحلية) بمهارات العمل الاجتماعي، لتقديم المشورة إلى الأطفال وأسرهم وإعادة إنشاء الروابط بين الأطفال وأولياء أمورهم، ومساعدة الآباء والأمهات على رعاية أطفالهم وحمايتهم بشكل أفضل. وتشمل برامج المفوضية، من خلال خدمات التدريب والدعم المجتمعي، توعية المجتمع والجهات الفاعلة المحلية على المسائل المتعلقة بحماية الطفل. وهذا يساهم في تنبيه أولياء الأمور والمجتمعات المحلية بشأن المخاطر التي تهدد أطفالهم: عمالة الأطفال وزواج الأطفال وغيرها، وتعبئتهم لإطلاق آليات حماية في مجتمعهم من أجل منع الانتهاكات التي تقوّض حماية الطفل».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي