المدينة السورية تبكي دماً وتصرخ ... ولا مجيب

«آآآه»... «دوما»

تصغير
تكبير
• شبح «الكيماوي» ما زال مرعباً ... وأهلها يستهينون الموت على حياتهم الصعبة
... «آه». انها صرخة مدينة دوما السورية اليوم، في الغوطة الشرقية المحاصَرة التي ذاقت مُرّ السلاح الكيميائي، في مجزرة قُتل فيها المئات غالبيتهم من الأطفال نتيجة استخدام غاز السارين من قوات النظام خلال شهر اغسطس من العام 2013.

دوما اكبر مدينة في محافظة ريف دمشق، هي معلم سياحي شهير، لكنها مع اندلاع الثورة ضد نظام الرئيس بشار الاسد، عُرفت بكونها المدينة الاولى التي خرجت فيها تظاهرات شعبية دعماً لاهل درعا الذين انتفضوا لكرامتهم ودفاعاً عن اطفالها الذين خطوا شعارات التغيير الاولى.

الى شمال شرق العاصمة دمشق تقع دوما، وتبعد عن العاصمة 15 كيلومتراً، عدد سكانها 700 ألف وتهجر منهم نحو 300 ألف منذ بدء الحرب. سيطر عليها «الجيش السوري الحر» وتُعتبر اليوم معقل «جيش الاسلام» الذي يتزعمه زهران علوش، ومنها خُطفت الناشطة المدنية في الثورة رزان زيتوني مع ناشطين آخرين ما زال مصيرهم مجهولاً.

خلال الاسبوع الفائت تعرّضت دوما لقصف عنيف بالبراميل المتفجرة وراجمات الصورايخ، وتناقلت وسائل الاعلام العالمية صور الدمار الهائل الذي تَسببت فيه براميل النظام وصواريخه، وصور الضحايا الذين سالت دماؤهم على الارض الى حد ان مياه الأمطار الغريزة التي هطلت نتيجة المنخفض الجوي «يوهان» لم تستطع محو آثار «نهر الدم» في شوارع المدينة، حيث افادت التقارير عن سقوط ما لا يقل عن 141 ضحية في دوما وحدها منذ حملة القتل العشوائي التي بدأتها قوات الاسد على المدينة في 5 فبراير. وأظهرت الاحصاءات ان بين هؤلاء 19 طفلاً و20 امرأة و101 من المدنيين وعشرين مقاتلاً فقط. اما أعداد الجرحى فبلغت نحو 1000 غالبية إصاباتهم خطيرة. وبحسب الأطباء فان البتر هو علاج الأمر الواقع في ظل النقص في المستشفيات ومراكز العلاج.

في دوما يصلّي الناس من اجل ان تتجدد عواصف الشتاء حتى لا يعاود الطيران الحربي التابع للأسد غاراته المجنونة فيرهب الاهالي ويدفعهم الى ترك منازلهم في إطار سياسة «الارض المحروقة» التي يشبّهها سكان المدينة والغوطة الشرقية بما يتبعه الاسرائيليون.

نشطاء الثورة أطلقوا صرختهم للفت أنظار العالم الى المجزرة الجديدة التي يرتكبها نظام الأسد تحت عنوان «دوما تباد» وعكسوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي و«الهاشتاغ» مأساة المدنيين العزل ووضعوا صوراً تكشف هول الجرائم بحق الاطفال والمدنيين، كما نشروا صوراً تُظهِر انتشال الجرحى والقتلى الذين افترشت جثثهم الساحات والزواريب، مدينين بتعليقاتهم ما اعتبروه «صمت العالم أمام إرهاب الاسد»، ومتهمين دولاً بالشراكة في الجرائم التي يرتكبها.

وبحسب هؤلاء فان اي منطقة في المدينة لم تسلم من القصف الذي لم يوفّر الأحياء السكنية والنقاط الطبية وسيارات الإسعاف، حتى ان شوارع بكاملها تحوّلت ركاماً بينما بلغ عدد المنازل المدمرة أكثر من 500 لحق بها تدمير كامل وجزئي.

من جهته، الائتلاف الوطني السوري دان القصف الممهنج، مطلقاً الصوت لانقاذ دوما وداعياً لاعتبار ما حصل «جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية».

«الراي» اجرت اتصالا بنائب رئيس المجلس المحلي في دوما المهندس احمد طه وهو في الوقت نفسه رئيس مكتب الخارجية والاعلام، فأوضح «ان دوما معروفة بمعارضتها للنظام منذ ايام ثورة مارس 1963 وهي تعتمد في إدارة أعمالها الخدمية على المجلس المحلي الذي يتألف من 25 عضواً تم انتخابهم بطريقة الانتخابات التخصصية».

وفي رأيه ان هدف القصف العنيف «تركيع المدينة وضرب الحاضنة الشعبية للثورة»، مشيرا الى ان «الطيران الأسدي نفذ نحو 150 غارة جوية يومياً، بالإضافة إلى قصف المدينة بما يقارب 500 صاروخ أو قذيفة، وتنوعت هذه الصواريخ بين الفراغية والمظلية وكان بينها ما هو شديد الانفجار، علماً ان آخر استخدام لتلك الصواريخ حصل نهاية 2013 في بلدة حمورية بريف دمشق، وقد أصابت نحو 60 وحدة سكنية واستهدفت مدرستين وعدداً من المساجد، وراح ضحيتها 120 شهيداً موثقين بالأسماء، بالإضافة إلى مئات الجرحى».

وعن أبرز المهمات التي يقوم بها المجلس المحلي في دوما، لفت الى انه « يدير 20 مكتباً 10 منها خدَمي و 10 ادارية وبينها: خدمات عقارية من أجل توثيق كل الحركات العقارية من بيع وشراء وانتقال ملكية وهي تُسجل على السجلات النظامية التي كانت تملكها الدولة، وخدمات مدنية تتعلق بتوثيق حالات الزواج والطلاق والولادات والوفيات وهي توثق على السجلات النظامية التي كانت تملكها الدولة، وخدمات تتعلق بإزالة النفايات والردم الناتج عن القصف وأخرى ترتبط بصيانة الصرف الصحي، اضافة الى خدمات اغاثية وخدمات المقبرة والدفن وتقديم الدعم اللازم للمدارس والاشراف على صيانتها، من دون اغفال الخدمات الزراعية التي تشمل رش المبيدات الحشرية في المدينة والتنسيق مع الفلاحين وتقديم الدعم لهم».

ويشرح انه حالياً «يواجه المجلس المحلي صعوبات مادية بسبب قلة الموارد والدعم مقارنة مع حجم الأعباء الملقاة على عاتقه، وبشكل عام يعيش كل سكان الغوطة معاناة وضائقة مادية بسبب الحصار الجائر»، موضحاً ان «تأمين نواقص المواد الضرورية للعيش والخدمات صعب، اذ يُؤمن القليل عبر طرق غير شرعية، ولكن ضريبة الطرق غير الشرعية هي الغلاء الفاحش وغير مضبوط».

وعندما نسأله عما إذا كان هناك تجاوب من الحكومة الموقتة في تأمين المستلزمات الضرورية ولا سيما الصحية والوقود وما الى ذلك، يجيب بحسرة: «نعم تتجاوب معنا احياناً ببعض البيانات والشجب والاستنكار»، متسائلاً «كيف يمكن في رأيك حماية المناطق المحررة مثل دوما وخصوصاً اننا نشهد تحركات للنظام وحلفائه في حزب الله وغيره من اجل إخضاع هذه المناطق من جديد لسلطة الشبيحة وقوات الأسد ووضعها تحت عيون الحرس (الثوري) الإيراني وأحزابه؟».

ورداً على سؤال عن المسائل الانسانية، يشير الى عدد من الفيديوهات المؤلمة بينها شريط عن شخص كان يبكي تدمير منزله يوم الخميس ثم بكى افراد عائلته الذين فقدهم يوم الاثنين، وشريط آخر عن شخص دُفن في فناء بيته حياً وتم إنقاذه بعد عمل استمرّ لساعات طويلة، لكنه قال ايضاً: «أهمّ القصص اننا نخاف الصباح المشمس لأنه باختصار يعني ان الميغ ستذبح صفو هذا الصباح، ونحب العتمة والليل لأنه يبعد شبح الميغ».

وتشرح هبة الرحمن وهي معلّمة في مدرسة دوما وعضو في المجلس المحلي ـــــ مكتب المرأة، حال العائلات المحاصَرة وتقول «ان مشكلة غلاء الأسعار في المواد الغذائية تشكل معاناة كبيرة، فالغلاء لا يتناسب مع قدرات المواطنين في ظل حصار مستمر منذ عامين ونصف عام، كما ان الكهرباء مقطوعة منذ بداية الحصار. كامرأة بإمكانك ان تتخيلي منزلاً لا توجد فيه خدمة كهرباء، ما يعني ان كل الاعباء المنزلية تحولت الى العمل اليدوي من تنظيف وغسيل، اضافة الى ان المياه اصبحت حلماً في البيوتات التي كانت بداية تعتمد على التيار الكهربائي، والآن الأهالي يقومون بدفع بدَل اشتراك ساعة بالمولدات الكهربائية لتعبئة مياه للمنزل، علماً ان قسماً كبيراً من الاهالي لا يستطيع تحمل كلفة اشتراك الكهرباء. وبهدف حل المشكلة، قامت الجمعيات الاغاثية الموجودة في المدينة بتركيب كباسات المياه، وهذه الكباسات مهمتها رفع المياه من الآبار الى سطح الارض بالطريقة اليدوية، ولكنه حل مأسوي اذ تجدين العديد من الاطفال على طابور كباس المياه لتعبئة المياه لأهاليهم. وفي احدى المرات استهدف النظام كباساً للمياه براجمة صواريخ واستشهد أطفال بينهم ابن عمتي ماهر ذو الثلاثة عشر ربيعاً».

وتقول ان سعر المواد الاغاثية وجودتها مشكلة ايضاً «فهي ليست جيدة بشكل كامل حيث انه في العام الماضي استبدلنا مادة القمح بمادة علف الحيوانات وتجاوز سعر الكيلو الواحد 500 ليرة سورية».

وعندما نسألها عن المخاطر تقول: «عليك ان تتخيلي الصورة، يبدأ الصباح ومع كل إشراقة الشمس على دوما تبدأ طائرة الميغ قصفها واستهدافها للأحياء السكنية. احياناً تكتفي بغارة واحدة وأحياناً أخرى تنفذ أكثر من عشر غارات بحسب تعليمات النظام مخلفة وراءها الدمار والخراب والشهداء والجرحى. واضافة للطيران، هناك راجمات الصواريخ التي تقوم بتمشيط المدينة بشكل دائم، وايضاً هناك القناصون الموجودون على محاور المدينة والذين يحاولون قتل المدنيين بعياراتهم النارية، اضافة الى قذائف الهاون. حياتنا في خطر طوال الوقت، ولكن الناس سلّمت امرها لله وتجاوزت التدبيرات الأمنية. ودائما تسمع عبارة (ما بيموت الا يلي خالص عمرو) و(خلينا نموت احسن من عيشتنا)، فالناس لمرارة الحياة استهونوا الموت».

ورداً على سؤال حول المواقف التي تعرضت لها واثّرت فيها تجيب بـ «اووف» ثم تقول: «كثيرة جداً وأعجز عن ذكرها، وآخرها كان موقف لطفلة صغيرة تدعى مياس لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات، وكانت امها تعدّ لها الخبز الذي بذل أبوها كل ما يملك ليؤمن ثمنه وثمن الحطب لتخبزه والدتها، واذا بطائرة الميغ تلقي بصاروخها فيسقط على رأس هذه العائلة فتندفع الام وابنتها للغرفة المجاورة بسبب الضغط لتبدأ مياس بالصراخ «انا ما بدي شوف الضو انا بكره الضو». هذه الفتاة منذ اسبوع لا تغادر الغرفة التي سكنها اهلها بعدما دُمر بيتهم وتكره الشمس التي يحبها الاطفال. كما أذكر سناء التي لم تتجاوز الرابعة عشر ربيعاً وكانت من طالباتي في الصف السابع عندما كنت اعمل مدرسة، وكانت متفوقة وطموحة. وعندما ارتكب النظام مجزرة الكيماوي واثناء عملي في توثيق شهداء المجزرة وجدتُ صورتها وبكيتُ وباتت صورتها لا تفارقني. شاهدت عائلات بأكملها تموت وتُقتل ووجدتُ امهات يدفنّ ابناءهن الواحد تلو الاخر ورأيتُ اطفالاً ماتوا من نقص الغذاء والدواء وآخرون من البرد، فلم أعد ادري اي موقف بات يؤثر في نفسي أكثر».

بدوره يتحدث الدكتور فارس توما عن صعوبة العمل في المستشفيات في حالات القصف ويقول: «الصعوبة الأساسية هي في عدد الاصابات الكبير جداً. فمثلا في الحملة الجوية كان لدينا 975 جريحاً خلال 9 أيام، وهذا يتطلب جهوداً خارقة للنقل والإخلاء. وتبقى الصعوبة الأساسية في فرز وتصنيف الاصابات ووضع أولويات للارسال لغرف العمليات. نحن نعمل مثل الآلة، لدينا خبرات إخلاء خارقة بإمكانات ضعيفة، ونعتمد على الناس الذين يهبّون من كل مكان للمساعدة ونقل الجرحى حيث لا توجد سيارات إسعاف كافية».

ويقول لنا احد الاطباء المسؤولين في احد مشافي المدينة «ابو عدنان» ان «حاجات المستشفيات هنا كبيرة جداً ولا سيما ان هناك مستودعات خاصة بالعمل الطبي محاصَرة منذ اكثر من سنة، ونحن بحاجة الى أكياس الدم وهي محصورة بشكل رئيسي بوزارة الدفاع التابعة للنظام، وهناك نقص في السيرومات الملحية خصوصاً والمضادات الحيوية الضرورية ولا سيما اننا نعالج جروحاً كبيرة ملوثة وانسجة مهترئة ومهروسة، فالـسلحة الغريبة التي تُستخدم تنخر الانسجة كما اننا بحاجة الى ادوية الانعاش الرئوي وبحاجة الى «المميعات».

وعن هدف القصف الاخير، يقول ان «النظام يريد إفهام الناس ان المعارضة لا تستطيع ان تحميكم او تطعمكم وفيها فساد وانا عندي الأمن والأمان والغذاء الرخيص ومعي الكل يأخذ حقوقه. وللاسف هذه معادلة صحيحة، وهو من اجل ذلك يسعى لاخراج الناس من المناطق المحررة ويريد هجرة الكوادر وتفريغها في هذه المناطق، ومن ثم سيسعى الى اخراج المقاتلين. وفي السيناريو الثاني يريد ان يقلب الناس على الثورة وقادتها، وثالثاً يريد قتلنا والتخلص من شعبه».

اما الإعلامي ارام الدوماني فيشير الى «ان دوما هي من المدن الاولى التي ثارت ضدّ الأسد، ومنها انشقّ أضخم التشكيلات العسكرية في الجيش السوري وبينهم قيادات مثل قائد (جيش الاسلام) زهران علوش وقائد الاتحاد الاسلامي، وهي من المدن الاولى التي تحررت وتقع على اوتوستراد دمشق ــ حمص الدولي، وهو طريق شريان النظام»، ويضيف: «طبعاً ليست لدى النظام قدرة على اقتحام المدينة، وهو لذلك يقوم باستخدام آلة القتل على المدنيين. وقد اعتمد هذا الاسلوب في قمع الثورة السلمية والآن يستعمله مع الجيش الحر. والحملة الصاروخية الأخيرة تثبت ان النظام يريد ارضاً محروقة، فهو لا يريد زجّ قوات النخبة بمعركة على أطراف دمشق لأنه يحتفظ بها لحماية أمن دمشق فقط فيما يستهدف المدنيين عن بُعد بواسطة الطيران الحربي والمدفعية والصواريخ».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي