بينما كنت أحدق بعيداً نحو «البلدة القديمة» المزدهرة والرائعة من هذه المدينة الأثرية سلوفينيا، والتي هي في الوقت الحالي عضو في الاتحاد الأوروبي، فقد بدا وكأنها قد ابتعدت كل البعد عن جمهورية يوغسلافيا، والتي كانت تشكل جزءاً منها لغاية العام 1991، عندما نالت سلوفينيا استقلالها بعد معركة قصيرة. وبالنسبة إلى التوترات الحاصلة بين صربيا وكوسوفو، وهما من البقايا الأخيرة من يوغسلافيا، فلم يكن الإحساس بها أشد عمقاً هنا من تلك التوترات القائمة في معظم الأنحاء الأخرى من الاتحاد الأوروبي.
قامت معظم دول الاتحاد الأوروبي بالاعتراف باستقلال كوسوفو، باستثناء إسبانيا وقليل من الدول. وسوف تقوم سلوفينيا بالاعتراف بشكل رسمي باستقلال كوسوفو، بينما هناك الكثيرون من مواطنيها، بما في ذلك غالبية الأفراد من ذوي التراث الصربي، سيبقون معارضين لذلك.
وهكذا، فإنه لأمر يدعو إلى السخرية إلى حد ما أن يكون الرئيس الحالي لمجلس الاتحاد الأوروبي، الذي يتم التناوب عليه كل ستة أشهر، هو رئيس سلوفينيا، التي كانت أول دولة من الدول الشيوعية السابقة تنضم إلى الاتحاد الأوروبي في العام 2004، والتي قامت أيضاً بتبني اليورو كعملة لها في بداية العام 2007.
وبموجب المقاييس كافة تقريباً، حققت سلوفينيا نجاحاً اقتصادياً خلال الأعوام الثمانية عشرة الأخيرة، وهي الآن تتمتع بدخل للفرد الواحد (حسب تكافؤ القوة الشرائية) يساوي تقريباً لدخل الفرد في أي دولة عادية في الاتحاد الأوروبي، ولما يقارب نسبة 60 في المئة مما يتمتع به الفرد الأميركي العادي!
ورغم نجاح سلوفينيا، فهي في الوقت الحالي تواجه الكثير من المشاكل نفسها المتواجدة في دول أكبر حجماً في الاتحاد الأوروبي. وعودة إلى العام 1991، فقد كان لدى سلوفينيا، الدولة الممتدة أمام ثنايا جبال الألب النمسوية، هدف يتمثل في أن تصبح «سويسرا مصغرة» بوجود ازدهار اقتصادي لديها وتحرر على المستوى الشخصي. ومع ذلك، وبمضي الأعوام العشرين الأخيرة، فإن النظام الاقتصادي في سلوفينيا يشبه ذلك الموجود في فرنسا بدرجة أكبر مما هو في سويسرا.
أما الموقف تجاه رأس المال الأجنبي فهو في أفضل الأحوال موقف مختلط، وهو في بعض الحالات يكون عدائياً بشكل صريح. فهناك الكثيرون من السياسيين السلوفينيين يجادلون، كما هو حال سياسيي فرنسا، بأن هناك «مصلحة وطنية» في إبقاء العديد من الشركات السلوفينية بعيدة عن الأيدي الأجنبية. ومثلها مثل الكثيرين في «أوروبا العجوز» فإن البطالة فيها ذات نسبة مرتفعة بشكل مزمن، بحيث تبلغ أكثر من 7 في المئة بسبب أسواق العمل الجامدة، وبسبب الممانعة في تسهيل الاستثمار بالنسبة إلى الشركات الأجنبية، وبسبب العوائق البيروقراطية والتنظيمية أمام تشكيل شركات جديدة.
ومن الممكن ملاحظة الفجوة «الفكرية» في الشد الحاصل بين الدول ذات المعدلات الضريبية المنخفضة في الاتحاد الأوروبي والمؤلفة بشكل أساسي من دول وسط وشرق أوروبا الشيوعية السابقة (ذات الضرائب الثابتة والمعدل الضريبي المنخفض المفروض على دخل الأفراد والشركات لديها)، وبين الدول ذات المعدلات الضريبية المرتفعة وأسواق العمل الجامدة ممثلة نموذجيا بألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا.
وفي الأسابيع الماضية، رأينا كيف أن هذه الفجوة قد لعبت دورها في نزاع جرى بنحو غير ملائم إلى حد ما بين ألمانيا وليشتنشتاين. فقد قامت الحكومة الألمانية، معتمدة بذلك على وجهة نظر واحدة، بدفع أتعاب أو رشاوى بلغت ملايين عدة من الدولارات إلى موظف سابق في بنك في ليشتنشتاين ليقوم بالإبلاغ عن مواطنين ألمان يحاولون التملص من دفع الضرائب الألمانية.
وبفعل تصرف الحكومة الألمانية، فقد أُصيب البعض في أوروبا بالرعب، مذكرين بأن قوانين سرية البنوك السويسرية الأصلية التي صدرت في أعوام الثلاثينات من القرن الماضي بهدف إبعاد «الغستابو» (البوليس السري النازي) عن تقديم رشاوى إلى موظفي بنوك سويسرية، وكان عدد قليل منهم (أي الموظفين) قد كشفوا عن ملكية الأموال الهاربة التي تم وضعها في هذه البنوك من قبل يهود ألمانيا وألمان آخرين كانوا معادين لهتلر. أما البعض الآخر في أوروبا فقد تحيزوا إلى جانب الألمان ضد ليشتنشتاين، مجادلين بأن من الخطأ أن يتم استخدام الشروط الخاصة بالسرية المالية لحماية أموال ضريبية هاربة.
ويقوم الألمان ودافعو ضرائب مرتفعة آخرون بتجاهل حقيقة أن بني البشر ينزعون بشكل طبيعي تماماً نحو نقل شركاتهم وأموالهم (وحتى أجسامهم!) من مناطق ذات معدلات ضريبية مرتفعة إلى مناطق ذات معدلات منخفضة. وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعل ولايات أميركية مثل تكساس وفلوريدا ونيفادا ونيوهامشر تنمو بسرعة أكبر من ولايات ذات معدلات ضريبية مرتفعة، مثل نيويورك ونيوجيرسي وكاليفورنيا.
وبما أن حرية حركة الأفراد والشركات تتسارع داخل الاتحاد الأوروبي وكذلك لدى الدول المجاورة له، فإن البلدان الدولانية (المنادية بتركيز السلطة الاقتصادية لتكون بيد الدولة) تسلك نهجاً يؤدي إلى أن تجد نفسها، وبشكل متزايد، محرومة وفي ظروف غير مواتية. فهل ستقوم هذه الدول باللجوء إلى ردود أفعال مشكوك فيها إلى حد ما من النوع الألماني، أم ستقوم باتخاذ إجراءات بناءة مثل خفض معدلات الضريبة الهدامة، كما فعل الإيرلنديون وتحرير أسواق العمل، كما فعل الدنماركيون؟
ريتشارد دبليو. ران
خبير اقتصادي في معهد كيتو في واشنطن، ومدير مؤسسات اقتصادية عدة بما في ذلك «المركز الأوروبي للنمو الاقتصادي» في النمسا، وهذا المقال برعاية «مصباح الحرية»
www.misbahalhurriyya.org