رؤى / مؤلفة «مغامرات نيلز» الشهيرة

صور سلمى لاغرلوف... على إحدى العملات والطائرات في السويد

تصغير
تكبير
دار في رأسي ان اختار شخصية مميزة من مكتبة نوبل ممن اختفت الاضواء عنها لغرض الكتابة عن مشوارها وبعد تفكير دقائق لم أجد غير سلمى لاغرلوف القاصة والروائية السويدية الشهيرة، ربما لأنني أميل الى اختيار الشخصيات التي كونت اسماً من المعاناة، والذين عانوا في حياتهم منذ الطفولة كثيراً قبل الوصول للمجد والشهرة، فهناك ثمة أشخاص لم تركز عليهم الدراسات وأهملتهم بصورة واضحة وعندما يقرأهم المتلقي يرى ان لديهم ثراء كبيرا على المستوى الفلسفي والإبداعي، امثال اميلي ديكنسون ولويجي بيراندللو وبرنارد شو وآخرين، سأدخل بعد هذه المقدمة للحديث عن سلمى لاغرلوف...

التي ربما يجهلها الكثير منا، من منا لم يتابع افلام الكارتون الشهير(مغامرات نيلز) ذلك الشاب الشقي الذي تحول الى قزم؟ اكيد كلنا شاهد هذه التحفة الفنية ولكن من منا تساءل عن مؤلفة هذا العمل؟ اجزم كثيرا ان الأغلبية لا يعرفون ان مغامرات نيلز من تأليف السويدية سلمى لاغرلوف، التي ولدت في عام 1858 في السويد وتوفيت عن عمر (81 عاماً).

كتبت القصص القصيرة مستمدة ثيمها من الخيال والخرافات لانها كانت في صغرها تستمع جيداً الى حكايات الجدات الأسطورية والخرافية فتأثرت كثيرا بهذا النمط الحكواتي.

ولان إصابتها بشلل طفولي أبعدتها عن اللعب مع بقية الاطفال وجعلتها صديقة للجدات وكبيرات السن.

هذا الشلل الذي استمر معها واصابها بالعرج حتى سني عمرها المتقدمة انعكس ايجاباً على تجربتها، عانت كثيرا في حياتها قبل ان تتوجه للعمل كمدرسة في بلدة لاند سكرونا بعد ان تخرجت من كلية للمعلمين في ستوكهولم، وكانت بداياتها في سن مبكر حينما كانت تكتب الشعر ولكنها سرعان ما اتجهت الى السرد وصار لها اسماً ادبيا بعد ان نشرت روايتها الأولى (ملحمة غوستا برلنغ) والتي كانت تشير الى نهضة رومانطيقية في الأدب آنذاك في السويد بالتحديد، وتمثلت هذه الرواية بانطلاق حياة سلمى الأدبية بعد ان نالت جائزة أدبية عنها وحصلت على عقد للنشر ويقال انها تأثرت في هذه الرواية بالمؤرخ توماس كارليل.

وكانت هناك نقلة مهمة لسلمى عام 1894 حيث نشرت سلمى مجموعتها القصصية (العلاقات الخفية) وفي العام التالي حصلت على منحة سفر من العائلة الملكية في السويد.

وبحلول عام 1895 جاء القرار من سلمى بترك التدريس لتكرس نفسها لمضمار الأدب الذي عشقته، كذلك زارت سلمى مصر وفلسطين وأقامت في القدس لفترة وكتبت بعد عودتها رواية (القدس) التي تحولت لفيلم سينمائي في ما بعد ولاقى إشادة عالمية.

وحينما زارت ايطاليا كتبت رواية معجزات المسيح الدجال التي يرى النقاد بأنها تمثل (الاتجاه الواقعي الاشتراكي) ويقال انها التجأت لكتابة رواية عجائب المسيح الدجال والقدس بعد شعورها بالإلحاد والخواء الفكري فعالجت ذلك بالسفر للقدس، ولعلم ابرز رواية اشتهرت فيها هي ( رحلة نيلز هولغرسونز الرائعة عبر السويد) التي أخرجها المخرج هيزايوكي توريومي، ومامورو أوشي؛ ولكن كيف كتبت هذه الرواية ولماذا؟ لاوكيف تحولت الى افلام كارتون عالمية؟ اليكم القصة، في احد الأيام تلقت سلمى رسالة من هيئة المعلمين الوطنية تطالبها بتأليف كتاب جغرافية للمدارس السويدية، بعد ان لاحظت الهيئة ان التلاميذ في السويد يواجهون صعوبة بعقم مادة الجغرافية وكره واضح لهذه المادة الجافة.

فأرسلوا رسالة لسلمى مفادها «نحن بحاجة ماسة إلى كتاب مدرسي يستمتع الأطفال بقراءته في حجرات الدراسة، ليثير اهتمامهم بجغرافية بلادهم كي يعرفوها أكثر ويحبوها، نرجو أن يكون الكتاب مثيرا لاهتمامهم ليس بالجغرافيا فقط وإنما أيضا بالتاريخ والأساطير الشعبية»، إجابتهم سلمى: (سأحاول...) ولكن هذا الامر جوبه بالرفض والاعتراض من المجتمع والمتخصصين حينذاك الذين استهجنوا ان يكتب منهج الجغرافيا من هو غير متخصص بهذا المجال ويعنون بذلك سلمى، قضت بعدها سلمى سنوات تبحث في الطبيعة وجمالياتها، وعن عوالم النبات والحيوان وتفاصيل عن بيئة وحياة السويد خصوصا الحياة الريفية، وكذلك بحثت في الخرافات والاساطير السويدية القديمة لتمزج كل تلك العوامل والظروف بروايتها الشهيرة (مغامرات نيلز) ذلك الطفل الذي تم عقابه لإساءته معاملة الآخرين (القزم) فما كان عليه الا ان يتحول قزماً ليستطيع بهذه الهيئة ان يتكلم مع الحيوانات ويكون شرط أعادته لهيئته الأولى عبر رحلة مع الاوز في أراضي المملكة السويدية من خلال هذه الرحلة يتم التعرف على جغرافيا المملكة السويدية (وهو الجانب التعليمي في الكتاب والذي أبرزته بقصدية عالية سلمى) هذه الرحلة التي (تطهر) ذات نيلز وتجعله يعود للرشد والصواب والطريق الصحيح وترك المشاكسة، أي ان هذا الكتاب بالأصل كتاب جغرافيا للتلاميذ حيث بعد ان تم اعتماده في المدارس السويدية لاقى استحسانا منقطع النظير ليس في السويد فقط بل في كل بقاع العالم فقد ترجم الى اكثر من 30 لغة ومنها العربية، كما تحول الى مسلسلات وأفلام كارتون للأطفال في اكثر من بلد.

وجعل الاطفال يكتبون لها رسائل الشكر والتقدير من كل البلدان، وهناك من يذهب الى ان رواية مغامرات نيلز عززت الرمزية في السويد، والأصح أنها رواية رمزية بامتياز لان الرمزية من ركائزها (الرحلة، وشخصيات من الحيوانات والنباتات، وتوظيف الأساطير والخرافات) وهذا موجود في روايتها ويشابه ذلك كثيراً من حيث مفهوم الرحلة والشخصيات الحيوانية المسرحية الرمزية للكاتب البلجيكي موريس ميترلنك (الطائر الازرق)؛ وعام 1909 أبلغت سلمى بفوزها بجائزة نوبل في الأدب، وتعد أول كاتبة سويدية تفوز بنوبل للآداب، ومنحت الجائزة تقديرا لإبداعها في تصوير المشاعر الإنسانية والمثالية النبيلة. وأصبحت بعد ذلك من ضمن أعضاء الأكاديمية التي تمنح جائزة نوبل والتي هي أصلاً في السويد.

وقفت سلمى في العاشر من ديسمبر عام 1909 أمام جمع غفير وأمام ملك وملكة السويد وذلك في ستوكهولم قائلة «منذ أيام قليلة مضت، كان الوقت أول المساء، كنت أجلس في القطار متجهة نحو ستوكهولم، وكان يوجد ضوء قليل في مقصورتي، بينما الخارج يغرق في الظلام، كان يغفو رفقائي المسافرون في أركانهم، كنت هادئة جداً أستمع إلى جلجلة القطار، تلك اللحظات بدأت أفكر في الأوقات التي كنت آتي فيها إلى ستوكهولم، كانت عادة أوقاتاً للقيام بعمل صعب مثل إجراء اختبارات أو البحث عن ناشر لكتاباتي، ولكن هذه المرة أتيت لأتسلم جائزة في الأدب، أعتقد بأن ذلك سيكون صعباً أيضاً»، أشاد حينها الفرد نوبل مؤسس الجائزة بكتابات سلمى كثيراً.

واستعادت بالمبلغ الممنوح لها لقاء الجائزة منزلها في مورباكا.

وكذا ايضا أرسلت سلمى ميداليتها الذهبية الحاصلة عليها في نوبل ارسلتها بداية الحرب العالمية الثانية لحكومة فنلندا في خطوة لتعزيز جمع الأموال لمقاومة الاتحاد السوفياتي.

وليس غريبا على سلمى ان تنال الجائزة عن مغامرات نيلز، لأنها تكفلت بتعليم الاجيال أخلاقيات العلاقة وقوانينها بين بني البشر والكائنات الاخرى، فضلاً عن القيم الاخلاقية والتربوية التي فيها، والتركيز على مهمة التعريف بجغرافيا بلد الجائزة (السويد) بصورة محببة ومشوقة للاطفال.

وفي عام 1907 حصلت على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة أوبسالا السويدية والتي تعد أقدم جامعة في السويد وفى عام 1928حصلت على الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة جريفس فالد الألمانية.

وتحولت روايتها (كنز السيد هير أرينز) الى فيلم سينمائي بعد ان ترجمت الى اكثر من لغة، وتم تأليف العديد من الكتب حول سلمى، ومن المؤلفين الذين كتبوا عنها (والتر بيريندوسن- أليسا إلسون- آن نيلسون- جينيفر مالدر- فولكردينا فريز) كانت سلمى كذلك من المناصرات لحقوق المرأة ودافعت عن ذلك في عدة محافل، انعزلت سلمى في سنواتها الأخيرة عن الناس، وبدأت تشعر بالتشاؤم، وفارقت الحياة عام 1940 وهي منغمسة في كتابة رواية جديدة.

وذات مرة سئل الروائي الفرنسي ميشيل تورنييه في حوار صحافي: من أيّ باب دخل الأدب في حياتك؟ فأجاب بصراحة مطلقة وبعيداً عن البطريركية: ((من باب كتاب الروائية السويدية سلمى لاغرلوف...

رحلة نيلز هولغرسون الرائعة عبر السويد، وهو كتاب جغرافيا وضعته للأولاد ونالت عليه في العام 1909 جائزة نوبل والشهرة العالمية كنت في الرابعة عشرة حين قرأته...

بهرني مناخه السحري))، وكتبت سلمى ذات يوم عن تجربتها قائلة:«عندما أكتب أعيش في وحدة كبيرة، وعليّ أن أختار بين عيشتي وحدي وأنا أكتب، وبين أن أعيش مع الآخرين ولا أقدر على كتابة كلمة واحدة» وبعد أن تنتهي من الكتابة تقول«يخيل إليّ أن شخصا آخر هو الذي كتب لي» هذا الإلهام الذي تكون لديها لم يأت اعتباطا بل من مكتبة ثرية بالعناوين الأدبية تلك هي مكتبة والدها التي كانت تعيش معها منذ الطفولة، ولآن وفي نهاية حديثي عن سلمى وكأني عشت معها كل تلك السنين حينما اقرأ سيرتها المفعمة بالتضحية للأدب السردي وادب الأطفال بالذات... كيف تم تكريم هذه الاديبة من قبل دولتها؟ لتتعلم الحكومات العربية...

احترام المبدعين والمفكرين.

ماذا حصل لسلمى...؟ إليكم ما حصل....قررت الحكومة السويدية وضع صورتها على واجهة العملة الرسمية (فئة 20 كرونا) تخيلوا من خلف العملة السويدية هذه؟ هناك سترون صورة الصبي نيلز ومورتن إي جهدها الروائي تكلل بان يوضع على العملة؟ أي المنهج الدراسي على العملة الرسمية للدولة! ولم يتم الاكتفاء بهذا فقد وضعت صورتها على إحدى طائرات الخطوط الجوية النرويجية.

وهنالك فندقان يحملان اسمها في السويد في مدينة سن بمقاطعة فارملاند، كما ان هناك شارعاً في القدس باسمها، وتحول منزلها في مدينة مورباكا إلى متحف يضم مقتنياتها المهمة.كما تم عمل تمثال لسلمى يقع في مدينة كارلستاد.هذا التكريم للمبدع في السويد...

فهل ثمة بلد كرم مبدعيه كما فعلت السويد مع سلمى لاغرلوف؟ اه وألف اه على البلدان التي تحترم عقول أبنائها.

* كاتب عراقي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي