عمار تقي / السودان وحرب لبنان وجرائم الأميركيين !

تصغير
تكبير

لا نبالغ إذا قلنا بأن الحرب التي خاضتها إسرائيل على لبنان في صيف العام 2006 هي حرب أميركية بامتياز! فالإدارة الأميركية كانت قد راهنت على تلك الحرب بإحداث «انقلاب» في خريطة الشرق الأوسط بعد أن أعلنت على لسان وزيرة خارجيتها كوندوليزا رايس بأن الشرق الأوسط الجديد سيولد من رحم لبنان! وبالفعل لعبت الولايات المتحدة دوراً غير مسبوق في تلك الحرب التي منيت فيها مع ربيبتها إسرائيل بخسارة تاريخية فادحة بعد النصر الاستراتيجي الكبير الذي حققه أبطال المقاومة الإسلامية في لبنان!

نعم، قد يدعي البعض أن الدعم الأميركي لإسرائيل ليس وليد حرب لبنان الثانية، وأن الولايات المتحدة كانت على الدوام الداعم الأساسي للكيان الصهيوني! هذا صحيح، فهذه ليست المرة الأولى التي تساند فيها أميركا إسرائيل، لكنها بلا شك المرة الأولى التي وقفت فيها واشنطن إلى جانب الكيان الصهيوني بالمدى الذي ذهبت إليه، وهو ما جعل الأمر (في واقع الحال) وكأن إسرائيل تخوض حرباً «بالوكالة»،عن أميركا، ضد المقاومة الإسلامية في لبنان بعد أن علقت آمالاً كبيرة على هذه الحرب بولادة شرق أوسط جديد!

يقول روني براط، الباحث الإسرائيلي في مركز يافا للدراسات الاستراتيجية، عن الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان: «لم يكن مفاجئاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة ضرورة النظر بأمر (حزب الله) ومعالجته في هذه الفترة الزمنية بالذات وأنه يجب أن تكون المعالجة أولاً قبل كل شيء جوهرية واستئصالية عسكرية، لأن ذلك لا يعتبر تبريراً لتقليص الجهود الحربية ضد إسرائيل فحسب، لأن الأميركيين يعتبرون هذا الحدث فرصة لإحداث تحول ومخاض جديدين للشرق الأوسط»!

اليوم، ونحن نعيش في رحاب الذكرى الثانية للانتصار الاستراتيجي الكبير الذي حققه «حزب الله» على أميركا وإسرائيل في يوليو 2006، دعونا نعود بالذاكرة قليلاً إلى الوراء وتحديدا إلى الـ 33 يوماً من أيام العدوان الإسرائيلي لنستعرض بعض مشاهد الدعم الأميركي لحرب لبنان!

في البداية دعونا نستحضر الذكرى الثانية لمجزرة «قانا الثانية»، والتي مثلت تجسيداً عملياً للشراكة الأميركية - الإسرائيلية في العدوان على لبنان! فبعد أعوام عشرة على مجزرة «قانا الأولى» عادت تلك البلدة الآمنة لتجد نفسها مع موعد دموي متجدد أقدمت عليه إسرائيل في الثلاثين من يوليو 2006 بعد أن فاقت تلك المجزرة المروعة والوحشية، والتي راح ضحيتها العشرات من الأطفال والنساء، المجازر الأخرى التي أقدمت عليها إسرائيل خلال عدوان يوليو! بعد وقوع هذه الجريمة البشعة والنكراء تقدمت مجموعة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بطلب إصدار بيان استنكاري إلى مجلس الأمن الدولي للتنديد بالمجزرة المروعة التي أقدمت عليها إسرائيل ودعوة المجتمع الدولي للتحقيق في تلك الجريمة. إلا أن الولايات المتحدة وقفت سداً منيعاً أمام صدور البيان، الأمر الذي جعل واشنطن تتحمل المسؤولية الكاملة عن تلك المجزرة البشعة إلى جانب إسرائيل!

أما بالنسبة إلى الدعم العسكري الذي قدمته واشنطن لتل أبيب، فصحيح أن القتلى والجرحى اللبنانيين سقطوا على يد القوات الإسرائيلية، إلا أن الأسلحة والطائرات والقنابل «الذكية» التي استخدمتها إسرائيل كانت جميعها أميركية الصنع! لا بل حتى وقود الطائرات التي استخدمتها إسرائيل في قصف وتدمير لبنان، جاءت مباشرة من واشنطن، إذ مازلنا نتذكر جيداً ذلك الجسر الأميركي الجوي الشهير الذي أنشئ على عجل أثناء فترة الحرب لتزويد إسرائيل بالوقود وأحدث أنواع الأسلحة «المحرمة دولياً» كقنابل الفسفور الأبيض القادرة على قتل كل كائن حي حولها بقطر 150 متراً، والقنابل الموجهة بالليزر من نوع  «GBU-28» (القادرة على اختراق الملاجئ والتحصينات تحت الأرض بعمق ستة أمتار)!

بالنسبة إلى الدعم السياسي، فالمراقبون يجمعون على أنه كان له الأثر الأكبر في استمرار الحرب! فقد شكل الضوء الأخضر الذي أضاءته واشنطن أمام إسرائيل فرصة ثمينة لهذه الأخيرة لتعربد كيفما تشاء على أرض لبنان، خصوصاً بعد أن أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش في اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي أن «من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها»! المصيبة أن الإدارة الأميركية لم تكتفِ بإعطاء الضوء الأخضر للقوات الإسرائيلية لتدمير لبنان، وإنما وقفت أيضاً في وجه جميع الجهود الدولية لوقف إطلاق النار بعد أن أعلنت وعلى لسان وزيرة خارجيتها كوندوليزا رايس أن «وقف إطلاق النار لا يشكل ضرورة ملحة الآن»! ولا ننسى في هذا السياق التصريح الشهير الذي أدلى به المندوب الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون لإحدى الصحف العبرية، والذي أثبت بالدليل الدامغ حجم الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل في حرب لبنان الثانية! فقد اعترف بولتون بأن الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في الصيف الماضي لم تحقق هدفها بإزالة تهديد «حزب الله»، وأن هذه الحرب كانت من أجل تغيير الظروف الاستراتيجية في المنطقة، وأن الولايات المتحدة قد عرقلت صدور قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب على لبنان لإعطاء القوات الإسرائيلية الفرصة الكافية للقضاء على «حزب الله»!

إذا كما ذكرنا في البداية بأن الحرب التي شنتها إسرائيل في صيف 2006 على لبنان هي حرب أميركية مع مرتبة الشرف، وأن جميع المجازر ومشاهد القتل والتدمير الذي لحق بلبنان كان بقرار أميركي، وهو ما يجعلنا نطرح التساؤل التالي: بما أن الإدارة الأميركية كانت المسؤولة المباشرة عن المجازر الوحشية التي أقدمت عليها إسرائيل في حرب لبنان الثانية، أليس من الأجدر تقديم قادة الإدارة الأميركية إلى المحاكمة؟

قبل أيام أصدر المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير (هي الأولى من نوعها بحق رئيس دولة مازال يمارس صلاحياته الرئاسية) بسبب تورط البشير، حسب ادعاء المدعي العام، في الجرائم التي ارتكبت في إقليم دارفور! لن ندخل هنا في سجال عن مدى صحة الاتهامات الموجهة إلى الرئيس السوداني من قبل المدعي العام، على أمل أن نأتي على هذا الموضوع في وقت آخر نتناول فيه الشأن السوداني، لكن ما هو مؤكد أن قضية توقيف البشير هي قضية «سياسية» بامتياز! وإلا فهناك العديد من الرؤساء والدول التي أقدمت على العديد من المجازر الوحشية، لكن المحكمة الجنائية لم تحرك ساكناً نحوهم! وخير مثال على ذلك، ما قامت به الإدارة الأميركية في أفغانستان والعراق وفلسطين المحتلة ولبنان، محور حديثنا! فالولايات المتحدة هي التي قدمت الغطاء السياسي لمنع إدانة إسرائيل من المجازر التي قامت بها ضد اللبنانيين، لكننا لم نسمع أن المحكمة الجنائية أصدرت أي إدانة للدور الأميركي! والولايات المتحدة هي التي أعطت الضوء الأخضر لاستمرار الحرب على لبنان التي سقط فيها ما يزيد على 1200 لبناني، ناهيك عن تدمير للبنى التحتية، لكننا لم نسمع عن أن المحكمة الجنائية طالبت بتقديم قادة الإدارة الأميركية إلى المحاكمة! والولايات المتحدة هي التي وفرت أحدث الأسلحة العسكرية لإسرائيل لتقتل وتدمر وتعربد في لبنان، لكننا لم نسمع عن أن المحكمة الجنائية طالبت بتوقيف قادة البيت الأبيض وتقديمهم للمحاكمة! الغريب في الأمر أن المحكمة الجنائية التي انتفضت بسبب «الجرائم» التي ارتكبت في دارفور، والتي طالبت باعتقال البشير بتهمة الضلوع فيها، لم نسمع أنها انتفضت لجريمة مجزرة «قانا 2» التي جرت بغطاء أميركي أمام مرأى ومسمع العالم كله وبالجرم المشهود، أو أنها طالبت باعتقال الرئيس الأميركي بتهمة توفير الدعم المباشر بمجزرة «قانا 2»!

خلاصة القول، ان الإدارة الأميركية تتحمل المسؤولية المباشرة عن الجرائم والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل بدم بارد في لبنان صيف العام 2006 كونها أعطت الضوء الأخضر للعدوان وزودته بأدوات الجريمة كافة، الأمر الذي يجعل منها شريكاً أصيلاً في الحرب على لبنان لا مجرد حليف! وعليه، إذا كان هناك من يستحق أن تصدر بحقه مذكرة توقيف، فمن الأولى أن تصدر بحق الإدارة الأميركية وقادتها!


عمار تقي


كاتب كويتي

[email protected]

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي