يعتبر من كمالات النفس ولوازمها الأساسية لأداء حقوق الخالق والمخلوق ومتطلبات الدنيا والآخرة
الترويح عن النفس... أمر مشروع ومطلوب في إطاره المنضبط بحدود الشرع
أقر الإسلام الجانب الترويحي في حياة المسلم مراعاة للفطرة البشرية
يشعر الإنسان بالسعادة إذا كان الترويح في صحبة صالحة
جاءت شريعة الإسلام على وجه من الكمال والاعتدال، والوسطية والتوازن، تطيب معها الحياة، وتستقر النفوس، وتسعد البشرية، فشرائع الإسلام على عظمتها وصفائها وكمالها، إلا أنها تراعي ما جُبلت عليه النفوس من الضعف والميل للترويح والاستجمام، فالإسلام دين سماحة ويسر، يراعي فطرة الإنسان، ويلبي احتياجاته النفسية والبدنية والذهنية، بتوازن وشمولية واعتدال. وتأمل في قول الله عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص77]، وقوله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف31]. وحين شاهد النبي صلى الله عليه وسلم الأحباش يلعبون قال: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، وأني أرسلت بحنيفية سمحة» [رواه أحمد]. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا» [رواه البخاري]. فديننا دين سمح يسير عظيم، يراعي النفوس وضعفها، ويتألَّفها. ليس في ديننا رهبانية مبتدعة، تثقل الإنسان بجمودها، وليس في حياتنا لهو وفراغ وعبث ينسي الغاية من الخلق، ويفرغ الإنسان من معناه، ولكنها الموازنة بين حقوق النفس وواجباتها، والوفاء بحقوق الخلق والخالق، ومتطلبات الدنيا والآخرة، في تكامل وتناسق ويسر تتجلى فيه عظمة الإسلام ورحمة الودود الرؤوف العالِم. وتأمل هذا المعنى الذي فهمه الجيل الأول وعبَّروا عنه وعاشوه، فكانت حياتهم وسيرتهم وتاريخهم النموذج التطبيقي للحياة التي أرادها الله لعباده المؤمنين، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم»، ويقول أيضا: «روِّحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلب إذا أُكره عمي». وأبو الدرداء رضي الله عنه يقول: «إني لأستجم قلبي باللهو المباح ليكون أقوى لي على الحق»، ويقول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: «تحدثوا بكتاب الله وتجالسوا عليه، وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال». فالترويح في الإسلام أمر مشروع، بل ومطلوب، طالما أنه في إطاره الشرعي السليم المنضبط بحدود الشرع التي لا تخرجه -أي الترويح- عن حجمه الطبيعي في قائمة حاجات النفس البشرية.. فالإسلام دين الفطرة، ولا يُتصور أن يتصادم مع الفطرة، أو الغرائز البشرية في حالتها السوية.
لقد أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يعين الفــرد المســلم على تحمــل مشــاق الحيـاة وصعــابــها، شــريــطــة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شيء من شرائع الإسلام، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة، والأصل في ذلك الحديث الذي يرويه حنظلة رضي الله عنه حيث يقول: ( لقيني أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: كيف أنت يا حنظلة ? قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول ? قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى وكأنّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال أبوبكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلـقت أنا وأبـو بكر الصديق حتى دخلنا علـى رســول الله صلى الله عليه وسلم، قلــت: نافــق حنظــلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك ? قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسيــنا كــثيـرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده أن لو تَدُومُون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طُرِقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات ). ولا شك أن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لتأثر نفس حنظلة رضي الله عنه المؤمنة وتقلبها بين مجالات الجد وأنماط العبادات من جهة، وبين متطلبات النفس من مرح وانبساط من جهة أخرى، هو اعتراف ودليل سماوي على اعتبار الترويح والترفيه، وأنه من كمالات النفس ولوازمها الأساسية لأداء حقوق الخالق والمخلوق. كما أكدت السنة مبدأ الترويح في الإسلام، ومن ذلك ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ? قال: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا ). وكذلك مما يؤكد على مراعاة الإسلام لمبدأ الترويح في حياة المسلم، الأثر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ( روحوا القلوب ساعة وساعة ). وفي الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم، دلالة على مراعاة الإسلام لحق النفس في الراحة، وإعطائها حقها من ذلك، طالما أنه ضمن الإطار الشرعي، وداخل الحدود المقبولة اجتماعيًا. والإســلام حـين يــقر الجانب الترويحي في حيـــاة المسلم، فهو ينطلق من مراعاته للفـطرة البشــرية، والغرائز التي أودعها الله في النفس البشرية، ويتعامل مع واقع الإنسان وظروفه، وليس معنى ذلك الرضا بواقع الإنسان أيًا كان، بل هو يراعي طبيعة الإنسان الضعيفة، وحقيقة واقعها اليومي والحياتي الذي تعيشه. والمنطلق الآخر الذي تنطلق منه مشروعية الترويح في الإسلام هو: شمولية هذا الدين بتشريعاته لجميع جوانب حياة الإنسان: الجسمية، والروحية، والعقلية، والنفسية، والاجتماعية، والغريزية، فالشمول أحد خصائص هذا الدين العظيم وميزاته. ومن هنا اعترف الإسلام، انطلاقًا من واقعيته وشموليته، بحق البدن في أخذ نصيبه من الراحة والاستجمام، كما اعترف بحق الروح في أن تنال حظها من الترويح والترفيه، ليقوي كل منهما الآخر على تحقيق العبودية لله بمعناها الشامل. ومما لا شك فيه أن الأصل في الترويح أن يتلازم مع وقت الفراغ ويمارس فيه، كما يجب أن يكونا متعادلين في الكمية، فلا يطغى أحدهما على الآخر.. فزيادة وقت الفراغ في حياة الإنسان وتركه دون استغلال يحوله إلى مشكلة، وزيادة الترويح على أوقات الفراغ يحوله إلى لهو ولعب. لذا نجد أن ( الإسلام يُقوِّم عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا بأنه أسمى وأغــلى من أن تضيع فقــراته بين لـهو عابث سخيف لا قيمة له، ولعب باطل لا يأتي من ورائه بمنفعة دنيوية عظيمة ولا أخروية نبيلة، فهو مسؤولية في عنق المسلم يحاسب عليه يوم القيامة ). وهذا ما جعل الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.. وكذا ما ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه في قوله: إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق. وهذا يعني أن الترويح يمكن أن يكون له بعد تعبدي إذا احتسبه الإنسان قربة لله، أو ليتقوى به على الطاعة.
ضوابط الترويح
يقول الدكتور أيمن محمد العمر الباحث في إدارة الإفتاء: ومع هذه الفسحة في الترويح عن النفس، ينبغي للمسلم أن لا يجعلها غاية له وهدفاً في هذه الحياة الدنيا، وأن لا يتخذها وسيلة ومطية لانتهاك حرمات الله، وتعدي حدود الشرع، وإنما عليه أن ينظر إليها كوسيلة لغاية عظمى وهدف أسمى ؛ هو بقاء الإنسان نشيطاً، ذا همّة وعطاء، من أجل بناء المجتمعات، وعمارة الأرض، وإقامة الشرع ؛ وفقاً للتوجيه الرباني الوارد في قوله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [الأنعام:162]. ومن هنا نعلم أن الترويح عن النفس لا بد أن ينضبط بضوابط الشَّرع وقواعده، ويُعرَضَ على مِيزانه؛ لضمان تحقيق أهدافه التي أبيح من أجلها، حتى لا يؤول إلى وسيلة لضياع الأوقات وهَدْر المُقدَّرات، والتَّرَدِّي في مَهاوي الخمول والكسل والانحراف، وإلا كان وبالاً وهلاكاً ؛ عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ) [رواه أحمد]؛ و(الشِّرَّة): النشاط والاندفاع والإقبال. و(الفَتْرة): من الفتور، وهو الضعف والوهن والكسل، ويمكن إجمال هذه الضوابط فيما يلي:
1- النية والاحتساب في الترويح:
من أهم ما تؤثر فيه النية المباحات والعادات؛ فإنها تتحول بالنية إلى عبادات وقربات؛ والترويح من جملة المباحات التي يثاب عليها الإنسان إذا نوى بها النشاط للطاعة والعبادة، وأداء الواجبات الدنيوية، وقد يأثم الإنسان عليها إذا قصد به الهروب من المسؤوليات، وتضييع الواجبات؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) [رواه مسلم]. وقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يحرصون على ذلك ويتعاهدون نياتهم في جميع أعمالهم ؛ فعن معاذ رضي الله عنه قال: «لكني أنام ثم أقوم فأقرأ، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» [رواه ابن حبان]، وعن زبيد اليامي رحمه الله قال: «إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء؛ حتى في الطعام والشراب»، وقال أيضاً: «انو في كل شيء تريده الخير، حتى خروجك إلى الكُناسة» [جامع العلوم والحكم]. فلا ينبغي للمسلم أن يغفل عن تلك اللحظات؛ فإنه يُسأل عنها يوم القيامة؛ لم فعله ؟ وما الذي قصد به.
2- اختيار جماعة الترويح:
يشعر الإنسان بمتعة أكبر وسعادة غامرة إذا كان ترويحه في رفقة أو صحبة من الناس، ونظراً لكون اللهو والمرح مما يشغل القلب عن أداء الواجبات والتكاليف؛ يحتاج المسلم إلى من يذكره بها؛ ولذا ينبغي أن يختار من الرُّفقة من يعينونه على الطاعة، ويحذرونه من المعصية؛ ممن يَقْدُرُ للدِّينِ قَدْرَه، ويَعرِفُ أنَّ للشَّرعِ حَدَّه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الضابط في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) [متفق عليه].
3- اختيار أوقات الترفيه: ينبغي للمسلم أن ينظم وقته بين العمل واللهو، والجد واللعب، فلا يعتدي على الوقت الذي هو حق لله تعالى؛ كوقت الصلوات المفروضة، أو أن يغفل عن ذكر الله في أوقات هو أحوج ما يكون فيها إلى القرب من ربه؛ كإهدار ساعات الليل كلها في السَّمر واللَّهو، فلا هو في نوافل العبادات قضاها، ولا لأمر واجب أحياها؛ وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَيَبِيتَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَشَرٍ وَبَطَرٍ وَلَعِبٍ وَلَهوٍ؛ فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، بِاسْتِحْلَالِهِمُ المَحَارِمَ وَاتِّخَاذِهِمُ القَيْنَاتِ، وَشُرْبِهِمُ الخَمْرَ، وَبَأَكْلِهِمُ الرِّبَا، وَلُبْسِهِمُ الحَرِيرَ) [رواه عبدالله في زوائده على المسند].
ومما ينبغي أن يجتنبه المسلم أيضاً التعدي على الأوقات التي تتعلق بأداء حقوق العباد؛ كالعمل الرسمي؛ فلا ينبغي أن يقضيه المسلم في الترفيه والترويح، تاركاً وراءه مسؤوليات أنيطت به من قبل المسؤولين، أو معاملات للمراجعين؛ فوقت العمل مرتبط بما التزم به الإنسان من عقود ومواثيق يجب الوفاء بها واحترامها؛ قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1].
4- اجتناب اختلاط الرجال بالنساء:
من أشد الأمور خطورة في الترويح والترفيه أن يكون في بيئة مختلطة بين الرِّجال والنِّساء؛ وتكمن خطورته فيما يصحبه من هزل وضحك وإسقاط تكلُّف، وحينها لن يجد الشيطان بيئة أخصب من تلك البيئة ليقذف القلوب بسهامه، ويسقطها في حبائل الفتنة التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ) [متفق عليه]. ولا يعني هذا أن ينعزل الرجل عن بقية أهله، أو المرأة عن محارمها في الترفيه والترويح؛ إنما عليهم أن يراعوا حرمات الله، كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنت تراه يُلاعِبُ أهله ويمازحهم ويروِّحُ عنهم، ولكن يفعل ذلك بكل خصوصية؛ فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يسابق زوجه عائشة رضي الله عنها، بعد أن يأمر الجيش بالمُضيِّ والسَّبق؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَقَدَّمُوا، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي: تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ؛ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَقَدَّمُوا، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقْتُهُ، فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: هَذِهِ بِتِلْكَ) [رواه أحمد].
5- أن لا يستهلك الترويح جُلَّ وقت المسلم: إن من أخطر الأمور في ممارسة الترفيه والترويح؛ أن يستهلك الإنسان كل وقته أو معظمه في اللهو والترفيه ؛ فهذه الأوقات يسأل عنها الإنسان يوم القيامة؛ كيف قضاها، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ) [رواه الترمذي]. فالوقت عند المسلم له قيمة، وهو يعلم أن ما ضاع منها سُدَى لا يَعُودُ، وأن ما يقضيه في الترويح والترفيه يهدف من ورائه مضاعفة الهمة والنشاط؛ لتعويض ما فات، وأن الحكمة والتَّعقُّلَ في استغلال الأوقات لا في إهدارها وتضييعها.
6- أن لا يكون في الترويح اعتداء على الآخرين:
لا ينبغي للمسلم أن يغفل عن هذه القضية المهمة، فيضع نصب عينيه، أن حُرِّيتَه ومُتعَتَه تنتهي عندما تتجاوز حقوق الآخرين؛ فلا ينبغي له أن يعتدي أثناء ترفهه ولعبه على الناس، سواء في مساكنهم، أو في طرقاتهم، أو حتى في أماكن ترويحهم، وهذا من أشد ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ آذَى المُسْلِمِينَ في طُرُقِهِمْ، وَجَبَتْ عَلَيهِ لَعْنَتُهُمْ) [رواه الطبراني في الكبير، بإسناد حسن].
وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى مراعاة حقوق الآخرين؛ حينما استأذنوه في الجلوس في الطرقات؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ. قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ) [متفق عليه].
7- أن تكون وسيلة الترويح مشروعة:
أما كون الوسيلة مشروعة ؛ فتأتي هذه المشروعية من وجهين:
الأول: أن تكون مباحة في ذاتها؛ بمعنى أنه لم يرد في الشرع الكريم نهيٌ عنها لذاتها، وإلا كانت ممنوعة؛ فلا يجوز للمسلم أن يترفَّه أو يلهو فيما ما حرّمه الله تعالى؛ كالضحك والسخرية من الآخرين، أو الاستهزاء بهم، أو ترويعهم، أو استعمال آلات اللهو والطرب للترويح عن النفس، أو اللهو بألعاب محرَّمة كالنرد والقمار، وغير ذلك مما وردت النصوص الشرعية بتحريمها.
الثاني: أن تكون الغاية -التي تستعمل لها الوسيلة المباحة- مشروعة أيضاً؛ ذلك أن الوسائل لها أحكام المقاصد؛ فالوسيلة وإن كانت مشروعة أو مباحة في ذاتها، وقصد بها التوصل إلى ما حرّم الله، كانت محرّمة تبعاً لمقصدها؛ فالسفر بحد ذاتها وسيلة مشروعة أو مباحة؛ فإن استعملها الإنسان في التوصل إلى طاعة الله؛ كأداء العمرة، أو صلة الأرحام، كانت السفر جائزاً ومشروعاً، أما إذا قصد الإنسان بسفره هذا ارتكاب المحرمات، وفعل المنكرات؛ كأن يسافر لفعل الفواحش وارتكاب المحارم، أو تسافر المرأة لتنزع حجابها وتظهر زينتها، كان السفر والحالة هذه ممنوعاً وغير مشروع؛ تبعاً للمقصد الذي استعمل لأجله.
الترويح في العهد النبوي
من يتأمل في صور الترويح في العهد النبوي يلحظ بجلاء أنه عمل على تحقيق جملة من الأهداف، يمكن إبراز أهمها من خلال ما يأتي:
* تنمية السرور في أوساط المجتمع: وهذا جلي؛ إذ يُسَرِّي الترويح النفس، ويبعد منها الكآبة، ويزيل عنها الهم والملل، ويدخل عليها السرور والبهجة، وكل ثنايا هذا الفصل شاهدة على تحقق ذلك في العهد النبوي.
* تعميق الجدية في المجتمع المسلم: إذ عملت البرامج الترويحية في العهد النبوي على تربية أفراد المجتمع المسلم وتهيئتهم لخدمة الإسلام، كالتدرب على المنازلة في الحرب، والرمي، وركوب الخيل.
وهذا واضح في: حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: ({وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي).
* التودد إلى الصحابة الكرام: ويظهر ذلك في مشاركته - صلى الله عليه وسلم - مع بعض أصحابه الكرام - رضي الله عنهم - في الرمي بالنبال، ففي حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه- قال: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان. قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لكم لا ترمون؟. قالوا: كيف نرمي وأنت معهم ؟، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارموا، فأنا معكم كلكم).
* تسلية الأهل وزيادة الترابط الاسري: ومن دلائل ذلك: ما جاء عن زوجه عائشة -رضي الله عنها- قالت: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فنزلنا منزلاً، فقال لها: تعالي حتى أُسابقك، قالت: فسابقته فسبقته. وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر، فنزلنا منزلاً، فقال: تعالي حتى أسابقك، قالت: فسبقني، فضرب بين كتفي وقال: هذه بتلك).
* إظهار فسحة الإسلام: إذ عمل الترويح في العهد النبوي على تجلية محاسن الإسلام وإبراز يسره وسماحته، ومن دلائل ذلك:
? حديث عائشة -رضي الله عنها- في لعب الحبش بالحراب في المسجد، أخبرت رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ: (لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة).
الصلاة والترويح عن النفس
الطمأنينة تكون بذكر الله، قال تعالى: {...ألا بذكر الله تطمئن القلوب} الرعد: 28، دون غيرِه من الأمور التي تميل إليها النفوس من الدنياويات، فالمعنى: أَلا بِذكر الله تسكن الْقُلُوب، وطمأنينة الْقلب بِزَوَال الشَّك منه واستقرار الْيَقِين فيه، فإِن قال قائل: أَلَيْسَ الله تعالى قال: {وجلت قلوبهم} الأنفال: 2، فكيف توجل وتطمئن فِي حالة واحدة؟ والْجَوَاب: أَن الوجل بِذكر الْوَعيد والْعِقَاب، والطمأنينة بِذكر الْوَعْد وَالثَّوَاب، فَكَأَنَّهَا توجل إِذا ذكر عدل الله وَشدَّة حسابه، وتطمئن إِذا ذكر فضل الله وكَرمه. وقوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} الرعد: 28: أَي تسكن قُلُوبهم بِذكر الله، وقيل: تستأنس قُلُوبهم بِذكر الله، والسكون بِالْيَقِينِ، والِاضْطِرَاب بِالشَّكِّ، قال الله تعالى فِي شَأْن الْمُشْركين: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الزمر: 45: أَي اضْطَرَبَتْ، وَقَالَ فِي الْمُؤمنِينَ {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} الرعد: 28.
وأيّ ذكر أعظم من الصلاة، المشتملة على عامة الأذكار وقراءة القرآن والخشوع والإخلاص، فالصَّلاةُ في الإسلام واحةٌ روحيةٌ يفيء إليها المسلمُ ليتفيأ ظلالها الوارف، فيجد فيها علاجاً لمشكلاته النفسية، ويتخلى بها عن هموم الحياة, وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعتبر الصّلاة راحة النَّفس وقرّة للعين، فعن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إِلَيَّ من الدُّنْيا النِّساءُ والطِّيبُ، وجعل قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلَاة»[ سنن النسائي، ومسند أحمد، والمستدرك].
وكان صلى الله عليه وسلم يعتبر الصلاة راحة للنفس، قال صلى الله عليه وسلم: «يا بِلَالُ أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ»[ سنن أبي داود4، ومسند أحمد، وشرح مشكل الآثار وغيرها]: أي روحنا إليها ونعمنا بها من الرُّوح والرَّاحة إليها، ويُقال: أرحنا بالشَّيء: أي روحنا وأرحنا منه: أي أسقطه عنا وخَفِّف عنّا منه، ولم يقل: أرحنا منها، كيف وقُرَّة عينه فيها.
وتعالج الصلاة الفراغ النفسي: فمما لا شّكّ فيه ولا ريب أنَّ الصلاة هي العلاج الجذري والمنهجي لما يشكو منه كثير من المربين والمصلحين مما وقع في صفوف الشباب والفتيات وهو ما يعرف بالعشق أو التعلُّق؛ لما فيها من كفاية حاجة القلب من المحبّة لله تعالى والتعلّق به، وتحقّق الراحة بذلك، وإيراثِ المخافة والخشية المانعة عن المحرم، فالصلاة تخرج المسلم عن غفلة قلبه، الذي هو الداء العظيم، قال الغَزَاليُّ في أيها الولد ص46: «الشقاوة علامته: اللسان المطلق بلا كفّ عن المحظورات، والقلب المطبق المملوء بالغفلة».
• الإسلام دين سماحة ويسر يراعي فطرة الإنسان ويلبّي احتياجاته النفسية والبدنية والذهنية بتوازن وشمولية واعتدال
• اعترف الإسلام بحق البدن في أخذ نصيبه من الراحة والاستجمام كما اعترف بحق الروح في نيل حظّها من الترويح والترفيه
• يجب على المسلم أن يضع نصب عينيه أن حُرِّيتَه تنتهي عندما تتجاوز حقوق الآخرين فلا يعتدي أثناء ترفهّه ولعبه على الناس
• من أشد الأمور خطورة في الترويح والترفيه الاختلاط بين الرِّجال والنِّساء وحينها لن يجد الشيطان بيئة أخصب ليقذف القلوب بسهامه
لقد أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يعين الفــرد المســلم على تحمــل مشــاق الحيـاة وصعــابــها، شــريــطــة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شيء من شرائع الإسلام، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة، والأصل في ذلك الحديث الذي يرويه حنظلة رضي الله عنه حيث يقول: ( لقيني أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: كيف أنت يا حنظلة ? قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول ? قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى وكأنّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال أبوبكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلـقت أنا وأبـو بكر الصديق حتى دخلنا علـى رســول الله صلى الله عليه وسلم، قلــت: نافــق حنظــلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك ? قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسيــنا كــثيـرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده أن لو تَدُومُون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طُرِقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات ). ولا شك أن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لتأثر نفس حنظلة رضي الله عنه المؤمنة وتقلبها بين مجالات الجد وأنماط العبادات من جهة، وبين متطلبات النفس من مرح وانبساط من جهة أخرى، هو اعتراف ودليل سماوي على اعتبار الترويح والترفيه، وأنه من كمالات النفس ولوازمها الأساسية لأداء حقوق الخالق والمخلوق. كما أكدت السنة مبدأ الترويح في الإسلام، ومن ذلك ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ? قال: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا ). وكذلك مما يؤكد على مراعاة الإسلام لمبدأ الترويح في حياة المسلم، الأثر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ( روحوا القلوب ساعة وساعة ). وفي الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم، دلالة على مراعاة الإسلام لحق النفس في الراحة، وإعطائها حقها من ذلك، طالما أنه ضمن الإطار الشرعي، وداخل الحدود المقبولة اجتماعيًا. والإســلام حـين يــقر الجانب الترويحي في حيـــاة المسلم، فهو ينطلق من مراعاته للفـطرة البشــرية، والغرائز التي أودعها الله في النفس البشرية، ويتعامل مع واقع الإنسان وظروفه، وليس معنى ذلك الرضا بواقع الإنسان أيًا كان، بل هو يراعي طبيعة الإنسان الضعيفة، وحقيقة واقعها اليومي والحياتي الذي تعيشه. والمنطلق الآخر الذي تنطلق منه مشروعية الترويح في الإسلام هو: شمولية هذا الدين بتشريعاته لجميع جوانب حياة الإنسان: الجسمية، والروحية، والعقلية، والنفسية، والاجتماعية، والغريزية، فالشمول أحد خصائص هذا الدين العظيم وميزاته. ومن هنا اعترف الإسلام، انطلاقًا من واقعيته وشموليته، بحق البدن في أخذ نصيبه من الراحة والاستجمام، كما اعترف بحق الروح في أن تنال حظها من الترويح والترفيه، ليقوي كل منهما الآخر على تحقيق العبودية لله بمعناها الشامل. ومما لا شك فيه أن الأصل في الترويح أن يتلازم مع وقت الفراغ ويمارس فيه، كما يجب أن يكونا متعادلين في الكمية، فلا يطغى أحدهما على الآخر.. فزيادة وقت الفراغ في حياة الإنسان وتركه دون استغلال يحوله إلى مشكلة، وزيادة الترويح على أوقات الفراغ يحوله إلى لهو ولعب. لذا نجد أن ( الإسلام يُقوِّم عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا بأنه أسمى وأغــلى من أن تضيع فقــراته بين لـهو عابث سخيف لا قيمة له، ولعب باطل لا يأتي من ورائه بمنفعة دنيوية عظيمة ولا أخروية نبيلة، فهو مسؤولية في عنق المسلم يحاسب عليه يوم القيامة ). وهذا ما جعل الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.. وكذا ما ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه في قوله: إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق. وهذا يعني أن الترويح يمكن أن يكون له بعد تعبدي إذا احتسبه الإنسان قربة لله، أو ليتقوى به على الطاعة.
ضوابط الترويح
يقول الدكتور أيمن محمد العمر الباحث في إدارة الإفتاء: ومع هذه الفسحة في الترويح عن النفس، ينبغي للمسلم أن لا يجعلها غاية له وهدفاً في هذه الحياة الدنيا، وأن لا يتخذها وسيلة ومطية لانتهاك حرمات الله، وتعدي حدود الشرع، وإنما عليه أن ينظر إليها كوسيلة لغاية عظمى وهدف أسمى ؛ هو بقاء الإنسان نشيطاً، ذا همّة وعطاء، من أجل بناء المجتمعات، وعمارة الأرض، وإقامة الشرع ؛ وفقاً للتوجيه الرباني الوارد في قوله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [الأنعام:162]. ومن هنا نعلم أن الترويح عن النفس لا بد أن ينضبط بضوابط الشَّرع وقواعده، ويُعرَضَ على مِيزانه؛ لضمان تحقيق أهدافه التي أبيح من أجلها، حتى لا يؤول إلى وسيلة لضياع الأوقات وهَدْر المُقدَّرات، والتَّرَدِّي في مَهاوي الخمول والكسل والانحراف، وإلا كان وبالاً وهلاكاً ؛ عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ) [رواه أحمد]؛ و(الشِّرَّة): النشاط والاندفاع والإقبال. و(الفَتْرة): من الفتور، وهو الضعف والوهن والكسل، ويمكن إجمال هذه الضوابط فيما يلي:
1- النية والاحتساب في الترويح:
من أهم ما تؤثر فيه النية المباحات والعادات؛ فإنها تتحول بالنية إلى عبادات وقربات؛ والترويح من جملة المباحات التي يثاب عليها الإنسان إذا نوى بها النشاط للطاعة والعبادة، وأداء الواجبات الدنيوية، وقد يأثم الإنسان عليها إذا قصد به الهروب من المسؤوليات، وتضييع الواجبات؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) [رواه مسلم]. وقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يحرصون على ذلك ويتعاهدون نياتهم في جميع أعمالهم ؛ فعن معاذ رضي الله عنه قال: «لكني أنام ثم أقوم فأقرأ، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» [رواه ابن حبان]، وعن زبيد اليامي رحمه الله قال: «إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء؛ حتى في الطعام والشراب»، وقال أيضاً: «انو في كل شيء تريده الخير، حتى خروجك إلى الكُناسة» [جامع العلوم والحكم]. فلا ينبغي للمسلم أن يغفل عن تلك اللحظات؛ فإنه يُسأل عنها يوم القيامة؛ لم فعله ؟ وما الذي قصد به.
2- اختيار جماعة الترويح:
يشعر الإنسان بمتعة أكبر وسعادة غامرة إذا كان ترويحه في رفقة أو صحبة من الناس، ونظراً لكون اللهو والمرح مما يشغل القلب عن أداء الواجبات والتكاليف؛ يحتاج المسلم إلى من يذكره بها؛ ولذا ينبغي أن يختار من الرُّفقة من يعينونه على الطاعة، ويحذرونه من المعصية؛ ممن يَقْدُرُ للدِّينِ قَدْرَه، ويَعرِفُ أنَّ للشَّرعِ حَدَّه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الضابط في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) [متفق عليه].
3- اختيار أوقات الترفيه: ينبغي للمسلم أن ينظم وقته بين العمل واللهو، والجد واللعب، فلا يعتدي على الوقت الذي هو حق لله تعالى؛ كوقت الصلوات المفروضة، أو أن يغفل عن ذكر الله في أوقات هو أحوج ما يكون فيها إلى القرب من ربه؛ كإهدار ساعات الليل كلها في السَّمر واللَّهو، فلا هو في نوافل العبادات قضاها، ولا لأمر واجب أحياها؛ وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَيَبِيتَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَشَرٍ وَبَطَرٍ وَلَعِبٍ وَلَهوٍ؛ فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، بِاسْتِحْلَالِهِمُ المَحَارِمَ وَاتِّخَاذِهِمُ القَيْنَاتِ، وَشُرْبِهِمُ الخَمْرَ، وَبَأَكْلِهِمُ الرِّبَا، وَلُبْسِهِمُ الحَرِيرَ) [رواه عبدالله في زوائده على المسند].
ومما ينبغي أن يجتنبه المسلم أيضاً التعدي على الأوقات التي تتعلق بأداء حقوق العباد؛ كالعمل الرسمي؛ فلا ينبغي أن يقضيه المسلم في الترفيه والترويح، تاركاً وراءه مسؤوليات أنيطت به من قبل المسؤولين، أو معاملات للمراجعين؛ فوقت العمل مرتبط بما التزم به الإنسان من عقود ومواثيق يجب الوفاء بها واحترامها؛ قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1].
4- اجتناب اختلاط الرجال بالنساء:
من أشد الأمور خطورة في الترويح والترفيه أن يكون في بيئة مختلطة بين الرِّجال والنِّساء؛ وتكمن خطورته فيما يصحبه من هزل وضحك وإسقاط تكلُّف، وحينها لن يجد الشيطان بيئة أخصب من تلك البيئة ليقذف القلوب بسهامه، ويسقطها في حبائل الفتنة التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ) [متفق عليه]. ولا يعني هذا أن ينعزل الرجل عن بقية أهله، أو المرأة عن محارمها في الترفيه والترويح؛ إنما عليهم أن يراعوا حرمات الله، كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنت تراه يُلاعِبُ أهله ويمازحهم ويروِّحُ عنهم، ولكن يفعل ذلك بكل خصوصية؛ فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يسابق زوجه عائشة رضي الله عنها، بعد أن يأمر الجيش بالمُضيِّ والسَّبق؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَقَدَّمُوا، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي: تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ؛ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَقَدَّمُوا، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقْتُهُ، فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: هَذِهِ بِتِلْكَ) [رواه أحمد].
5- أن لا يستهلك الترويح جُلَّ وقت المسلم: إن من أخطر الأمور في ممارسة الترفيه والترويح؛ أن يستهلك الإنسان كل وقته أو معظمه في اللهو والترفيه ؛ فهذه الأوقات يسأل عنها الإنسان يوم القيامة؛ كيف قضاها، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ) [رواه الترمذي]. فالوقت عند المسلم له قيمة، وهو يعلم أن ما ضاع منها سُدَى لا يَعُودُ، وأن ما يقضيه في الترويح والترفيه يهدف من ورائه مضاعفة الهمة والنشاط؛ لتعويض ما فات، وأن الحكمة والتَّعقُّلَ في استغلال الأوقات لا في إهدارها وتضييعها.
6- أن لا يكون في الترويح اعتداء على الآخرين:
لا ينبغي للمسلم أن يغفل عن هذه القضية المهمة، فيضع نصب عينيه، أن حُرِّيتَه ومُتعَتَه تنتهي عندما تتجاوز حقوق الآخرين؛ فلا ينبغي له أن يعتدي أثناء ترفهه ولعبه على الناس، سواء في مساكنهم، أو في طرقاتهم، أو حتى في أماكن ترويحهم، وهذا من أشد ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ آذَى المُسْلِمِينَ في طُرُقِهِمْ، وَجَبَتْ عَلَيهِ لَعْنَتُهُمْ) [رواه الطبراني في الكبير، بإسناد حسن].
وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى مراعاة حقوق الآخرين؛ حينما استأذنوه في الجلوس في الطرقات؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ. قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ) [متفق عليه].
7- أن تكون وسيلة الترويح مشروعة:
أما كون الوسيلة مشروعة ؛ فتأتي هذه المشروعية من وجهين:
الأول: أن تكون مباحة في ذاتها؛ بمعنى أنه لم يرد في الشرع الكريم نهيٌ عنها لذاتها، وإلا كانت ممنوعة؛ فلا يجوز للمسلم أن يترفَّه أو يلهو فيما ما حرّمه الله تعالى؛ كالضحك والسخرية من الآخرين، أو الاستهزاء بهم، أو ترويعهم، أو استعمال آلات اللهو والطرب للترويح عن النفس، أو اللهو بألعاب محرَّمة كالنرد والقمار، وغير ذلك مما وردت النصوص الشرعية بتحريمها.
الثاني: أن تكون الغاية -التي تستعمل لها الوسيلة المباحة- مشروعة أيضاً؛ ذلك أن الوسائل لها أحكام المقاصد؛ فالوسيلة وإن كانت مشروعة أو مباحة في ذاتها، وقصد بها التوصل إلى ما حرّم الله، كانت محرّمة تبعاً لمقصدها؛ فالسفر بحد ذاتها وسيلة مشروعة أو مباحة؛ فإن استعملها الإنسان في التوصل إلى طاعة الله؛ كأداء العمرة، أو صلة الأرحام، كانت السفر جائزاً ومشروعاً، أما إذا قصد الإنسان بسفره هذا ارتكاب المحرمات، وفعل المنكرات؛ كأن يسافر لفعل الفواحش وارتكاب المحارم، أو تسافر المرأة لتنزع حجابها وتظهر زينتها، كان السفر والحالة هذه ممنوعاً وغير مشروع؛ تبعاً للمقصد الذي استعمل لأجله.
الترويح في العهد النبوي
من يتأمل في صور الترويح في العهد النبوي يلحظ بجلاء أنه عمل على تحقيق جملة من الأهداف، يمكن إبراز أهمها من خلال ما يأتي:
* تنمية السرور في أوساط المجتمع: وهذا جلي؛ إذ يُسَرِّي الترويح النفس، ويبعد منها الكآبة، ويزيل عنها الهم والملل، ويدخل عليها السرور والبهجة، وكل ثنايا هذا الفصل شاهدة على تحقق ذلك في العهد النبوي.
* تعميق الجدية في المجتمع المسلم: إذ عملت البرامج الترويحية في العهد النبوي على تربية أفراد المجتمع المسلم وتهيئتهم لخدمة الإسلام، كالتدرب على المنازلة في الحرب، والرمي، وركوب الخيل.
وهذا واضح في: حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: ({وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي).
* التودد إلى الصحابة الكرام: ويظهر ذلك في مشاركته - صلى الله عليه وسلم - مع بعض أصحابه الكرام - رضي الله عنهم - في الرمي بالنبال، ففي حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه- قال: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان. قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لكم لا ترمون؟. قالوا: كيف نرمي وأنت معهم ؟، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارموا، فأنا معكم كلكم).
* تسلية الأهل وزيادة الترابط الاسري: ومن دلائل ذلك: ما جاء عن زوجه عائشة -رضي الله عنها- قالت: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فنزلنا منزلاً، فقال لها: تعالي حتى أُسابقك، قالت: فسابقته فسبقته. وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر، فنزلنا منزلاً، فقال: تعالي حتى أسابقك، قالت: فسبقني، فضرب بين كتفي وقال: هذه بتلك).
* إظهار فسحة الإسلام: إذ عمل الترويح في العهد النبوي على تجلية محاسن الإسلام وإبراز يسره وسماحته، ومن دلائل ذلك:
? حديث عائشة -رضي الله عنها- في لعب الحبش بالحراب في المسجد، أخبرت رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ: (لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة).
الصلاة والترويح عن النفس
الطمأنينة تكون بذكر الله، قال تعالى: {...ألا بذكر الله تطمئن القلوب} الرعد: 28، دون غيرِه من الأمور التي تميل إليها النفوس من الدنياويات، فالمعنى: أَلا بِذكر الله تسكن الْقُلُوب، وطمأنينة الْقلب بِزَوَال الشَّك منه واستقرار الْيَقِين فيه، فإِن قال قائل: أَلَيْسَ الله تعالى قال: {وجلت قلوبهم} الأنفال: 2، فكيف توجل وتطمئن فِي حالة واحدة؟ والْجَوَاب: أَن الوجل بِذكر الْوَعيد والْعِقَاب، والطمأنينة بِذكر الْوَعْد وَالثَّوَاب، فَكَأَنَّهَا توجل إِذا ذكر عدل الله وَشدَّة حسابه، وتطمئن إِذا ذكر فضل الله وكَرمه. وقوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} الرعد: 28: أَي تسكن قُلُوبهم بِذكر الله، وقيل: تستأنس قُلُوبهم بِذكر الله، والسكون بِالْيَقِينِ، والِاضْطِرَاب بِالشَّكِّ، قال الله تعالى فِي شَأْن الْمُشْركين: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الزمر: 45: أَي اضْطَرَبَتْ، وَقَالَ فِي الْمُؤمنِينَ {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} الرعد: 28.
وأيّ ذكر أعظم من الصلاة، المشتملة على عامة الأذكار وقراءة القرآن والخشوع والإخلاص، فالصَّلاةُ في الإسلام واحةٌ روحيةٌ يفيء إليها المسلمُ ليتفيأ ظلالها الوارف، فيجد فيها علاجاً لمشكلاته النفسية، ويتخلى بها عن هموم الحياة, وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعتبر الصّلاة راحة النَّفس وقرّة للعين، فعن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إِلَيَّ من الدُّنْيا النِّساءُ والطِّيبُ، وجعل قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلَاة»[ سنن النسائي، ومسند أحمد، والمستدرك].
وكان صلى الله عليه وسلم يعتبر الصلاة راحة للنفس، قال صلى الله عليه وسلم: «يا بِلَالُ أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ»[ سنن أبي داود4، ومسند أحمد، وشرح مشكل الآثار وغيرها]: أي روحنا إليها ونعمنا بها من الرُّوح والرَّاحة إليها، ويُقال: أرحنا بالشَّيء: أي روحنا وأرحنا منه: أي أسقطه عنا وخَفِّف عنّا منه، ولم يقل: أرحنا منها، كيف وقُرَّة عينه فيها.
وتعالج الصلاة الفراغ النفسي: فمما لا شّكّ فيه ولا ريب أنَّ الصلاة هي العلاج الجذري والمنهجي لما يشكو منه كثير من المربين والمصلحين مما وقع في صفوف الشباب والفتيات وهو ما يعرف بالعشق أو التعلُّق؛ لما فيها من كفاية حاجة القلب من المحبّة لله تعالى والتعلّق به، وتحقّق الراحة بذلك، وإيراثِ المخافة والخشية المانعة عن المحرم، فالصلاة تخرج المسلم عن غفلة قلبه، الذي هو الداء العظيم، قال الغَزَاليُّ في أيها الولد ص46: «الشقاوة علامته: اللسان المطلق بلا كفّ عن المحظورات، والقلب المطبق المملوء بالغفلة».
• الإسلام دين سماحة ويسر يراعي فطرة الإنسان ويلبّي احتياجاته النفسية والبدنية والذهنية بتوازن وشمولية واعتدال
• اعترف الإسلام بحق البدن في أخذ نصيبه من الراحة والاستجمام كما اعترف بحق الروح في نيل حظّها من الترويح والترفيه
• يجب على المسلم أن يضع نصب عينيه أن حُرِّيتَه تنتهي عندما تتجاوز حقوق الآخرين فلا يعتدي أثناء ترفهّه ولعبه على الناس
• من أشد الأمور خطورة في الترويح والترفيه الاختلاط بين الرِّجال والنِّساء وحينها لن يجد الشيطان بيئة أخصب ليقذف القلوب بسهامه