الطريق الى الله

معرفة دار المقر (3)

| u0628u0642u0644u0645 u0627u0644u0633u064au062f u0623u0628u0648 u0627u0644u0642u0627u0633u0645 u0627u0644u062fu064au0628u0627u062cu064a * |
| بقلم السيد أبو القاسم الديباجي * |
تصغير
تكبير
يقول أمير المؤمنين علي(ع): «لَيْسَ لأنفُسِـكُمْ ثمَنٌ إلا الجَنَّةُ فَلا تَبيعوها إلا بِهـا» فـكل بيـع لم تكن فيـه الجنة للنفس ثمنـا كان بيعا خـاسرا والبائع فيه مغبـون والثمن خسـيس، ومثل هذه المعاملة الرخيصة لا تكون إلا نتيجة الغفلة والجهل والغور في الذنوب والمعاصي المهلكـة التي تعمـي القلوب وتحجبها عـن معرفة النفس وحقيقتهـا وتقدير ثمنهـا والغاية في خلقها، وبالتالي بيعها بالشهوة والهوى ودراهم معدودة.

ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته(ع) على أتم المعرفة لهذه المفاهيم والمقادير والموازين، ولذا قالوا (ع): «مَنْ عَرَفَ نفْسَـهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ»، وقالوا (ع): «مَعْرِفَـةُ النَّفْسِ أنْفَعُ المَعارِفِ»، فمن عرف نفسه عرف شأنها وثمنها وعرف كيف يبيعها ولمن يبيعها.


وعلى هـذا، فجنـة العارف هي جنة القـرب واللقاء وجـوار الله تعالى في دار المقر وتجلي أنوار جماله سـبحانه في رياض القدس بصورة دائمة متوالية، وناره نار البعد والهجران، وليس أشـد على العارف المحب لله من ألم فراق محبوبه والبعاد عن جواره، فتقربه إلى الله كرامة وبعده عنه إهانة، فتراه لا يطيق لذلـك صبرا ويردد ما قاله مولاه أمير المؤمنين(ع) في دعائه الملكوتي: «فهَبْني يا إلهي وسـيِّدي ومَـولاي ورَبِّـي صَبَـرْتُ على عَذابِـكَ فكَيْفَ أصْبِـرُ على فِراقِـكَ وهَبْني يـا إلهي صَبَرْتُ على حَرِّ نارِكَ فكَيْفَ أصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ».

فيا عزيزي، متـى كان حب العبد لمولاه عـزَّ وجلَّ دون حب من كان مخلوقا مثلـه وهو يرى تقلُّب الأزمـان وأثرهـا على الوجوه الحسـان والجسـوم والأبدان ويتدبـر آيات القرآن حيث يقـول المولى عزَّ وجلَّ: ?وَمَن نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ الْخَلْقِ أفَلاَ يَعْقِلُونَ?(يس:68)، فالمحب الحقيقي من فني في حب مولاه بشهود جماله الأزلي وحسنه الأبدي وكماله السرمدي فلم يَرْضَ بحبه بدلاً، بل لا يتصور فراقه وهجْره أبدا. وقـد يكـون العبد ممتثلا لأوامر الله تعـالى بالطاعة فيكون من أهـل القرب والسـعادة أو مخالفا لها بالمعصيـة فيكـون من أهل البعد والشـقاء، وقـد صنَّف الله تبـارك وتعالى عباده في منـازل الآخرة إلى أصناف ثلاثة المقرَّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فأما أصحاب الشمال فهم أصحاب الشؤم الضالـون المنكـرون والمكذبون الجاحـدون الذين تؤول عاقبتهم إلى الشـقاء في عـذاب الجحيم، وأما أصحـاب اليمين فهم المتوسـطون بين الصنفين الآخرين وهم أهل السلامة من الأمراض النفسـانية والأخلاق الذميمة وأصحاب اليُمن والسـعادة ولكن في مراتب دانية أو متوسـطة، وأما المقرَّبون فهم أصحـاب النفـوس المطمئنـة الذين سـبقوا أفراد نوعهم في السـلوك إلى الله تعالى والرجـوع إليه بكمال الحب إليه ففازوا بقربه كما قال تعالى في كتابه: ?وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أولَئِكَ المقْرَّبُونَ) (الواقعة:10-11)، فالزاهد من شأنه تجنب المحرمات خوفا من عذاب النار وحريقها والعابد من شأنه الالتزام بالواجبات طمعـا في كرامـة الجنـة ونعيمها، وأما العارف بالله الـذي يرى الله تعالى أهلا للعبـادة ومالكا لكل إرادة يعبده عبودية راسـخة يريد به وجهه ويعمل عملا صالحا حبا وكرامة يرضي به ربه فيطهِّر قلبه من كل تعلُّق بغير الله سـبحانه وتعالى ويقصر تعلُّق قلبه بالله وبما ينسـب إليه من نبي أو ولي أو عمل صالح أو أمر حسـن ممدوح عند الله تعالى، فمن أحب شـيئا أحب آثاره، ومن ثم يصبح وليا من أولياء الله الذين خصَّهم في دار القرار بالسعادة القصوى وجنة نعيم.

قال أمير المؤمنين(ع) في بعض خطبه: «ما كُنْتُ إلا كقارِبٍ وَرَدَ وَطالِبٍ وَجَدَ»، والقَرَب طلـب المـاء ليلا، ولا يقال ذلك لطالب الماء نهـارا، وقيل أن القارب الذي يسير إلى الماء وقد بقي بينه وبينـه ليلـة واحدة، وقـال الأصمعي: قلت لأعـرابي ما القَرَب؟ فقال: سير الليل لِـوِرْد الغد، وليلة القَـرَب هـي الليلة التي يصبحون منها على الماء، وعلى هذا وصف أمير المؤمنين(ع) نفسـه أنه وصل إلى صبح لقاء محبوبه الأزلي بطلوع شـمس الوصال، كيف لا وهو صاحب الكلمة النورانية العرشية: «لَوْ كُشِفَ الغِطاءُ ما ازْدَدْتُ يَقيناً».

وهنـا نشير إلى نقطة عرفانية دقيقة وهـي أن كل بائع حينما يريد البيع لابد أن يرى المشتري ليبيعه سـلعته،كذلك في بيع الأنفس، فالعارف بالله حينما يعرض سـلعته وهي نفسه في معرض البيع لا بد أن يصل إلى المقام الذي يرى فيه ربه تبارك وتعالى بما يَرِد عليه في هذه الدار من تجليات جماله ونور قدسـه وإشراقـات وجهـه ومـا يحصل له من المعارف الإلهية، ومـن ثم ينعقد البيع وتتـم الصفقة، وهذا المقام الأسنى والمرقى الأعلى عزيز لا يناله إلا الأوحدية من عباد الله!!

نرجـو مـن الله تعالى أن يرزقنا التوفيق في طاعته والعمـل الصالح في مرضاته ولتحصيل رأس المال، والـزاد لتهيئة أنفسـنا وتطهيرها من الذنـب والعصيان وحفظها عن المخالفـة والخذلان، حتى نحظى بمقام الكشـف والشـهود، وتكون أنفسـنا قابلة للشراء مـن قِبَل الرب المعبود، ونكـون عنده من أهل المكارم والسعود، فبتوفيقه وعناياته يتم كل شيء في عالم الوجود.

فاعلـم أيها الطالـب للحق أن من عرف دناءة الدنيا وخسَّـتها عرف شرف الآخـرة وكرامتها، ولا تكـون هـذه المعرفـة إلا بالمهاجرة عـن دار الفناء والزهـد فيها والشـوق إلى دار البقـاء والحركة إليها، فتجـافَ عـن دار الغـرور وأخرج حب الدنيا من قلبـك ولا ترجو فيها مقرا ولا مُقامـا وأنزلها كمنزل نزلتـه ثم ارتحلت عنه، واسْـعَ بقلبك إلى منـازل الأبرار والمقربين، وكُنْ من أهـل الآخرة ولا تكُنْ من أهـل الدنيـا تكُنْ من الفائزيـن المفلحين في جنة النعيم، ?إنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً? (المزمل:19).

* الامين العام للهيئة العالمية للفقه الاسلامي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي