الرأي اليوم / النفاق في بلاط منع الاختلاط

تصغير
تكبير
عاش المجتمع الكويتي مئات السنين في أجواء محافظة وضمن معادلة مميزة مزجت بين التمسك بالتراث والتقاليد وخوض غمار الحداثة والعصرنة في الوقت نفسه... لكن هذا المجتمع ما شهد مزايدات كالتي شهدها في السنوات الماضية وكأننا في أوروبا العصور الوسطى حيث محاكم التفتيش وحملة مفاتيح الجنة.

سأتحدث اليوم عن قضية محددة، هي قضية منع الاختلاط بين الفتيات والفتيان في صفوف الدراسة الجامعية. موضوع شكل أولوية الأولويات لدى عدد كبير من النواب على امتداد المجالس السابقة إلى أن تم إقراره بقانون، وتمت ترجمة القانون إلى ورش بناء للفصل بين الجنسين في مختلف المعاهد والجامعات حتى أن مبنى كلية الطب في جامعة الشدادية تأخر إنجازه لأن المطلوب وفق القانون إنجاز مبنيين واحد للطلاب وآخر للطالبات.


سأبدأ بالنظرة النفسية – الاجتماعية لدى غالبية من أقروا القانون وهي نظرة منطلقة من فرضية أن الشاب والفتاة إن اجتمعا في صف جامعي واحد فقد يبدأ شيطان الجنس والإغواء تحركاته ويمكن أن يؤدي إلى ضعف فاستسلام فالوقوع في المحظور. لن أتوسع في الكلام عن علماء ودعاة جعلوا من الجنس هاجساً تفسيرياً للدين لكنني سأقول فقط إن حصر إنسانية الفتاة المسلمة أو الشاب المسلم بهذا الهاجس لهو انتقاص من كرامتهما بل هو الإساءة بعينها للعقيدة قبل أن يكون حماية لها.

الاختلاط في كل مكان، بدءاً من المنازل والأعمال والشوارع والأسواق والمقاهي والمطاعم والمستشفيات والمجمعات والحملات الانتخابية وانتهاء بأقدس مكان حول الكعبة المشرفة... إنما في الجامعة ممنوع. يمكن للطالب والطالبة أن يتمشيا معاً في ساحات الجامعة أو يجلسان معاً في كافتيريا الكلية ويستقلان معاً الباص الجامعي لتبادل الحديث أو تبادل المعلومات الدراسية، إنما الحصافة والحماية والوقاية تقتضي ألا يتواجدان في الصف نفسه خلال المحاضرة. وتخيلوا معي طبيباً يشرح عن الأمراض والفيروسات والبكتيريا والجراحة وفي الصف طالب وطالبة تلهمهما هذه المواضيع فيتحرك خيالهما نحو أمور أخرى تخترق المسموح له في الدين والشرع. هذا هو منطق الذين دفعوا في اتجاه إقرار قانون منع الاختلاط وهذا تبرير المشرعين لقانون في كويت القرن الواحد والعشرين.

ثم لماذا المزايدات بحجة الضرورات والمحظورات والأمر برمته فيه استهانة بل وإهانة لآدمية الطالبة والطالب ولأخلاقهما ولتربيتهما؟ هل هناك نقص في تربيتهما الدينية والأخلاقية وهناك «زود» في تربية من أقروا القانون؟ هل يحتاج ذوو الطلبة إلى نائب أو داعية أو عالم كي يفهمهم ضرورة التزام عيالهم بالأخلاق وكأنهم لم يربوهم على ذلك وينتظروا أحداً من الخارج ليفصل بين الجنسين عبر مبنيين؟ وهل التجاور في صف كلية الطب مثلاً يفتح شهية الخيال والوساوس الجنسية أكثر من المقاهي وأماكن العمل والأسواق والشوارع وووو...؟

أكثر من ذلك، لنستعرض أسماء أكثر الشخصيات والجهات تطرفاً في إقرار قانون منع الاختلاط في الجامعة، ولنسأل ما إذا كان أولاد هؤلاء من الذكور والإناث تابعوا أو يتابعون الآن تحصيلهم العلمي في جامعات أميركا وأوروبا، فالجامعات هناك مختلطة وكل شيء مباح داخل الجامعات وخارجها، لكن الأهل واثقون من تربيتهم لأبنائهم وأن البذرة الأخلاقية التي زرعوها فيهم تنبت التزاماً واحتراماً لإنسانيتهم ولمبادئ دينهم وشريعتهم وحرصاً على سمعتهم وسمعة ذويهم... فهل الاختلاط حلال عليهم في بلاد «الإفرنجة» وحرام في دولة مسلمة؟ وهل يجوز أن تتأخر مشاريع جامعية لأسباب عدة بينها سبب منع الاختلاط؟ وهل يصح أن تتكلف وزارة التعليم العالي أعباءً إضافية نتيجة الفصل بين الجنسين وما يترتب عليه من توزيع أكبر للحصص واستخدام عمالة أكثر وما قد يؤدي إليه من تجاوز للمعايير الاحترافية نتيجة الحاجة للجوء إلى أساتذة وإداريين أكثر قد لا يكونون بالضرورة من المؤهلين أو من الكفاءات؟.

طبعاً سيخرج المزايدون على أساس أن هذا الكلام فيه افتئات على الشرع والتشريع، وبعض هؤلاء المزايدين أولادهم يدرسون في الخارج. إنما آخر ما نحتاج إليه كمجتمع كويتي هو هذا النوع من الوصاية أو التخوين أو التشكيك، فقد عشنا مئات السنين تحت نفس مظلة القيم والمبادئ ولا أعتقد أن هناك أسرة كويتية تحتاج إلى من يعلمها كيف تربي أولادها، لكنه زمن المغاور الذي يراد لنا أن نعيشه قسراً بل زمن النفاق الذي يرتدي لبوس الدين وكأن هناك من يريد بعد تقسيم المجتمع إلى وطني وغير وطني أن يقسمه إلى مسلم وغير مسلم.

زمن النفاق... أقولها بكل تيقن، فمن ملأوا الدنيا ضجيجاً ضد حقوق المرأة السياسية ها هم في طليعة من يدافع عن هذه الحقوق أملاً في أصوات أكثر لمصلحتهم السياسية، ومن حرض الشباب على القتال في الخارج باسم الجهاد يعطي السلطات أسماء أولاده كي يمنعوهم من الالتحاق بالجهاد، ومن يقر قانون منع الاختلاط يرسل أولاده للدراسة في جامعات أوروبا وأميركا.

الموضوع سياسي بامتياز، ومربوط بين المصلحة والشعارات. تتحرك الأولى فتتحرك الثانية، لكننا أيضاً أحرار في رفض المصالح وكشف زيف الشعارات، ومصرّون على أن لا وصاية علينا إلا وصاية المبادئ السمحة في ديننا وقرآننا، ووصاية الدستور والقوانين، ووصاية ضمائرنا ومدى اجتهادنا في تربية أبنائنا بالطرق التي نراها «نحن» مناسبة ولائقة ومحترمة... لم نتدخل في شؤون أحد ونتمنى ألا يتدخل أحد في شؤوننا وأن يراجع هو مصالحه وشعاراته.

جاسم مرزوق بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي