حديث / قوة الكباب!

تصغير
تكبير
تتشكل ملامح شخصية الإنسان- وبشكل رئيسي- انطلاقاً من طريقة تفكيره والتي يترجمها المرء عبر جوارحه إلى سلوكيات وأفعال. هذه السلوكيات، وبحكم مرور الزمن والتزام المرء في ممارستها فإن منها شيئا كبيرا يتكرر ونطلق عليها اسم «العادات»، فعندما نمعن النظر في أنفسنا وتحديداً تصرفاتنا واستجاباتنا لأي انفعال نجد أنها وفي الغالب لا تنفك عن ارتباطها مع هذا المفهوم... العادة، حيث تتحكم العادات بشكل كبير في قراراتنا اليومية، وقد كشف بحث علمي نشر عام 2006 أن العادات تشكل ما يقارب 40 في المئة من قراراتنا وسلوكياتنا.

تلعب هذه القوة الضخمة دوراً مهماً في حياة المرء، من شأنها أن تغير مجرى حياته وبشكل جذري، وهي في قوتها تتخذ اتجاهين، إما اتجاه سلبي يقودك نحو سبل المهالك، أو اتجاه إيجابي يقودك نحو الفلاح، وسواء أكانت هذه العادات سلبية أم إيجابية فإن المرء واستناداً لقوة الإرادة بإمكانه تغييرها، من خلال الاستمرارية والممارسة في اتجاه مغاير يخالف العادة السابقة!، وبطبيعة الحال دائماً ما يجد الإنسان صعوبة لاسيما في البداية من أجل الثورة على الذات وتغيير هذا التطبع وتكييف قوة العادة في الاتجاه الصحيح.


تتجذر العادات داخل النفس البشرية وتتخذ أوتادها بالتمدد وبعمق أكبر أثناء مرحلة الطفولة، وهذا بلا شك أمر خطير خصوصاً وأن الإنسان في هذه المرحلة يتخذ دور المتلقي للتأثيرات المختلفة من حوله، ولا يمكنه في كثير من الأحيان اختيار ما يريده لأنه في هذه المرحلة سيكون موجهاً من قبل عوامل مختلفة، فينشأ المرء على ذلك حتى إذا بلغ مبلغاً من الوعي عندها سيكون أمر هذه العادات موجها إليه وسيحاسب عليها، ولعل البلاء الأعظم الذي فاز من نجا منه هو أن يقع المرء منذ صغره في بيئة غرست فيه عادات سلبية نمت معه حتى بات من الصعب الانفكاك منها.

إن من آثار العادات السلبية أنها قد تحجب عنا الالتفات إلى الكثير من الأمور المهمة، فهي تجعلنا قابعين في كهوفنا المظلمة، تحجب عنا رؤية الأمور كما ينبغي، قد ترينا الأشياء بشكل مقلوب، وعلى غير حقيقتها!، إلى درجة أنه قد يصل من خلالها الإنسان إلى عدم تمييز حالته الآنية فيما لو كان يسير على هدى أو أنه يمضي في طريق الضلال، وفي غالب الأحيان توهمه هذه العادة السلبية بأن ما يقوم به فعل لا حرج فيه (تبرير غير منطقي)، لذا، وبسبب العادات السلبية قد نفقد الكثير من الفرص، ويضيع الوقت دون تحقيق أي هدف حقيقي، فعندما يتطبع الإنسان على فعل عادة سلبية ما، كالكسل والتسويف فإن ذلك من شأنه أن يقلب حياته رأساً على عقب، يرى فيها كل شيء في هذا الوجود قابل للتأجيل والتسويف حتى الموت، القدر الذي لا مفر منه!.

إنها عادات تنشأ باختيارنا الواعي، وأحياناً، من دون وعي!، لكننا دائماً نلحظ أن منشأ بعض هذه العادات السلبية يبدأ من مفهوم غير منطقي أو صورة ذهنية فسرها العقل بشكل خاطىء، وإذا ما استسلم الإنسان لها ووجدت فيه ثغرات وتخلخلات بسطت هذه العادات قوتها عليه وأخذت تتحكم فيه كيفما تشاء، وبسبب تكرارها فإنها تأخذ قدسية واحتراما واهتماما من قبل الإنسان وقد يتولد لديه بسبب ذلك انقلاب في العقل واقتناع بأن هذه العادة صحيحةلا إشكالية فيها!، والمصيبة الأكبر تكمن عندما يبني المرء أفكاراً ومعتقدات بناء على تأثره بهذه العادات!.

في كتابه: قوة العادة، طرح الكاتب والصحفي تشارلز دويج عدداً من الأمثلة والقصص التي صوبت السهام نحو هذا المعنى المهم في النفس البشرية، ومن أبرز تلك الأمثلة الطريفة التي لفتت انتباهي هو المثال الذي تحدث عن أثر الكباب في المظاهرات التي اعتاد عدد من المجاميع الشعبية العراقية تنظيمها رفضا للوجود الأميركي على العراق، فبعد أن فشلت المحاولات من جانب الطرف الأميركي في إيقاف هذه المظاهرات وجد الأميركيون من خلال مراقبة سلوك المظاهرات عاملاً مهماً كان سبباً في استمرارها، حيث وجدوا من خلال دراسة السلوك الذي اعتادت عليه المظاهرات ارتباطها بوجود بائعي الكباب المتجولين في الحي الذي اعتاد المتظاهرون التجمع فيه، وقد لاحظ الأميركيون أن المتظاهرين وبعد انتهائهم من الأعمال الاحتجاجية يذهبون فوراً إلى باعة الكباب المتجولين في الحي لتناول وجبة الكباب لتمدهم بالطاقة التي استهلكوها، الأميركيون استغلوا هذا الأمر وطلبوا من محافظ المنطقة أن يمنع بيع الكباب في هذا الحي، وبالفعل حدث ذلك وقد تسبب في قلة أعداد المتظاهرين يوماً بعد يوم حتى تلاشى وجودهم نهائياً!

بهذا تمكن الأميركان من إيجاد نقطة القوة التي كانت تشكل الوقود الذي كان يمد هؤلاء المتظاهرين في اعتيادهم على التظاهر، نعم إنها خطة أميركية شيطانية استوعبت علم النفس الاجتماعي جيداً ولاحظت عادات هذا المجتمع فاستطاعت أن تبلغ مرماها في القضاء على عادة المظاهرات بمساعدة قوة الكباب!... تأمل!.

عادات في المجتمع

إننا عندما نمعن النظر أكثر في مسألة العادة من خلال ملاحظتها على المستوى المجتمعي، نجد العجب الكثير!، إذ نرى أن هذا المعنى (تحديداً العادات السلبية) يكاد يتجسد في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، خصوصاً تلك العادات التي تلقاها الإنسان من محيطه المجتمعي، ومن المدرسة ومن وسائل الإعلام، ولعل أهم ما يتوجب علينا الإشارة إليه هو تلك العادات السلبية التي بسببها أبيدت مجاميع كبيرة من البشر وراح ضحيتها الأبرياء، فماذا عسانا أن نجني من ذلك الشحن الفكري المتطرف الذي تمت تعبئته في أذهاننا واعتدنا عليه منذ نعومة أظفارنا، ماذا عسانا أن نجني منه غير عاهات (عادات سلبية) كثيرة على مستوى التفكير وفلسفة رؤيتنا للطرف المخالف، فمن اعتاد على الحقد والكراهية لا شك أنه يصعب عليه أن يبصر مفهوم الحب والتعايش، ويصعب عليه أن ينصف الطرف الآخر.

لقد اعتدنا في مجتمعاتنا على العديد من المغالطات العقلية التي أثرت على سلوكياتنا، اعتدنا أن نبحث عن عيوب الآخرين وأن نسكت عن عيوبنا، واعتدنا أيضاً على أن ننظر إلى الأمور بنظرة أحادية التفكير ونخرج منها بنتيجة دائمة وهي أننا على الحق المطلق والطرف الآخر لا يمثل سوى الشر وهو الباطل المطلق، نهضم حقه ونستبيح دمه ونبذل أقصى جهدنا لإيذائه، ونلتف على القوانين أو حتى النصوص الدينية من أجل أن نجد مبرراً لعدائيته وتكفيره ومحوه من الوجود، دون أن نقيم وزناً للعدالة التي أمرنا بها القرآن ان نعدل ولو على انفسنا.. كما اعتدنا في تقييمنا للطرف الآخر على أن نتعرف عليه في الرجوع إلى ذواتنا، لا من خلال كتبه وتراثه، فننسج بخيالاتنا الواسعة عنه كذباً لا تطيقه الجبال، وبسبب ذلك اعتدنا وبسرعة البديهة على تكفير وإقصاء كل من يخالفنا حتى ولو كان الاختلاف معه في قضايا فرعية مع اتفاقنا معه في قضايا جوهرية.

إن الكراهية والعصبية الدينية والطائفية البغيضة عادات أعمت أعيننا، جعلتنا نرى الأمور بالمقلوب، حتى بات الإنسان متقلباً ليس لديه مقياس أو معيار محدد ينظر فيه، تجده في القضية الفلانية إنساناً يدافع عن الحقوق وكرامات الناس، وبشكل غريب تجده في قضية مشابهة لها في أسبابها ومنطلقاتها وآثارها، لكنه يتحول إلى كائن متوحش يدعو إلى قتل أخيه الإنسان وحرمانه من حقوقه، بل ويدعو إلى سحق كرامته.

إن من تأثيرات قوة العادة السلبية أنها قد تعطل أدوات المعرفة لدينا، وتسلمها بكاملها لتنتظر أوامر الآخرين وتوجيهاتهم، فاليوم عندما نلقي نظرة على الآراء والتوجهات الفكرية سواء الدينية أو حتى في عالم السياسة المتقلب والمتشرذم، فإننا نجد أن تلك الآراء لا تنفك عن اتباع وتسليم كامل لوجهة نظر ذاك الطرف أو تلك المجموعة من الناس، دون أن يتخذ الإنسان موقفه الخاص ورأيه المستقل، ودائماً يحاول المرء أن يبرر أفعال هذا الطرف أو ذاك حتى وإن خالفت الأخلاق وتجاوزت على مبادئ الإنسانية، ورغم هذه التبعية وعدم استقلالنا في إبداء آرائنا نعتقد أننا نتمتع بكامل إرادتنا وحريتنا، لكننا في الواقع نحن مجرد ببغاوات نردد ما يملى علينا من قبل القوى المزيفة.

نحن في حقيقة أمرنا لا نرى سوى صورة الحياة التي تنسجها القوى المزيفة لنا، فالبشرية على مر التاريخ تبرمجت وتأثرت نظرتها نحو الحياة نتيجة ما تقوم به هذه القوى في كل عصر من تحكم في مصيرها وسلب لإرادتها، حتى يصل المرء إلى قناعة تامة بأن هذه القوى هي من تتحكم فيه، في حياته وحتى مماته!، فتجد الإنسان العربي مبرمجا برمجة تامة في نزعته نحو هذه القوى أو تلك، يلتجأ إلى أحضانها لحمايته، أما الحياة الحقيقية التي خلقها الله فنحن بعيدون جداً عنها.

خاتمة

كما قلنا فيما سلف، ليس من السهل التخلص من هذه العادات، فهي متجذرة فينا منذ زمن بعيد وهي قابلة للاستمرار، إلا أننا إذا أردنا أن نحدث تغييراً فمن الجدير أن نبدأ أولاً بمراجعة للذات والتأمل فيها وتمحيصها جيداً من ترسبات متجذرة توارثناها من كابر عن كابر، ونزيلها من أنفسنا ثم ننظر إلى تراثنا وواقعنا وثقافتنا بعين البصيرة. نعم سنواجه صعوبة في التخلي عن عادات كنا نعتقد أنها قطع صحيحة لكننا مضطرون أن نلجأ إلى الحقيقة.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي