الرأي اليوم / الحكومة... والرقابة المعدومة!

تصغير
تكبير
قضية متفجرة اسمها «التأمينات» لم تكن بالنسبة إلى «تجّار القضايا» أكثر من خبر في الصحف. لم تجرؤ ألسنتهم على لفظها. لم تأت حنجرتهم على ذكرها. لم يجد هؤلاء غير الحديث عن أمور أخرى صغيرة ومختلقة لتغطية صمتهم عن قصة هزت وتهز الكويت خصوصا عندما تواجههم قواعدهم بأسباب... صمتهم.

«تجار قضايا» الشأن العام لم يعودوا أولوية لنا ولغيرنا... حماية المال العام هي الأولوية، ولهذه الحماية بيت قضائي ومؤسسات هي الأقدر على تبيان الحق من الباطل، ولا شك في أن إحالة قضايا «التأمينات» على القضاء بتوجيه من أعلى سلطة في الدولة إنما يعكس توجهاً جديداً لا بد أن تواكبه الحكومة بكل تفاصيله... لكن القصة ليست هنا.


القصة قصة خلل مخيف في أجهزة المتابعة والرقابة في الدولة. ففي موضوع التأمينات مثلاً، غابت كل الدولة وحضر شخص واحد غيور مخلص اسمه فهد الراشد بقي يعمل بجهد فردي في الداخل والخارج كمن يحفر الصخر بإبرة إلى أن استطاع تحريك المؤسسات في الاتجاه الصحيح. قضية تحمل شبهة مخالفات كثيرة تقدر بالمليارات تبقى طي الكتمان ولمدة طويلة وتتعاقب عليها حكومات ومجالس ولا أحد يتوقف عندها أو يقترب منها أو يسأل عنها مجرد سؤال.

هذا هو الخلل الحقيقي الذي تعانيه الدولة الكويتية. غياب المتابعة والرقابة. البشر نفوسهم أمارة بكل شيء، من السيئ إلى الجيد، أما أجهزة الشفافية والرصد الإداري والمحاسبي والمتابعات المالية والتدقيقات فكلها غائبة، بل حتى المجالس «الثورية» التي انشغلت بقضايا انتخابية ومناطقية أو بلعب دور في تصفية الحسابات بين شيوخ وأقطاب ومتنفذين... كانت عند قضية التأمينات تبلع ألسنتها وتسكت حناجرها وتنوم ضمائرها، وكذلك كانت الحكومات تفعل إما عن جهل بخطورة ما يحصل، وإما مسايرة لمجلس لا يريد إثارة هذه القضية تحديداً، وإما عن غض نظر كي لا نقول عن تواطؤ، وإلا فما الذي يبرر هذا الصمت المخيف من الجميع كل هذه الفترة الطويلة؟

نظام الرقابة في المؤسسات يحتاج إلى نظام رقابة، ولا نقول يحتاج إلى نسف إذ يبدو أنه غير موجود سوى شكلي، وإلا فكيف يعقل أن تعبر قضية واحدة بإدارة واحدة لم تتغير لسنوات طويلة كل أجهزة الكشف من دون أن يطلق أي منها صافرة واحدة على وجود مخالفة؟

نقول هذا الكلام لأن إحالة التأمينات على النيابة لم يمض عليها سوى أيام قليلة حتى فاجأنا وزير المواصلات والبلدية عيسى الكندري بكلام أقرب إلى صرخة تحذير منه إلى تصريح، جاء فيه أنه خاطب ديوان المحاسبة والهيئة العامة لمكافحة الفساد لترشيح من يريانه مناسباً لمراقبة صفقة الخطوط الجوية الكويتية المليارية فاعتذر الديوان عن عدم استطاعته ذلك لأن القانون لا يسمح له برقابة سابقة بل لاحقة، كما اعتذر رئيس هيئة مكافحة الفساد لأن قانون الهيئة لا يسمح له.

نحن هنا أمام صفقات مليارية، والوزير يستنجد بهيئات الرقابة في الدولة لكن الاعتذار هو الإجابة التي تلقاها. وبعد ذلك من يدري فقد تشوب الصفقة أي شائبة ويتحمل المال العام ما يتحمله ثم يأتي من يفتح الملف فتفتح أبواب التحقيق، ويقال حصل هدر أو لم يحصل هدر، وربما تتم محاسبة أحد وربما لا تتم، لكن الواقع الفعلي أن المال العام المهدر لن يعود إلى خزانة الدولة.

ومن طائرات «الكويتية» إلى مخالفات «خليجي 16» حيث يتسلح النواب اليوم بتقرير ديوان المحاسبة الذي أقر بوجود تجاوزات تتعدى 4.5 مليون دينار وهو الأمر الذي كان يمكن تلافيه لو أن أجهزة الرقابة والمتابعة أوقفت الفساد من منبعه.

هذا هو الواقع. هكذا حصل منذ فترة الغزو وصولاً إلى قضايا التأمينات وشراء طائرات جديدة و«خليجي 16»، مروراً بالاستثمارات الخارجية والتخبط في قضية «داو كيميكال» وما رتبه من خسائر مليارية أيضا للخزينة، ناهيك بمشاريع داخلية حيوية ما زالت مغلقة للتحسينات. بعض الأمور انكشف وربما تم تحصيل جزء من المبالغ. بعضها الآخر انكشف ولم تستعد خزينة الدولة فلساً من الخسائر أو السرقات. بعضها لم ينكشف حتى الآن وقد يتم اكتشافه بعد سنوات كما يحصل في التأمينات والاستثمارات وبالتأكيد لن تسترد الخزائن شيئاً... فإلى متى السكوت؟.

إذا كانت بعض حقوق الجيل الحالي ضاعت بين الإهمال وظروف الغزو ومرحلة إعادة الإعمار والتوتر السياسي فإن للأجيال القادمة حقوقاً مقدسة أهمها صيانة المال العام وحفظ حرمته، وإذا كانت الحكومة تحركت في قضية التأمينات بتوجيه مباشر من صاحب السمو فإن عليها عدم الانتظار من أجل تفعيل الرقابة والمتابعة والمحاسبة على مختلف المشاريع والصفقات التي يشتم منها رائحة تنفيع وهدر مالي. عليها أن تتحرك الآن لأن الكويتيين لا يريدون أن يسمعوا بعد سنوات ناطقاً حكومياً يقول إن الدولة لن تتهاون مع المتجاوزين أو الذين تسببوا بهدر المال العام. أوقفوا ذلك من الآن من دون تصريحات عنترية بعد أن تقع «الفاس في الراس».

أما مجلس الأمة فعليه أن يدفع بقطار التشريع والرقابة إلى الأمام وبأقصى سرعة على السكك والممرات الدستورية والقانونية وأن ينسى التشبه بالحناجر الصادحة التي أثبت الزمن أنها غردت وصرخت وشتمت من أجل قضايا شخصية ولخدمة مطامع شخصية وشهوات سلطوية وعندما وصل الأمر إلى التأمينات... سكتت «شهرزاد الإرادة» عن الكلام المباح.

جاسم مرزوق بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي