تحقيق لتحديد المسؤوليات بعد سقوط نحو 18 جريحاً من المتظاهرين و35 من قوى الأمن

وسَط بيروت ساحة كرّ وفرّ بين «صرخة مدنية» ضد النفايات... وتصفية حسابات سياسية

تصغير
تكبير
استفاقت بيروت أمس على مشهد مثقل بكل التداعيات الغامضة التي تركتها المواجهات الحادة التي شهدها وسط العاصمة اللبنانية مساء أول من أمس امتداداً على نحو خمس ساعات، بين المتظاهرين المحتجّين على استمرار أزمة النفايات المتمادية منذ أكثر من شهر والقوى الأمنية المولجة حماية المنطقة الأمنية التي تضمّ مجلس النواب والسرايا الحكومية.

واتخذت هذه المواجهة طابعاً شديد الالتباس، نظراً الى تطور الصدامات في شكل واسع وشديد الحدة والعنف، الأمر الذي برز في كثافة عدد المصابين والجرحى، سواء بين المتظاهرين او عناصر قوى الامن، وذلك بعدما احتدمت المواجهات وبرزت محاولات متقدمة من مجموعات كبيرة من المتظاهرين، لاقتحام خطوط الحماية لمجلس النواب والسرايا الحكومية، الأمر الذي ردّت عليه القوى الامنية باستعمال خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي ومن ثم إطلاق الرصاص الحيّ في الهواء بكثافة.


وإذا كان الإفراط في استعمال القوة أثار تداعيات سلبية واسعة اعلامياً وشعبياً، فان البُعد الآخر الذي شكله ذلك تمثل في معطيات ميدانية وسياسية، عكست محاولة توظيف تظاهرة دعت اليها حركة مدنية تسمى «طلعت ريحتكم»، وجرى تحويرها في اتجاهات حزبية وسياسية، أرادت بعض الجهات استغلالها للنيل من حكومة الرئيس تمام سلام، والسعي الى اسقاطها في الشارع، ولا سيما مع «طفرة» مطالب وسلّة الأهداف العشوائية للمتظاهرين التي راوحت بين ملف النفايات ومن ثم الفساد، وصولاً الى المطالبة بإسقاط النظام واستقالة الحكومة و«البرلمان الممدِّد لنفسه».

وبرز الدليل الأقوى على هذا الانحراف، من خلال مواقف لافتة متسارعة للزعيم الدرزي النائب وليد جنبلاط، الذي كان اتخذ موقفاً داعماً بقوة لحركة «طلعت ريحتكم» وشجّع ضمناً أنصار الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يترأسه على المشاركة في التظاهرة. ولكن جنبلاط سارع في وقت لاحق وبعد تطور المواجهات، الى دعوة أنصاره الى الانسحاب من الشارع، بعدما اتهم جهات في قوى 8 آذار وأنصار تيار العماد ميشال عون، بتوظيف شعاراتهم في التظاهرة. كما فجّر رئيس «التقدمي» سجالاً حاداً مع وزير الداخلية نهاد المشنوق،اذ دعاه الى الاستقالة متهماً إياه «بالكذب» على خلفية التعاطي الذي حصل مع المتظاهرين، الامر الذي ردّ عليه المشنوق باتهام الزعيم الدرزي «بالمزايدات»، مذكراً بأن جنبلاط «اول الفاشلين مع باقي الكتل السياسية في حل ازمة النفايات» وبأنه سبق «ان اندفع في تسمية نجيب ميقاتي رئيسا للحكومة متضامناً مع قوى الثامن من آذار قبل ان يستفيق مؤخراً الى خطايا القوى التي حالفها في الحكومة السابقة».

والاكثر إثارة للانتباه كانت مسارعة تيار العماد عون الى محاولة «ركوب الموجة» الشعبية من خلال ليس فقط دعم مطالب المتظاهرين، بل دعوة مناصريه الى المشاركة في التحرك، وهو ما تمثّل في اعلان صهر عون وزير الخارجية جبران باسيل «اننا مدعوون جميعا الى التضامن اولاً، وثانياً النزول للوقوف مع هؤلاء الشباب». وقد أفضى هذا الفائض من الاحتضان السياسي الى استشعار القيّمين على تحرك وسط بيروت بوطأة تسييسه من خلال مواقف أطلقوها رفضاً لمواقف نواب ووزراء اعلنوا تأييدهم لاحتجاجاتهم، وخصوصاً ان هؤلاء مشمولون بصرخة المجتمع المدني، وهو ما دفع المتظاهرين مثلاً الى الاستهزاء بإعلان النائب نبيل نقولا (من كتلة عون) تعليق عضويته في مجلس النواب احتجاجاً على استخدام العنف ضدّ المتظاهرين.

واذ تتحدث الأوساط المعنية بهذا التطور عن مساعٍ حثيثة لتجنيب البلاد هذا القطوع الخطير الذي بلغ حدود محاولة إسقاط الحكومة، اي آخر المؤسسات العاملة في النظام اللبناني، لفتت الى ان موضوع الافراط في استعمال القوى الأمنية القوة في مواجهة المتظاهرين سيخضع لتحقيقات بدأت فعلياً، امس، مع عودة وزير الداخلية من الخارج وتكليفه المفتش العام لقوى الامن الداخلي العميد جوزف كلاس، اجراء تحقيق حول ما جرى بين المتظاهرين وقوى الامن الداخلي وغيرها من القوى العسكرية (شرطة البرلمان)، طالباً ان يكون التحقيق جاهزا خلال 42 ساعة ليبنى على الشيء مقتضاه وفق القانون. كما أوكل المشنوق الى كلاس زيارة الجرحى والمصابين من المواطنين وقوى الامن الداخلي والقوى العسكرية والاستماع الى كل واحد منهم بشان ما جرى، علماً ان مفوض الحكومة المعاون لدى المحكمة العسكرية القاضي الزعني كان سارع الى فتح تحقيق حول ما حدث في ساحة رياض الصلح، في وقت كانت مصادر عسكرية تنفي مسؤولية الجيش عن اطلاق الرصاص،باعتبار ان الجيش لم يكن مكلفا حفظ الامن في بقعة المنطقة الامنية للسرايا الحكومية ومجلس النواب.

لكن الاوساط نفسها اشارت الى ان موضوع المحاسبة ينطوي على تعقيدات عدة من ابرزها تَداخُل القوى الامنية وتَداخُل إمرة كل منها بين قوى الامن الداخلي والجيش وشرطة مجلس النواب. ومع ذلك لا تخفي الاوساط جانباً مهماً للغاية، وهو انه حتى لو ثبت انه حصلت تجاوزات في استعمال القوة، فان ذلك لن يبدّل امراً أساسياً هو القرار الأمني - السياسي الكبير بمنْع اي محاولة لاقتحام حرم المنطقة الامنية في وسط بيروت، وبمعنى أبعد منْع اي محاولة لتحويل التظاهرات وسيلة لإسقاط الحكومة وما تبقى من مؤسسات.

وكانت هذه المسألة محور الاهتمام طول امس حيث شخصت الأنظار الى المعتصمين في ساحة رياض الصلح الذين كانوا لجأوا منذ ليل السبت الى نصب الخيم وأكملوا امس تحركهم وسط رفع سقف مطالبهم الى حد المطالبة باستقالة الحكومة ورئيسها وحلّ البرلمان، داعين كل اللبنانيين الى الانضمام اليهم وملوّحين بتصعيد كانوا يضعون اللمسات الاخيرة عليه، في ظل مخاوف من تكرار محاولة التقدم نحو ساحة النجمة، حيث مقر البرلمان وإزالة السياج الشائك من أمام السرايا الحكومية، وهو ما كان فجّر المواجهات مع القوى الأمنية اول من امس.

فـ «السبت الساخن» كان بدأ عصراً بهدوء مع توافُد نحو 3 آلاف متظاهر، وبينهم نقابيون وفنانون ومنظمات المجتمع المدني، رافعين لافتات ترفض الفساد، انقطاع الماء والكهرباء، وكلّ الملفات المعيشية والوطنية الأخرى. ولدى محاولة المعتصمين التقدم باتجاه ساحة النجمة وإزالة السياج الشائك وقعت صِدامات لجأت معها القوى الامنية الى استخدام خراطيم المياه بدايةً لإبعاد المتظاهرين، قبل ان يبرز رمي حجارة عليها، ما ادى الى هرج ومرج، لتنزلق المواجهة الى إفراط في استخدام العنف ضد المواطنين عبر اللجوء الى القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي الذي اصاب عدداً من المتظاهرين وصولاً الى إطلاق الرصاص الحيّ في الهواء.

وعلى مدى نحو خمس ساعات، ارتسم مشهد عنفي نافر تحوّلت معه ساحتا رياض الصلح والشهداء «ارض معركة» فعلية، تخلّلها كرّ وفرّ وارتفاع أصوات المتظاهرين المطالبة باستقالة وزير الداخلية الذي عاد وأوعز بإطلاق كل الموقوفين، وسط نقل وسائل الإعلام اللبنانية والعربية هذا الحدَث على الهواء ما أعطى صورة سلبية عن الواقع اللبناني.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي