«داعش» وأشرطة تعذيب و«اهتراء» سياسي ... وفنانون من «خمس نجوم»
«الانفصام» اللبناني: أزماتٌ وخطَر... مهرجاناتٌ وفرَح
جونية ولعبة الأضواء والفرح
عرسال... ملعب التوتر الدائم
كاظم الساهر في بيت الدين
الجيش اللبناني يطفئ مظاهر التوتر
ستريدا جعجع تتفقد موقع مهرجانات الأرز
فيروز في بعلبك خلال العام 1998
لم يكن ينقص المشهد اللبناني المنفصل عن الواقع سوى الأفلام المسرّبة من سجن رومية عن مشاهد التعذيب لبعض السجناء، حتى تكتمل عناصر الانفصام اللبناني.
منذ أكثر من عام، يمرّ لبنان بحالة من الجمود السياسي يعزّزه واقع الفراغ الرئاسي، والحكومة المعلّقة على حبال التجاذب بين القوى المتصارعة. وبين الحالتين، تكثر المشاهد السياسية والأمنية التي تضع البلاد في حالة من الحرب غير المعلنة، داخلياً وخارجياً.
من عرسال الواقعة بين ناريْن، ومن الحدود الشرقية حيث الحرب الدائرة يومياً بين «حزب لله» من جهة و«تنظيم الدولة الإسلامية» و«جبهة النصرة» من جهة أخرى، إلى طرابلس المفتوحة جروحها يومياً على إشاعات وتوترات أمنية على خلفية سجن الموقوفين الإسلاميين، إلى مشاهد المآتم اليومية في الجنوب والبقاع لعناصر «حزب الله» الذين يسقطون في سورية... ومن المخاوف على حياة العسكريين المخطوفين، وتظاهرات أهلهم الذين يقطعون الطرق في شكل دوري للمطالبة بأبنائهم، إلى مفاوضات المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم مع «جبهة النصرة» لإطلاقهم، يبدو الواقع اللبناني غارقاً في كمّ من الأزمات الأمنية المتلاحقة، التي تعبّر عن حقيقة الاهتراء الذي يعيشه لبنان.
وفي موازاة الأمن المتعثر، يبرز خواء سياسي، وفراغ تتعدد فصوله، في مجلس النواب حيث تعطل القوى المسيحية أعمال المجلس النيابي إلا تحت شروط تشريع الضرورة، وفي الحكومة المعلّقة أعمالها في انتظار حسم ملف التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي او تعيين خلَف له.
لكن بقدر سوداوية هذه المشاهد، يعيش لبنان واقعاً منفصلاً تماماً، يكاد لا يشبه واقع أي بلد آخر، إذ يشهد حالياً قيام سلسلة مهرجانات مركزية تتمتع بمستوى راقٍ، إضافة إلى عشرات المهرجانات الصيفية في البلدات والقرى اللبنانية.
خلال الحرب الطويلة (بين 1975 و 1990) وفيما كان اللبنانيون يعيشون تحت وطأة القصف المدفعي والصاروخي والخطف والقتل، ظلّت هناك مساحة للحرية وللسهر وللحفلات الموسيقية والمسرحيات الغنائية والكلاسيكية. من قلب هذه الحرب واصل الاخوان رحباني وفيروز وصباح ووديع الصافي إنتاج أعمال فنية، ومن رحم هذه الحرب ولدت مسرحيات زياد الرحباني في ما كان يعرف بـ «بيروت الغربية» وغنى مارسيل خليفة على مسارحها، واستمرت الحركة المسرحية قائمة بجهد خاص ومستوى جيد. وفي المقابل انتعشت مسارح جديدة في «بيروت الشرقية» كما فعل روميو لحود مع الفنانة الراحلة سلوى القطريب آنذاك، إضافة إلى كازينو لبنان حيث عرض الرحابنة أعمالهم الأخيرة وريمون جبارة ويعقوب الشدراوي وأنطوان غندور وغيرهم كثر. حتى جبيل شهدت مهرجانات غنائية عند مرفأها مستفيدة من بُعدها الجغرافي عن خطوط التماس المتفجرة.
في ذلك الزمن، كانت أسطورة الفينيق الخارج من تحت الرماد تعبّر عن واقع اللبنانيين التوّاقين إلى الخروج من أتون الحرب التي ما إن انتهت حتى كانت صورة المهرجانات الأولى التعبير الأول عن مرحلة السلم الأهلي التي رعاها اتفاق الطائف. لكن الملفت أن المهرجانات اتخذت تدريجاً طابع الانتماء السياسي للقائمين بها بقدر ما كانت تقدم مشهداً فنياً متميزاً لتعكس حالة لبنانية فريدة.
مَن ينسى حفلة فيروز الأولى في قلب بيروت برعاية الرئيس الراحل رفيق الحريري، وما أثارته من ردود وانتقادات كان أولها من زياد الرحباني بعدما صُبغت الحفلة بدعم سياسي قوامه التبشير بقيام شركة سوليدير التي شنّت بعض القوى السياسية والنقابية حملة ضدها، متهمة إياها بأنها أضاعت حقوق كثير من أصحاب الأملاك في الوسط التجاري؟ ومَن ينسى إطلالة فيروز الأولى في بعلبك وأغنيتها «طليت عابعلبك» بعد عودة المهرجانات إلى أدراج القلعة التاريخية؟
في التسعينات، عادت المهرجانات لتعطي لبنان صورة البلد النافض عنه غبار الحرب، محاولاً تلمس طريق سويسرا الشرق مجدداً، وطريق باريس ومهرجاناتها الدولية. لكن السياسة دخلت إلى المهرجانات من بابها العريض.
ظلت بعلبك خارج التصنيفات وظلت إدارتها التي رأستها السيدة مي عريضة خارج الأطر السياسية، رغم أن اللجنة الإدارية شكلت من غالبية الاتجاهات الثقافية وإلى حد ما السياسية. وبقي طابع الدولة اللبنانية التي ترعى المهرجان طاغياً منذ أن انطلق لبنانياً في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون وزوجته زلفا شمعون.
لكن السياسة طغت من جانب آخر على بعلبك، التي صارت واقعة في المناطق التي يسيطر عليها حزب الله. قيل الكثير عن علاقة المهرجان ونوعية العروض المقبولة فيه بما يتلاءم مع البيئة البعلبكية بوجهها الجديد بعد التسعينات. وقيل الكثير أيضاً عن فنانين لم يكونوا ليعتلوا أدراج بعلبك لولا المتغيرات السياسية التي حكمت عودة المهرجانات من باب التطبيع مع الواقع السياسي بمتغيّراته كلها. حاولت مهرجانات بعلبك تدوير الزوايا، تارة ترضخ وتارة تتجاوز قطوع الأمن والسياسة، وتارة تنقل مهرجاناً ما إلى بيروت تحت يافطة مهرجان بعلبك لأسباب أمنية وقد تكون أيضاً مداراة للوضع القائم. دفعت مسرحية «صح النوم» التي أرادت فيروز إحياءها في بعلبك ثمن حرب يوليو من العام 2006 التي أطفأت شعلة المهرجان، فغابت فيروز لتعود المسرحية وتُعرض لاحقاً في «البيال» في بيروت.
وتزامناً مع عودة الحياة إلى قلعة بعلبك، انطلقت مهرجانات صور التي أشرفت عليها زوجة رئيس البرلمان نبيه بري السيدة رندة. صارت صور - خزان حركة «أمل» - تستقطب اللبنانيين الآتين في رحلة استكشافٍ إلى المدينة التي غابوا عنها لأعوام. وظل طابع المهرجان يتلاءم مع طبيعة المنطقة والتغييرات الاجتماعية والديموغرافية التي شهدتها عاصمة الجنوب ومحيطها.
ومن هنا لم يكن غريباً أن يكون مارسيل خليفة نجم مهرجانات صور أو أن تعتلي جوليا خشبة مسرحها، ناهيك عن عروض فنية ملائمة للواقع الذي تعيشه المدينة. رغم ذلك غابت مهرجانات صور. ولم تعد المدينة ولا الجنوب متماهياً مع هذه المهرجانات التى تحوّلت إلى مهرجانات شعرية أو زجلية أو سينمائية.
في بيت الدين القصة مختلفة. زوجة النائب وليد جنبلاط تطلق مهرجاناً متنوعاً. أخرجت السيدة نورا جنبلاط بيت الدين من تداعيات حرب الجبل تزامناً مع بدء مشروع السلم الأهلي وبدء برنامج عودة المهجرين المسيحيين إلى الجبل. لم تواجه قيوداً بالمعنى الفعلي للكلمة، وحاولت تقديم صورة مشرقة للمهرجانات مستفيدةً من واقع أمني هادئ في الشوف ومن برنامج منوّع أطلت فيه فيروز وزياد الرحباني وأسماء أخرى كبيرة من لبنان والعالم العربي والغربي. لكن السياسة تمكنت العام 2009 من منع مجيء الكوميدي الفرنسي غاد المالح بعد حملة مقاطعة بسبب يهوديته ودعمه لإسرائيل بعدما كانت حرب يوليو 2006 عطّلت أيضاً مجيء المسرحية الاستعراضية العالمية MAMMA MIA.
بدت المهرجانات واجهة فنية وثقافية مع انطلاقتها لكنها أيضاً أعطت لنفسها طابعاً مناطقياً وسياسياً. ثمة مساحة لاستفادة القائمين على المهرجانات من دعم الدولة ووزارة الثقافة والسياحة، لكن أيضاً من دعم القوى السياسية التي تقف وراء مطلقي المهرجانات. كما حصل مع إطلاق شركة «سوليدير» ورعاية الرئيس الراحل رفيق الحريري بنفسه لمهرجانات بيروت من أجل إعادة تسليط الضوء على العاصمة كواحة فنية وثقافية من ضمن خطة إحياء المدينة ومسارحها وصالات السينما فيها. علماً أن بيروت نفسها أحيت حفلات فنية بعد اغتيال الحريري وانتهاء مرحلة الاعتصامات فيها عملاً بشعار«أحب الحياة» الذي أصبح رمزاً لقوى 14 مارس وتيار «المستقبل» الذي أراد إثبات نهضة العاصمة بعد مرحلة العام 2005.
وكما في العاصمة كذلك في المناطق. لم تكن فكرة «اهدنيات» جديدة بالمعنى الفعلي للكلمة. إذ إن أهدن (شمال لبنان) شهدت عبر أعوام طويلة حركة ثقافية وفنية نابعة من وجود فئة كبرى من أبنائها من الفنانين والأدباء والمسرحيين والمخرجين. لكن «أهدنيات» بطابعها الحديث اتخذت هي الأخرى هوية جديدة تحت مظلة زعامة رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية بعدما ترأست زوجته الإعلامية السابقة ريما قرقفي فرنجية إطلاق «اهدنيات».
وعلى مقلب آخر، ومع بروز اسم الوزير جبران باسيل في البترون ونشاطه و«التيار الوطني الحر» في المدينة، انطلقت أيضاً فكرة مهرجانات البترون السياحية والفنية والاجتماعية عبر أنشطة على مدار الصيف ما يعيد إلى البترون الساحلية نمطاً جديداً في الحفلات بعدما تحوّل ليل المدينة منذ أعوام قصيرة واحةً للباحثين عن متعة السهر والراحة.
وكانت السيدة زلفا بويز زوجة وزير الخارجية السابق فارس بوزير وابنة الرئيس الراحل إلياس الهراوي أطلقت أيضاً فعاليات مهرجان الذوق الذي استقطب بدوره نخبة من الفنانين علماً أن الذوق طالما اشتهرت ولا سيما خلال الحرب اللبنانية بإحياء ليالي سوق الذوق العتيقة.
ومن الذوق إلى جونية حيث بدأت هذه المدينة منذ أعوام قليلة بإحياء مهرجانها الخاص في ظل تنامي نفوذ مرشحين للنيابة واقتصاديين يريدون دخول المعترك السياسي عبر لوحة فنية.
ولا تشذّ جبيل عن هذا الواقع وخصوصاً أنها سبقت المناطق الأخرى بإقامة مهرجانها الخاص خلال الحرب. لكنها أيضاً أفادت من وجود رئيس الجمهورية ابن عمشيت ميشال سليمان لتحظى بدعم استثنائي لها، وخصوصاً في ظل تولي زياد حواط، شقيق صهر سليمان، رئاسة بلديّتها.
وأخيراً انضمّ إلى لائحة المهرجانات «الفنية السياسية» حزب «القوات اللبنانية» بعدما أطلقت النائبة ستريدا سمير جعجع مهرجانات الأرز الدولية بعد غياب نحو خمسين عاماً. فنائبة بشري أصبح لها أيضاً مهرجانها الخاص، الذي تطلّ في أولى لياليه الفنانة أليسا التي تجاهر دائماً بتأييدها لرئيس حزب «القوات» الدكتور سمير جعجع.
بين المهرجانات المتوزعة سياسياً وإنمائياً، تبقي هذه المحطات الفنية اللبنانيين مشغولين بحياة تختلف تماماً عن تلك التي تسكن في هواجسهم وسط الحروب الدائرة على بُعد كيلومترات من حدودهم، ليَبرز التناقض الحاد بين خطورة الوضع السياسي والمستقبل الذي لا يبشّر بالخير، وبين الخطوات التي تتسارع من الذين يريدون إبقاء لبنان في قلب الحدَث الفني.
لكن لا يبدو أن هذه الفكرة تلاقي إجماعاً حولها. اذ هناك مَن يعتبر أن الانفصام اللبناني وصل إلى حدّه الأقصى حين تكون حركة بيع البطاقات للمهرجانات الفنية كثيفة، وحين تنطلق المهرجانات الليلية على وقع ضجيج النهار السياسي والأمني، وحين يعمد السياسيون أنفسهم إلى تشجيع هذه الحركة كما يحصل في طرابلس مثلاً، إذ يروّج نواب ووزراء لكل حركة فنية أو ثقافية قائمة على إخراج عاصمة الشمال من صورتها السوداء.
تحاول المهرجانات إبراز أقصى ما تستطيعه، وجذْب جمهور لا سيما في أوساط الشباب اللبناني الذي يريد التفلت من أخبار القتل والدمار والخطف. أحياناً لا تُعدّ الأسماء الفنية التي تطلّ هي المهمة، علماً أن وضع لبنان الأمني لا يسمح باستقدام أسماء لامعة كما يحصل في مهرجانات دبي أو الإمارات عموماً. ولذا تحوّل مجيء الممثلة المكسيكية اللبنانية الأصل سلمى حايك حدَثاً في ذاته، كما حصل أيضاً حين أطلّت الممثلة الأميركية أنجيلينا جولي ولو في زيارة إنسانية لتفقُّد مخيمات النازحين السوريين.
الأسماء صارت عبارة عن جواز سفر لتقديم صورة عن لبنان الذي يفتقده الجيل القديم ولا يعرفه الجيل الجديد. وإلا كيف نفسر مجيء أسماء انطبعت في الذاكرة مثل ميراي ماتيو إلى مهرجان «بيبلوس» وشارل ازنافور إلى البترون وغلوريا غاينر وجين مانسون إلى اهدن.
بين ليالي المهرجانات ويوميات الاهتراء السياسي والأمني نموذجٌ لبناني بامتياز. انفصامٌ مزمن أو استخفاف بحقيقة الواقع الخطر الذي يحدق بلبنان... بالنسبة إلى البعض إنها ساعات المرح... قبل هبوب العاصفة.
منذ أكثر من عام، يمرّ لبنان بحالة من الجمود السياسي يعزّزه واقع الفراغ الرئاسي، والحكومة المعلّقة على حبال التجاذب بين القوى المتصارعة. وبين الحالتين، تكثر المشاهد السياسية والأمنية التي تضع البلاد في حالة من الحرب غير المعلنة، داخلياً وخارجياً.
من عرسال الواقعة بين ناريْن، ومن الحدود الشرقية حيث الحرب الدائرة يومياً بين «حزب لله» من جهة و«تنظيم الدولة الإسلامية» و«جبهة النصرة» من جهة أخرى، إلى طرابلس المفتوحة جروحها يومياً على إشاعات وتوترات أمنية على خلفية سجن الموقوفين الإسلاميين، إلى مشاهد المآتم اليومية في الجنوب والبقاع لعناصر «حزب الله» الذين يسقطون في سورية... ومن المخاوف على حياة العسكريين المخطوفين، وتظاهرات أهلهم الذين يقطعون الطرق في شكل دوري للمطالبة بأبنائهم، إلى مفاوضات المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم مع «جبهة النصرة» لإطلاقهم، يبدو الواقع اللبناني غارقاً في كمّ من الأزمات الأمنية المتلاحقة، التي تعبّر عن حقيقة الاهتراء الذي يعيشه لبنان.
وفي موازاة الأمن المتعثر، يبرز خواء سياسي، وفراغ تتعدد فصوله، في مجلس النواب حيث تعطل القوى المسيحية أعمال المجلس النيابي إلا تحت شروط تشريع الضرورة، وفي الحكومة المعلّقة أعمالها في انتظار حسم ملف التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي او تعيين خلَف له.
لكن بقدر سوداوية هذه المشاهد، يعيش لبنان واقعاً منفصلاً تماماً، يكاد لا يشبه واقع أي بلد آخر، إذ يشهد حالياً قيام سلسلة مهرجانات مركزية تتمتع بمستوى راقٍ، إضافة إلى عشرات المهرجانات الصيفية في البلدات والقرى اللبنانية.
خلال الحرب الطويلة (بين 1975 و 1990) وفيما كان اللبنانيون يعيشون تحت وطأة القصف المدفعي والصاروخي والخطف والقتل، ظلّت هناك مساحة للحرية وللسهر وللحفلات الموسيقية والمسرحيات الغنائية والكلاسيكية. من قلب هذه الحرب واصل الاخوان رحباني وفيروز وصباح ووديع الصافي إنتاج أعمال فنية، ومن رحم هذه الحرب ولدت مسرحيات زياد الرحباني في ما كان يعرف بـ «بيروت الغربية» وغنى مارسيل خليفة على مسارحها، واستمرت الحركة المسرحية قائمة بجهد خاص ومستوى جيد. وفي المقابل انتعشت مسارح جديدة في «بيروت الشرقية» كما فعل روميو لحود مع الفنانة الراحلة سلوى القطريب آنذاك، إضافة إلى كازينو لبنان حيث عرض الرحابنة أعمالهم الأخيرة وريمون جبارة ويعقوب الشدراوي وأنطوان غندور وغيرهم كثر. حتى جبيل شهدت مهرجانات غنائية عند مرفأها مستفيدة من بُعدها الجغرافي عن خطوط التماس المتفجرة.
في ذلك الزمن، كانت أسطورة الفينيق الخارج من تحت الرماد تعبّر عن واقع اللبنانيين التوّاقين إلى الخروج من أتون الحرب التي ما إن انتهت حتى كانت صورة المهرجانات الأولى التعبير الأول عن مرحلة السلم الأهلي التي رعاها اتفاق الطائف. لكن الملفت أن المهرجانات اتخذت تدريجاً طابع الانتماء السياسي للقائمين بها بقدر ما كانت تقدم مشهداً فنياً متميزاً لتعكس حالة لبنانية فريدة.
مَن ينسى حفلة فيروز الأولى في قلب بيروت برعاية الرئيس الراحل رفيق الحريري، وما أثارته من ردود وانتقادات كان أولها من زياد الرحباني بعدما صُبغت الحفلة بدعم سياسي قوامه التبشير بقيام شركة سوليدير التي شنّت بعض القوى السياسية والنقابية حملة ضدها، متهمة إياها بأنها أضاعت حقوق كثير من أصحاب الأملاك في الوسط التجاري؟ ومَن ينسى إطلالة فيروز الأولى في بعلبك وأغنيتها «طليت عابعلبك» بعد عودة المهرجانات إلى أدراج القلعة التاريخية؟
في التسعينات، عادت المهرجانات لتعطي لبنان صورة البلد النافض عنه غبار الحرب، محاولاً تلمس طريق سويسرا الشرق مجدداً، وطريق باريس ومهرجاناتها الدولية. لكن السياسة دخلت إلى المهرجانات من بابها العريض.
ظلت بعلبك خارج التصنيفات وظلت إدارتها التي رأستها السيدة مي عريضة خارج الأطر السياسية، رغم أن اللجنة الإدارية شكلت من غالبية الاتجاهات الثقافية وإلى حد ما السياسية. وبقي طابع الدولة اللبنانية التي ترعى المهرجان طاغياً منذ أن انطلق لبنانياً في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون وزوجته زلفا شمعون.
لكن السياسة طغت من جانب آخر على بعلبك، التي صارت واقعة في المناطق التي يسيطر عليها حزب الله. قيل الكثير عن علاقة المهرجان ونوعية العروض المقبولة فيه بما يتلاءم مع البيئة البعلبكية بوجهها الجديد بعد التسعينات. وقيل الكثير أيضاً عن فنانين لم يكونوا ليعتلوا أدراج بعلبك لولا المتغيرات السياسية التي حكمت عودة المهرجانات من باب التطبيع مع الواقع السياسي بمتغيّراته كلها. حاولت مهرجانات بعلبك تدوير الزوايا، تارة ترضخ وتارة تتجاوز قطوع الأمن والسياسة، وتارة تنقل مهرجاناً ما إلى بيروت تحت يافطة مهرجان بعلبك لأسباب أمنية وقد تكون أيضاً مداراة للوضع القائم. دفعت مسرحية «صح النوم» التي أرادت فيروز إحياءها في بعلبك ثمن حرب يوليو من العام 2006 التي أطفأت شعلة المهرجان، فغابت فيروز لتعود المسرحية وتُعرض لاحقاً في «البيال» في بيروت.
وتزامناً مع عودة الحياة إلى قلعة بعلبك، انطلقت مهرجانات صور التي أشرفت عليها زوجة رئيس البرلمان نبيه بري السيدة رندة. صارت صور - خزان حركة «أمل» - تستقطب اللبنانيين الآتين في رحلة استكشافٍ إلى المدينة التي غابوا عنها لأعوام. وظل طابع المهرجان يتلاءم مع طبيعة المنطقة والتغييرات الاجتماعية والديموغرافية التي شهدتها عاصمة الجنوب ومحيطها.
ومن هنا لم يكن غريباً أن يكون مارسيل خليفة نجم مهرجانات صور أو أن تعتلي جوليا خشبة مسرحها، ناهيك عن عروض فنية ملائمة للواقع الذي تعيشه المدينة. رغم ذلك غابت مهرجانات صور. ولم تعد المدينة ولا الجنوب متماهياً مع هذه المهرجانات التى تحوّلت إلى مهرجانات شعرية أو زجلية أو سينمائية.
في بيت الدين القصة مختلفة. زوجة النائب وليد جنبلاط تطلق مهرجاناً متنوعاً. أخرجت السيدة نورا جنبلاط بيت الدين من تداعيات حرب الجبل تزامناً مع بدء مشروع السلم الأهلي وبدء برنامج عودة المهجرين المسيحيين إلى الجبل. لم تواجه قيوداً بالمعنى الفعلي للكلمة، وحاولت تقديم صورة مشرقة للمهرجانات مستفيدةً من واقع أمني هادئ في الشوف ومن برنامج منوّع أطلت فيه فيروز وزياد الرحباني وأسماء أخرى كبيرة من لبنان والعالم العربي والغربي. لكن السياسة تمكنت العام 2009 من منع مجيء الكوميدي الفرنسي غاد المالح بعد حملة مقاطعة بسبب يهوديته ودعمه لإسرائيل بعدما كانت حرب يوليو 2006 عطّلت أيضاً مجيء المسرحية الاستعراضية العالمية MAMMA MIA.
بدت المهرجانات واجهة فنية وثقافية مع انطلاقتها لكنها أيضاً أعطت لنفسها طابعاً مناطقياً وسياسياً. ثمة مساحة لاستفادة القائمين على المهرجانات من دعم الدولة ووزارة الثقافة والسياحة، لكن أيضاً من دعم القوى السياسية التي تقف وراء مطلقي المهرجانات. كما حصل مع إطلاق شركة «سوليدير» ورعاية الرئيس الراحل رفيق الحريري بنفسه لمهرجانات بيروت من أجل إعادة تسليط الضوء على العاصمة كواحة فنية وثقافية من ضمن خطة إحياء المدينة ومسارحها وصالات السينما فيها. علماً أن بيروت نفسها أحيت حفلات فنية بعد اغتيال الحريري وانتهاء مرحلة الاعتصامات فيها عملاً بشعار«أحب الحياة» الذي أصبح رمزاً لقوى 14 مارس وتيار «المستقبل» الذي أراد إثبات نهضة العاصمة بعد مرحلة العام 2005.
وكما في العاصمة كذلك في المناطق. لم تكن فكرة «اهدنيات» جديدة بالمعنى الفعلي للكلمة. إذ إن أهدن (شمال لبنان) شهدت عبر أعوام طويلة حركة ثقافية وفنية نابعة من وجود فئة كبرى من أبنائها من الفنانين والأدباء والمسرحيين والمخرجين. لكن «أهدنيات» بطابعها الحديث اتخذت هي الأخرى هوية جديدة تحت مظلة زعامة رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية بعدما ترأست زوجته الإعلامية السابقة ريما قرقفي فرنجية إطلاق «اهدنيات».
وعلى مقلب آخر، ومع بروز اسم الوزير جبران باسيل في البترون ونشاطه و«التيار الوطني الحر» في المدينة، انطلقت أيضاً فكرة مهرجانات البترون السياحية والفنية والاجتماعية عبر أنشطة على مدار الصيف ما يعيد إلى البترون الساحلية نمطاً جديداً في الحفلات بعدما تحوّل ليل المدينة منذ أعوام قصيرة واحةً للباحثين عن متعة السهر والراحة.
وكانت السيدة زلفا بويز زوجة وزير الخارجية السابق فارس بوزير وابنة الرئيس الراحل إلياس الهراوي أطلقت أيضاً فعاليات مهرجان الذوق الذي استقطب بدوره نخبة من الفنانين علماً أن الذوق طالما اشتهرت ولا سيما خلال الحرب اللبنانية بإحياء ليالي سوق الذوق العتيقة.
ومن الذوق إلى جونية حيث بدأت هذه المدينة منذ أعوام قليلة بإحياء مهرجانها الخاص في ظل تنامي نفوذ مرشحين للنيابة واقتصاديين يريدون دخول المعترك السياسي عبر لوحة فنية.
ولا تشذّ جبيل عن هذا الواقع وخصوصاً أنها سبقت المناطق الأخرى بإقامة مهرجانها الخاص خلال الحرب. لكنها أيضاً أفادت من وجود رئيس الجمهورية ابن عمشيت ميشال سليمان لتحظى بدعم استثنائي لها، وخصوصاً في ظل تولي زياد حواط، شقيق صهر سليمان، رئاسة بلديّتها.
وأخيراً انضمّ إلى لائحة المهرجانات «الفنية السياسية» حزب «القوات اللبنانية» بعدما أطلقت النائبة ستريدا سمير جعجع مهرجانات الأرز الدولية بعد غياب نحو خمسين عاماً. فنائبة بشري أصبح لها أيضاً مهرجانها الخاص، الذي تطلّ في أولى لياليه الفنانة أليسا التي تجاهر دائماً بتأييدها لرئيس حزب «القوات» الدكتور سمير جعجع.
بين المهرجانات المتوزعة سياسياً وإنمائياً، تبقي هذه المحطات الفنية اللبنانيين مشغولين بحياة تختلف تماماً عن تلك التي تسكن في هواجسهم وسط الحروب الدائرة على بُعد كيلومترات من حدودهم، ليَبرز التناقض الحاد بين خطورة الوضع السياسي والمستقبل الذي لا يبشّر بالخير، وبين الخطوات التي تتسارع من الذين يريدون إبقاء لبنان في قلب الحدَث الفني.
لكن لا يبدو أن هذه الفكرة تلاقي إجماعاً حولها. اذ هناك مَن يعتبر أن الانفصام اللبناني وصل إلى حدّه الأقصى حين تكون حركة بيع البطاقات للمهرجانات الفنية كثيفة، وحين تنطلق المهرجانات الليلية على وقع ضجيج النهار السياسي والأمني، وحين يعمد السياسيون أنفسهم إلى تشجيع هذه الحركة كما يحصل في طرابلس مثلاً، إذ يروّج نواب ووزراء لكل حركة فنية أو ثقافية قائمة على إخراج عاصمة الشمال من صورتها السوداء.
تحاول المهرجانات إبراز أقصى ما تستطيعه، وجذْب جمهور لا سيما في أوساط الشباب اللبناني الذي يريد التفلت من أخبار القتل والدمار والخطف. أحياناً لا تُعدّ الأسماء الفنية التي تطلّ هي المهمة، علماً أن وضع لبنان الأمني لا يسمح باستقدام أسماء لامعة كما يحصل في مهرجانات دبي أو الإمارات عموماً. ولذا تحوّل مجيء الممثلة المكسيكية اللبنانية الأصل سلمى حايك حدَثاً في ذاته، كما حصل أيضاً حين أطلّت الممثلة الأميركية أنجيلينا جولي ولو في زيارة إنسانية لتفقُّد مخيمات النازحين السوريين.
الأسماء صارت عبارة عن جواز سفر لتقديم صورة عن لبنان الذي يفتقده الجيل القديم ولا يعرفه الجيل الجديد. وإلا كيف نفسر مجيء أسماء انطبعت في الذاكرة مثل ميراي ماتيو إلى مهرجان «بيبلوس» وشارل ازنافور إلى البترون وغلوريا غاينر وجين مانسون إلى اهدن.
بين ليالي المهرجانات ويوميات الاهتراء السياسي والأمني نموذجٌ لبناني بامتياز. انفصامٌ مزمن أو استخفاف بحقيقة الواقع الخطر الذي يحدق بلبنان... بالنسبة إلى البعض إنها ساعات المرح... قبل هبوب العاصفة.