قوس قزح / مراتي مدير عام

| u062f. u0623u064au0645u0646 u0628u0643u0631 |
| د. أيمن بكر |
تصغير
تكبير
يبدو الوضع مربكا للمحللين الذين يرغبون في فهم مشكلات الشرق الأوسط مع تصاعد وتيرة العنف في المنطقة. يذهب الخبراء مذاهب شتى في محاولة تفسير الجذور الثقافية لتدهور الأحوال الذي أدى إلى انفجار عنف هو الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية، ما لا حظته هو سعي مرتبك لتفسير الأسباب القريبة للعنف والنعرات العنصرية والطائفية التي تجتاح المنطقة. ولكي لا يتحول هذا المقال إلى حلقة أخرى في مسلسل الارتباك العالمي حول ما يدور في منطقتنا سأقترح هنا تسليط الضوء على فيلم عربي مشهور أحسبه يسلط الضوء ساطعا على واحد من أسباب العنف والانهيار البادي على الثقافات العربية. الفيلم هو «مراتي مدير عام» من بطولة وإنتاج الفنان الراحل صلاح ذو الفقار، وتشاركه البطولة الفنانة شادية ومجموعة من نجوم السينما المصرية في ستينيات القرن الماضي.

ولمن لم يشاهد الفيلم يمكن تلخيص فكرته في أن الزواج السعيد بين البطلة والبطل يتعرض لمحنة حين تتم ترقية الزوجة إلى درجة «مدير عام»، ونقلها في الوقت نفسه لتمارس مهام عملها في الهيئة الحكومية التي يعمل فيها الزوج، أي إنها صارت مديرة له. يرتبك الزوج ويقرر أن يخفي عن زملائه في العمل أن المديرة الجديدة هي زوجته. الإخفاء يتيح للزوج أن يتعرف على ردود الأفعال التي يقوم بها مجتمع الموظفين تجاه المديرة/ الزوجة، ما يمثل ضغطا شديدا على أعصابه يصل مرحلة الانفجار حين يكتشف الموظفون أن زميلهم قضى ليلته في منزل المديرة الجديدة. ولأنهم يجهلون ظنوا أن هناك علاقة شائنة تجمع المديرة وزميلهم. هنا يضطر البطل لإعلان أن المديرة هي زوجته.

لا تنتهي المشكلات بل تزداد متخذة منحى آخر؛ إذ يكتسب البطل سلطة في أذهان زملائه ويلجأون إليه كي يتوسط لهم عند المدير العام.

السيناريو السابق يفتح الباب أمام كوميديا الموقف التي قدمها الفيلم بمنتهى الرقي وخفة الروح. لكن الأهم في ظني هو القضية الخطيرة التي يناقشها. لقد تم تقديم الزوجة بوصفها شخصا محبا مهتما بالزوج وبالعلاقة معه وكذلك الزوج، لكن الفرق أن الزوجة/ المرأة كانت أكثر تركيزا وتفوقا في مجال عملها الحكومي من الزوج/ الرجل، لذلك تمت ترقيتها بأسرع من زوجها لتصبح مديرة له بناء على معيار الكفاءة وحده. تكتمل قضية الفيلم بالمواجهة التي تحدث بين الزوجين في العمل أمام الموظفين حيث تقوم المديرة/ الزوجة/ المرأة بتعنيف المرؤوس/ الزوج/ الرجل وتوقيع الجزاء عليه أمام الموظفين.

يستشيط الزوج غضبا بسبب جرح كبريائه أمام الموظفين، الذين لم يتوانوا عن سكب الزيت على النار بتعليقاتهم وهمساتهم الساخرة، فيعود إلى البيت ليمارس سلطاته الذكورية الصاخبة على زوجته صارخا فيها بلا منطق ومفتعلا عددا من المشكلات التي تتقبلها هي بصبر عبر قالب كوميدي طريف. لكن المشكلات تستمر ويستمر تصاعد النعرة الذكورية لدى الزوج لدرجة أنه يهين الزوجة/ المديرة أمام جمع من الموظفين بسبب سوء تفاهم لم يكن لها يد فيه، ليظهر الذكر العنصري المتخلف بأوضح صوره حين ينعت زوجته بأنها يجب أن تكون مجرد خادمة تسهر على راحة زوجها.

هنا نصل لذروة المواجهة، حين تجلت أعمق افتراضات الفكر المتخلف الذي تلبسه الزوج في هذا المشهد.

يتم نقل الزوجة/ المديرة بناء على رغبتها إلى جهة حكومية أخرى، ويقيم الموظفون ما يشبه المأتم لرحيلها بعد أن أصبحت جهتهم الحكومية هي الأنجح في الوزارة بسبب جهد وكفاءة المديرة/ الزوجة.

حتى هذه اللحظة لم يعلن الفيلم عن تحيزه النهائي بعد: هل يقبل الزوج رحيل زوجته ليفض الاشتباك بينهما، أم تراه سيتراجع عن موقفه الذكوري العنصري معترفا بمعيار الكفاءة في الحكم بين البشر بغض النظر عن نوعهم الجنسي؟

ينكأ الفيلم جرحا ملتهبا لم أعرف أن السينما العربية قد تعرضت له بهذه الطريقة على الإطلاق، إنه يعري بصورة مستفزة النعرات الذكورية المستقرة في أعماق أعماق الثقافة العربية، خصوصا مع النهاية الفريدة للفيلم. لقد اعترف الزوج/ الرجل بعنصريته المقيتة، وقرر نتيجة لذلك أن ينتقل وراء زوجته للجهة التي ذهبت إليها ليصبح مرؤوسا لها بملء إرادته.

لقد قام الفيلم بتجريد الرجل من سلطاته الممنوحة له من قبل الثقافة لمجرد أنه ذكر، بل لقد تم منح كثير هذه السلطات للمرأة التي تثبت نجاحها المبهر في إدارة الحياة والسير بها نحو الأفضل. والأروع أن الرجل لم يجد في الاعتراف بكفاءة المرأة وتفوقها عليه ما ينتقص من رجولته. وسؤالي الآن: هل يمكن أن نبدأ من مثل هذه القضايا لمناقشة الانهيار الذي وصلنا إليه وفهم أسبابه؟
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي