«الراي» تتحرى الأسباب التي تدفع شباباً في مقتبل العمر إلى ترك منازلهم والذهاب لـ «تفجير» أنفسهم

محلّة «المنكوبين»... بؤس وتطرّف و«قنابل بشرية»

تصغير
تكبير
«المنكوبين» هي المنطقة التي تقع شمال لبنان على أطراف مدينة البداوي ويمثل اسمها واقع أهلها الاجتماعي والاقتصادي... هي المحلّة التي يتداخل فيها الفقر مع التديّن وتعتمل فيها عناصر الاحتقان اللبناني السياسية كما المذهبية التي «تراكمت» منذ الـ 2005 والتي سرعان ما تشابكت مع الأزمة السورية التي تطايرت «شظاياها» في أكثر من اتجاه ولا سيما مع الانخراط اللبناني فيها سواء «المنظّم» و«الاستراتيجي» من «حزب الله» او بـ«المفرّق» من مجموعات غالبيتّها من الشمال.

هي من من أفقر الأحياء في طرابلس وأطرافها، ودخل الفرد فيها لا يتعدّى الـ 15 أو الـ20 ألف ليرة لبنانية يومياً كحد أقصى (أي ما يعادل 300 دولار أميركي في الشهر). هي التي «استقطبت» العدسات مع التفجير الانتحاري المزدوج الذي ضرب جبل محسن (ذات الغالبية العلوية) المجاوِرة في العاشر من الجاري (ادى الى سقوط 9 ضحايا و33 جريحاً) ونفّذه شابان من «المنكوبين» هما طه الخيال وبلال مرعيان.

هي المحلّة التي لم يفتح بؤسها العيون عليها، اذ أدير الظهر لـ «نكبتها» الاجتماعية التي تصيب أهلها الذين يناهز عددهم 6 آلاف نسمة يرزح 90 في المئة منهم تحت خط الفقر وصولاً الى قعره فيما الـ 10 في المئة الباقون يعيشون فوق هذا الخط بقليل... هي المنطقة التي «وُلدت» العام 1957 «على أنقاض» فيضانات نهر أبو علي في طرابلس لتكون ملاذاً موقتاً للنازحين والمنكوبين إلى حين عودتهم إلى بيوتهم التي جرفتها السيول، لكنها شهدت موجة نزوح لسكان الأرياف الذين استقروا فيها حتى اليوم.

هي منطقة «البؤساء» التي يتحدّر غالبية سكانها من قرى وبلدات عكار والضنية والمنية الذين لجأوا إلى طرابلس بحثاً عن ضوءٍ في «آخر نفق» العوز، فاذا بهم يقبعون على «رفّ النسيان» ويقعون «فريسة» الإهمال المتمادي الذي محا اي «أثر» لمعالم الحياة في محلّةٍ «يَكتب» كل شيء فيها قصة حرمان وتهميش وحكاية «تهشيم» اجتماعي لأجيال تكبر بعيداً من مدرسة لم تُنشأ في... «جمهورية الفقر».

هي «المنكوبين» التي عادت، ومعها طرابلس، بعد تفجير المقهى في جبل محسن، الذي اتضح ان منفذيْه ينتميان لحركة ارهابية يقودها المطلوبان للعدالة شادي المولوي وأسامة منصور، الى «قفص الاتّهام» بأنها «قندهار»، وهي التهمة التي غالباً ما تَداخلت فيها العوامل السياسية والمذهبية الداخلية بالاعتبارات الخارجية التي حوّلت عاصمة الشمال انطلاقاً من «خط تماس» جبل محسن - باب التبانة «خط اشتباك» اقليمياً على مدى أكثر من 20 جولة قتال (بين 2008 و2014) تخللها تفجير المسجدين (التقوى والسلام) في طرابلس الذي تُلاحَق فيه قضائياً مجموعة من جبل محسن.

هي المنطقة التي «رفدت» جولات «حرب» التبانة - جبل محسن بالمقاتلين، وكان اول «ظهور» إعلامي لها، شكّل «إنذاراً مبكراً» الى خطر ترْكها لحالها البائسة، العام 2012 بعد حادثة ما يعرف بمجموعة تلكلخ التي قتل فيها عدد من أبناء المنطقة في مكمن للجيش السوري على الحدود اللبنانية - السورية.

وقبل أشهر عادت «المنكوبين» الى دائرة الضوء وإن «الخافت»، مع ورود اسم احد أبنائها منذر الحسن الذي وُصف بأنه من أخطر الارهابيين المطلوبين للدولة اللبنانية، وقد اتُهم بتزويد الانتحارييْن السعودييْن عبد الرحمن بن ناصر الشنيفي وعلي إبراهيم الثويني بالأحزمة الناسفة التي فجّر الاول نفسه بأحدها خلال محاولة توقيفه في فندق «دو روي» في الروشة (جرى القاء القبض على الثاني)، قبل هروبه إلى مجمّع «سيتي كومبلكس» في طرابلس حيث مكث داخل شقة لفترة زمنية الى ان قُتل فيها بعد مداهمة القوى الأمنية لها. علماً ان الحسن كان يعيش في السويد مع أهله، إلا أنه عاد قبل 4 أعوام وانخرط في صفوف الأصوليين في المنطقة.

«الراي» قصدتْ «المنكوبين» وجالت في أرجائها وتحدّثت مع أهلها عن طبيعة الحياة فيها والأسباب التي تدفع شباباً في مقتبل العمر الى ترك منازلهم والذهاب لتفجير أنفسهم أو القتال خارج لبنان أو حتى في «معارك الزواريب» في طرابلس.

«الفقر، الحاجة، قلة فرص العمل»، أسباب رئيسية يتّفق عليها الجميع في «المنكوبين»، مؤكدين انها الدافع الأساسي لموت الطموح والعزيمة والأمل لدى المراهقين بشكل خاص والشباب بشكل عام «فلا يجد بعضهم سوى الموت عن طريق الشهادة المزيّفة للخلاص من بؤسهم».

ابن خالة الانتحاري طه الخيّال، أحمد الخيال يؤكد لـ «الراي» أن «العائلة بأكملها غير راضية إطلاقاً عما فعله طه، ولم نُقِم عزاء له، وحتى والدته تبرّأتْ منه، ولو كنا ندعمه ونوافق على جريمته لزرعنا الأحياء صوراً له ولزميله الانتحاري الثاني، وما فعله طه وبلال لا يمثّل أهل المنطقة، فـ 15 أو 20 في المئة من التكفيريين لا يشرّفنا وجودهم بيننا، فنحن فقراء ولدينا جهل كبير من ناحية التعليم ولكننا لسنا مجرمين».

ويؤكد أحمد الخيّال أن «عائلته وعدداً من شباب وأعيان المنكوبين ذهبوا للوقوف على خاطر أهل جبل محسن الذي لا يفصلنا عنه سوى شارع بسيط، وهذا الشارع لم يكن يوماً عائقاً أو حاجزاً بيننا وبين اهلنا العلويين في الجبل ولن يكون كذلك، وصحيح أن هناك مخاوف ونوعاً من الحذر بين الطرفين إلا أن هذا الإرهاب لن ينال من جيرتنا الأبدية».

كلام أحمد يكاد ان يكون لسان حال عدد كبير من أبناء «المنكوبين» فهم يخجلون من قباحة تصرفات بعض أبنائها ولا يوافقون على جعل الفقر والحرمان سبباً في قتل الآخرين ولكنهم يحملّون بعض رجالات الدين «الذين لا يفقهون بالشرع بتاتاً» مسؤولية التحكم بمساجد في المنطقة «وإجراء غسل دماغ للمراهقين الذي يصل سن أكبر شاب فيهم إلى الـ21 عاماً».

ولا يتوان سكان «المنكوبين» وأقارب الخيّال عن توجيه الاتهام الى السياسيين وممثلي طرابلس «الذين لو صرفوا الأموال والمساعدات في تحسين وضع المنطقة وإنشاء المدارس وتحسين الطرق لما وصل «الموس إلى الذقن» وقطع رأس البريء والجلاد على حد سواء».

أما الانتحاري الثاني بلال مرعيان (21 عاماً)، فيقول أحد جيرانه وهو من آل «جميل» إن الشاب «كان حديث التديّن وأبلغ قبل شهرين إحدى الفتيات من المنطقة وكانت تربطه بها علاقة حب أنه ذاهب للقتال في سورية وسيفجّر نفسه هناك وذلك بعدما رفض أهلها عقد خطوبته عليها كونه فقيرا وعاطلا عن العمل ولا يريدون توريط ابنتهم مع شاب لا يملك فلساً واحداً، وبالفعل ذهب إلى القلمون لفترة 8 أشهر تلقى خلالها التدريبات وعاد فجأة إلى لبنان ولكنه عاد... انتحارياً».

حاولت «الراي» التواصل مع والدة بلال لكن قيل لنا انها متعبة جداً ولم تعد ترغب في مقابلة أي صحافي، غير أن جارتها في الحي اكدت أن «ام بلال» أرملة منذ 5 سنوات وهي كانت تعمل في أحد معامل الحياكة وسط طرابلس لتعيل أبناءها الثلاثة، وبلال هو البكر بينهم وقد اختفى من المنطقة منذ سنة ولم تعرف عنه شيئاً، وبعدها علمت أنه يقاتل في سورية وكانت «صدمة عمرها».

مَن يراقب ويحصي أعمار الشباب الذين فجروا أنفسهم أو التحقوا بصفوف المسلحين في طرابلس يلفته أن أكبر شاب بينهم لم يتجاوز الـ21، وأصغرهم عمره 15 سنة، أي في سن لم تنضج شخصيته النفسية بعد، فذهنيته غير المكتملة تتقبل بخصوبة الأفكار «المسمومة» التي تغسل دماغه.

مختار المنطقة محمد صُبح يؤكد لـ «الراي» أنه وبجهد خاص منه «أنقذت أكثر من خمسة شبان من براثن الأصوليين في المنطقة، وساعدتهم للخروج من هذا النفق»، لكنه يتأسف لواقع مرير لن يتغيّر في ظل الفقر وقلة المدارس وفرص التعلّم وحتى العمل، ألا وهو «خروج الشباب من ظلمات التكفييرين ووقوعهم في براثن تعاطي الحبوب والمسكّرات، فهناك 100 شاب في المنطقة رهائن هذه الآفة الخطيرة التي تتفاقم وعلى الدولة والمعنيين من أثرياء طرابلس تحديداً إيجاد حل، ومن الحلول ايجاد مشاريع صغيرة لتشغيل الشباب العاطلين عن العمل، أما الأطفال فمن الواجب فتح مدارس لهم مجاناً، وحتى الكتب ينبغي ان يكون الحصول عليها مجانياً كي يتعلموا، وفي طرابلس أثرياء كثر ويمكنهم فعل ذلك ولكن على مَن تقرأ مزاميرك يا داوود».

جغرافياً تقع المنكوبين بمحاذاة «مخيّم البداوي» الشهير باحتوائه على أقطاب وأطياف حزبية مسلحة وفصائل فلسطينية متعددة. ليس ذلك فحسب فإن هذه المنطقة لا تبعد سوى أمتار قليلة عن مخيم نهر البارد الشهير، وتالياً فإن الموقع الإستراتيجي يسمح بكل سهولة بـ«تصدير مقاتلين». ولـ«تجهيز» هؤلاء يتم إغواؤهم بالحبوب لفقد الإدراك ثم تحريضهم على تفجير النفس في سورية أو داخل لبنان، بحسب بعض سكان المنكوبين الذين يشيرون الى انهم يرصدون حركة اختفاء عدد من الشباب الذين يذهبون إلى سورية ليتلقوا التدريبات، ومنهم مَن يقتل هناك وبعضهم يعود إلى لبنان وذلك كي ينفذ «مهمات»، وآخرها تفجيرا «جبل محسن».

أهالي المنكوبين وتحديداً أقارب الانتحارييْن، وأقارب بعض الشباب الآخرين المتوارين عن الأنظار منذ أشهر يوجهون أصابعهم ويتّهمون كلا من الشيخ محمد عبد الكريم إمام مسجد «النور» والشيخ محمد الحموي إمام مسجد «الرشيدي». وبحسب قولهم فإن داخل المسجديْن المذكورين يتم غسل أدمغة للذهاب والقتال في سورية.

وللوقوف عند رأي واحد من الشيخين تواصلنا مع إمام مسجد «النور» الذي جاء اسمه في الإعلام أكثر من مرة، فقال لـ «الراي»: «ما يقال عني وعن المسجد هو افتراء، نحن نعطيهم دروساً دينية ومن بينها دروس عن الشهادة والقتال لنصرة ديننا الحنيف، ومَن يقتلنا سنقتله ولن نتخاذل فهذا حقنا الشرعي والطبيعي، وما حصل ويحصل في سورية من النظام لا يمكن السكوت عنه فهو طاغية يريد بالمسلمين شراً وقام بهدم المساجد في حمص وحلب، ورمى القنابل على رؤوس الأطفال والنساء، وكل هذا تريدون أن نسكت عنه ونقف مكتوفين حياله؟».

ويتابع الشيخ عبد الكريم: «نحن نعطي الدروس لتوعيتهم وتحفيزهم على الجهاد، ولكن من يفجّر نفسه ليس منّا بل هناك يد ثالثة تعمل داخل هذه المناطق المحرومة من كل شيء، وبينها (المنكوبين)، وهناك قوى سياسية تابعة للنظام السوري في الشمال تعمل على توزيع المخدرات على هؤلاء الشباب وهي تختارهم من صفوة رواد المساجد كي تقول للرأي العام «انظروا المتدينين والمشايخ يشجعون على الإرهاب». وقبل أن تسألونا عن جبل محسن لماذا لا تكشفون من فجّر مسجديْ التقوى والسلام؟».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي